الحج قراءة سياسية في فكر الإمام الخميني

ركّزَ الإمام على أهم مقومات الحج، كما ركّز العلماء الآخرون عليه، لكنه تميّز أن فرّع من تلك المقومات الشرعية أبعاداً أبعدَ مدىً من المادة الفقهية والشرعية، فأقام أُسساً جديدة جمع من خلال المادة الفقهية بالحياة العملية للإنسان
على الرغم من أنّ الحج في الدين الإسلامي الحنيف واحد يتفق المسلمون على صُلبه ويختلفون في بعض تفاصيله، وأن المسلمين يؤدون مناسكهم في وقت واحد، ولكن المسلمين لا يفقهون كثيراً الأبعاد السياسية والثقافية والاجتماعية لركن الحج العظيم، إلاّ أنّ الإمام الخميني تفرّد بين أقرانه من العلماء برأيه المتميز في هذه الفريضة الإسلامية.
ركّزَ الإمام على أهم مقومات الحج، كما ركّز العلماء الآخرون عليه، لكنه تميّز أن فرّع من تلك المقومات الشرعية أبعاداً أبعدَ مدىً من المادة الفقهية والشرعية، فأقام أُسساً جديدة جمع من خلال المادة الفقهية بالحياة العملية للإنسان، فأخرج بذلك الحج من الفكرة النظرية المجردة إلى واقع عملي يعيشه الإنسان بكلّ جوارحه، وهذا الدَّور مارسهُ الأئمة من أهل البيت عليهم السلام، عندما كانوا يعتبرون الحج قاعدة حوار فكري وساحة تربوية ومدرسة علم ومعرفة لكل أبعاد الحياة وساحة صراع مع شياطين الإنس والجن، بل كانوا عليهم السلام يعتبرون الحج الساحة التي يريدون للأمة المسلمة أن تسير في خطّها الإسلامي المستقيم، في خطة توجيهية عملية شاملة .
إن الخطاب الإلهي واضح في بُعده الاجتماعي السياسي حين يأمر اللهُ نبيَّه الكريم (وأَذِّنْ في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كلِّ ضامرٍ يأتينَ من كلّ فجٍّ عميق).
وإن مفهوم الحج لدى الإمام الخميني يتضح في خطاباته لحجاج بيت الله الحرام، ففيها عن مفهوم الحج الروحي والثقافي والاقتصادي والسياسي على السواء، فقد وجَّه الإمام الخميني خطابات عديدة في هذا المجال ليُبيّن أنّ على الحاج أن يطهِّر نفسه ويُخلي قلبه من كلّ شيء إلاّ حُبَّ الله والطاعة والخضوع له، وأنه يجب عليه أن يربط روحه بمعبوده الواحد الأحد، فقد قال مُخاطباً الحجيج : "عندما تلفظون لبيك اللهم لبيك ، قولوا : لا، لجميع الأصنام، واصرخوا : لا ، لكلّ الطواغيت الكبار والصغار، وأثناء الطواف في حرم الله حيث يتجلى العشق الإلهي، اُخلوا قلوبكم من الآخرين، وطهِّروا أرواحكم من أي خوف لغير الله.
تبرّأوا من الأصنام الكبيرة والصغيرة والطواغيت وعملائهم وأزلامهم، من حيث إنّ الله تعالى ومحبّيه تبرَّوا منهم، وإنّ جميع أحرار العالم بريئون منهم وحين تلمسون الحجر الأسود اِعقدوا البيعة مع الله أن تكونوا أعداء لأعداء الله ورسوله والصالحين والأحرار، ومطيعين وعبيداً له، أينما كنتم وكيفما كنتم، لا تحنُوا رؤوسكم واطردوا الخوف من قلوبكم، واعلموا أنّ أعداء الله، وعلى رأسهم الشيطان، الأكبر جبناء، وإن كانوا متفوقين في قتل البشر وفي جرائمهم وجناياتهم .
وفي خطاب آخر يقول الإمام في حديثه للحجيج: "فكِّروا بآيات الله الحق، وفكِّروا بتخليص المحرومين والمستضعفين من براثن الاستكبار العالمي، واطلبوا من الحق تعالى في تلك المواقف الكريمة تحقيق سُبل النجاة".
ويركز الامام على المفهوم التربوي القرآني في تربية الذات للانطلاق في تربية المجتمع فيقول: "اِعلموا جميعاً أنّ البُعد السياسي والاجتماعي للحج لا يتحقق إلاّ بعد أن يتحقق البُعد المعنوي".
وكانت القضايا الكبرى للأمة حاضرةً في كل خطاباته، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. مبيناً فلسفة هذا الاجتماع الإسلامي الكبير حيث يقول: "هناك عوامل سياسية عديدة وراء عقد الاجتماعات والمجامع وخاصة اجتماع الحج القيم، والتي منها التعرف على المشاكل الأساسية والقضايا السياسية للإسلام والمسلمين، ولا يمكن ذلك إلّا باجتماع رجال الدين والمفكرين والملتزمين الزائرين لبيت الله الحرام، وبعرض وبتبادل الآراء لإيجاد الحلول، وفي العودة إلى البلدان الإسلامية يعرضونها في المجامع العامة ويسعون في رفع وحلّ مشاكلهم ".
وقد أسّس الإمام الخميني لخطاب الاستنهاض الإسلامي واضعاً إرشاداته الروحية والسياسية والاجتماعية كخطة عمل وبرنامج حلول لما بعد الحج، فيقول: "ماذا دهاكم يا مسلمي العالم، أنتم الذين استطعتم أن تُحطّموا القوى العظمى في صدر الإسلام مع قلة عددكم، وأوجدتُم الأمة الإسلامية الكبرى، واليوم مع ما يقارب من مليار نسمة وامتلاككم للثروات الكبيرة، التي هي أكبر حربة أمام الأعداء، أصبحتم هكذا أذلاء ضعفاء! هل تعلمون أنّ جميع مصائبكم ناشئة من الاختلاف والتفرقة بين رُؤساء بلادكم وبالتالي بينكم أنفسكم …. قوموا من أماكنكم واحملوا القرآن الكريم بأيديكم واخضعوا لأمر الله تعالى; لكي تُعيدوا مجد الإسلام العزيز وعظمته. تعالوا واستمعوا إلى موعظة واحدة من الله عندما يقول (قل إنّما أَعِظُكُم بواحدةٍ أنْ تقوموا للهِ مثنى وفُرادى) قوموا جميعاً لله قياماً فردياً لمواجهة جنود الشيطان في باطنكم وقياماً جماعياً أمام القوى الشيطانية"، "يا زوار بيت الله اتحدوا معاً في المواقف والمشاعر الإلهية، واطلبوا من الله تعالى غلَبة الإسلام والمسلمين ومستضعفي العالم أيها المسلمون وأيها المستضعفون في العالم تعاضدوا وتوجهوا إلى الله العظيم والجأوا إلى الإسلام وانتفضوا ضد المستكبرين ومنتهكي حقوق الشعوب ".