الجمود السياسي العراقي .. بين الاستثمار والتفعيل
عن القوى الدولية التي افرزها اللاعب الاقليمي وتأثيرها في المشهد العراقي، ودور الكيان الاسرائيلي المتسلل بين قوى اقليمية واحزاب محلية، كتب باحث بالشان السياسي (حسين شلوشي) مقالاً بعنوان (الجمود السياسي العراقي.. بين الاستثمار والتفعيل) وتناول في المقال، الح
حسين شلوشي
نتائج الانتخابات العراقية في تشرين 2021 وتمثلاتها في التجمعات والتكتلات البرلمانية، مثلت مشهداً تصعيدياً جديداً في المسار السياسي العراقي الذي انطلق منذ 2005 كأول تمظهر ديمقراطي للانتخابات في العراق، وذلك لأنها عكست بشكل واضح الاستراتيجيات المضمرة للقوى السياسية العراقية والفاعل الخارجي، ومراكز القوى التكتيكية فيه، ولا سيما في المحور الأميركي وهي جاءت متزامنة ايضاً مع استراتيجية اميركية جديدة قديمة بالاعتماد على الوكلاء والفواعل التابعة لها أو القريبة منها على اقل تقدير، بعد تخطيطها لتخفيض تواجدها في المنطقة.
اللاعب الاقليمي افرز ثلاث قوى دولية كبيرة مؤثرة في المشهد العراقي والرابع الأخبث المتمثل بالكيان الاسرائيلي المتسلل بين قوى اقليمية واحزاب محلية. القوى الاقليمية الكبرى تمثلت في جمهورية تركيا والجمهورية الاسلامية الايرانية ودول البترول الخليجية.
القوى الحزبية العراقية الرئيسية كلها تمركزت في العملية السياسية بقوة وحجم كبير على مستوى مؤسسات ادارة الدولة والجمهور والموارد الداعمة لها ذاتياً داخل العراق، بالرغم من الكمائن والمطبات السياسية والاقتصادية التي ارتقت الى عناوين الحرب التي تنفذها الولايات المتحدة الامريكية ومن يدور في فلكها وكلها عملت على استنزاف هذه القوى واستنزاف الدولة العراقية، وكانت هناك محطتان كبيرتان بارزتان في هذه الحروب، بعد الغزو والاحتلال، واحدة مثلت الحرب الصلبة في استخدام العنف وتجلت في ظهور داعش واعلانه دولة ممتدة من سوريا الى اطراف بغداد، كجزء من اعادة تقسيم المنطقة، والثانية الحرب الناعمة التي تموهت في تظاهرات تشرين 2019، وبين الحربين كانت هناك تضحيات ومنجز ونصر عظيم للشعب العراقي، في الحرب التي ادارتها الولايات المتحدة وحلفاؤها ونفذها داعش، ولذلك عندما جاءت الحرب الناعمة بعدها كان من اولى اهدافها القضاء على فرحة النصر واستثماراته وانعكاساتها السياسية في المشهد العراقي والمشهد العالمي ومصادرة هذا النصر ومحاولة تبديده داخل المجتمع العراقي وكبح القوى الشعبية والفصائلية والحزبية التي حققته واخراجها من القرار العراقي، وهذا مشروع مستمر ومتدحرج يتضخم يوماً بعد آخر وإن اختلفت آلياته المستخدمة بين العنف والارهاب او التمدد الثقافي، والتسلل السياسي والاجتماعي الى البيئة العراقية، وأن ما يساعد ويسهل هذا المشروع، هو تحول المنافسة السياسية الحزبية الى صراع منغمس في تكتيكات تكوير القوة على حساب الآخر وتحقيق طموحات الزعامة الكاريزمية التي من المفترض انها غير فاعلة في النظام الديمقراطي، وبديلها الفردية كما تقول ادبيات الليبرالية الامريكية المتشدقة بدمقرطة العالم.
النتائج الانتخابية تعرضت الى اعتراضات شديدة من بعض القوى السياسية ورافقتها تظاهرات رافضة لهذه النتائج وحدثت فيها مصادمات عنف بين المتظاهرين والقوى الامنية، الا أن هذه الاعتراضات لم تغير من واقع النتائج شيئاً، بالرغم من أن واقع الجمهور الذي انتخب (المتراجعين في عدد المقاعد النيابية) هو اكثر من التي فازت، فاندفعت القوى الفائزة بأعلى المقاعد متشبثة في غلتها واعتبرتها فرصة مضافة لرصيدها السياسي الخاص، وازاحة الآخر.
لتنتقل القوى الفائزة الى البرج العالي وتبدأ بفرض معادلتها الجديدة، وانتهت بالتحالف الثلاثي بين التيار الصدري الذي يقودة السيد مقتدى الصدر والحزب الديمقراطي الكوردستاني الذي يقوده مسعود البرزاني وقائمة تقدم التي اصبحت فيما بعد السيادة ورئيسها السيد محمد الحلبوسي، وبدت هذه المجموعة عجولة في توظيف النتائج للامساك بقمة الهرم الحكومي التنفيذي والتشريعي، والذي باستطاعته الهيمنة والتعديل في السلطة القضائية، وبهذه الصورة فهو مشهد مخيف للقوى السياسية الاخرى وينذر بدكتاتورية جديدة تفرض سطوتها وتفردها بكامل المشهد، فباشرت القوى الاخرى المتأثرة من هذا التحالف بتفعيل مصادر قوتها السياسية والقانونية والاعلامية والشعبية لمواجهة هذا المشروع، وبدأت بعرض وتفكيك المشروع الثلاثي أمام اطرافه المعنيين (التيار؛ الديمقراطي، السيادة) لتبين لهم أن حذف الآخرين أو التحكم بهم وبجمهورهم غير ممكن وغير مقبول، وطلبوا منهم اعادة قراءة المشهد وحفظ التوازن الشعبي والديموغرافي في العراق.
يتوقف المشهد بوتيرة سقف الاهداف والمطالب التي يطرحها التحالف الثلاثي، والاخرى التي يطرحها الاطار التنسيقي الشيعي وحلفاؤه.
يحاول التحالف الثلاثي أن يظهر متماسكاً قوياً لتمرير مشروعه ورؤيته إلا أنه يصطدم في الآليات الدستورية والقانونية التي تفرض عليه جمع ثلثي مجلس النواب لتحقيق جلسة كاملة النصاب ولم يتمكن من ذلك، ليبقى متوقفاً ويتعطل تشكيل حكومة كاملة الصلاحية تُلبي حاجة الشعب العراقي الذي يُعاني مشكلات مستديمة واخرى تفرضها الازمات المحلية والدولية في العالم، والثلاثي لا ينفك عن استثمار ذلك اعلامياً والقاء اللوم على قوى الاطار، والآخر يفند ويرد ويلقي الكُرة في ملعب الثلاثي ويتهمه بالاستتثمار في حاجات المجتمع والبلد لتمرير مشروع احتكار السلطة.
ولكن التحالف الثلاثي وبالرغم من الدفع الاعلامي والدعائي الذي يبرز تماسكه، فأنه لا يمكنه التماسك أو الاستمرار به إن وجد، لانه غير متجانس الرؤية السياسية التي تقود كل جزء منه، ولو اختزلنا الاسباب وتحدثنا في سؤال عن الكيان الاسرائيلي في هذه المنطقة وهل هو جزء من الحل أم هو المشكلة، أو جزء من المشكلة؟ وعند ذلك نرى أن الاجوبة ستكون على طرفي نقيض تماماً، وسينفرد السيد الصدر في اقصى اليمين مردداً (كلا كلا اسرائيل) وهذا الموقف يمثل عمقه الثقافي التعبوي الشعبي ولا يمكنه الانفكاك عنه، وهو ما يلقي بظلاله على السياسة الخارجية وبرنامج الحكومة المفترضة التي تنبثق من التحالف الثلاثي، بينما نجد الاطراف الاخرى من التحالف مرتكزة على البُعد الخارجي في المشاريع الاقتصادية والاجتماعية، ولا سيما مع دول التطبيع (تركيا والامارات) ولا نُريد أن نزيد ونُفصل في هذا الموضوع.
الامر الآخر يتعلق بالمكاسب التي حققها اقليم كردستان منذ 1991 الى اليوم وهي كبيرة وجوهرية في الحركة الكردية كقومية كبيرة في المنطقة، وأنها في هذا التحالف ستكون في مهب الريح، لأنها تصبح تحت الضغط الخارجي والضغط من داخل الاقليم، وهذا يدركه السيد البرزاني، وإن كان قد اندفع في تكتيك الضغط على الاطار التنسيقي الشيعي لتعظيم مكاسب آنية، فالعقل السياسي الاستراتيجي في الاقليم لا يسمح بتعظيم التهديدات على الاقليم.
أما بالنسبة للسيد محمد الحلبوسي فالموضوع مختلف عن الآخرين، ومشكلة الزعامة السنية والتفرد بها من دون الآخرين تنطوي على تهديدات تنسف طموحات الحلبوسي وتجعل من الطائفة السنية شرذمة متناثرة بين الجغرافيا التي تقطنها وما تحتويه من زعامات مجتمعية وسياسية، وإيديولوجيات قومية ودينية وطائفية، تتجاوز حسابات الحلبوسي التكتيكية في الهيمنة على القرار السني.
بذلك نرى أن اطراف التحالف الثلاثي وقعوا في شرك التكتيك السياسي لتعظيم المصالح الحزبية والكاريزمية، وأغفلوا الجوانب الثابتة الأهم، وهي تنقسم الى قسمين أساسيين، الاول الجوانب البنيوية في الدولة العراقية (الأرض وديموغرافية المجتمع)، والثاني هو آثار النظام الديمقراطي الذي يوسع دائرة التأثير الاجتماعي والسياسي، وهو أمر قد تنعكس نتائجه لاحقاً بدكتاتورية شيعية منفردة تتخطى الاغلبية السياسية لوحدها، دون الحاجة للتنوع العراقي الآخر السني والكردي والعودة من جديد الى خطاب الاستقصاء والتهميش وخطابات المناكفة السياسية، وهذا الآخر لا تريده القوى السياسية والشعبية، وهذا يعني بالنتيجة الاندفاع الى التفاهم العام بين اطراف الثلاثي والاطار التنسيقي، وتمديد زمن الاغلبية الوطنية لحين إنضاج رؤية ((حقوق المواطنة)) وانعكاسها في قوائم انتخابية جريئة، في كنف دولة مستقرة، وهذا مشروع طويل الأمد، يأتي بهذه العجالة دون تحقيق أرضيته الطبيعية وخارج حسابات المغالبة السياسية، وتعظيم الارباح الحزبية على حساب الآخر، وانما في ميدان التنافس لتقديم الافضل للمجتمع العراقي.