حيدر المياحي - رواية شاهد
هكذا ارتقى حيدر المياحي - رواية صديقه وزميله المصور الجريح حيدر محمد علي (بتصرف)
هكذا ارتقى حيدر المياحي - رواية صديقه وزميله المصور الجريح حيدر محمد علي (بتصرف)
إنها الموصل أخيراً، كان التفكير بالوصول إليها بذاته ضرباً من الخيال، ناهيك عن استعادتها وتطهيرها من البرابرة السود، لكن ذلك هو حال البعيدين، أما الحشد الشعبي فله حساباته وكلمته. السابع والعشرون من نيسان عام ألفين وسبعة عشر، منذ البارحة ونحن لا نزال نواصل تطهير ما تبقى من قضاء الحضر، المملكة التي سجلت بطولة للحشد لم يسبق لها مثيل، إذ لم تكن هنالك مواجهة قط، فما إن علم العدو الداعشي أن القوات القادمة هي قوات الحشد الشعبي، ولّى هارباً تاركاً كل شيء وراءه، المواقع والرايات المهترئة والمؤن وللأسف..عبوات الغدر.
في ظهر ذلك اليوم تمكنت القوات المحِّررة من اقتحام مدينة الحضر بعد تطويقها. كنتُ أنا -حيدر - ومعي كريم كاشخ وأحمد البديري برفقتهم نشكل فريقاً إعلامياً ضمن فرق عدة، نوثق النصر المؤزر، ونزف بشائر الظفر للعراقيين لحظة بلحظة. كان الدخول من ثلاثة محاور، وقد التقت كلها معاً تعلن القضاء والمدينة الأثرية مملكة نقيّة من دنس الإرهاب.
الأفراح تعمّ المكان، والضحك سروراً يملأ وجوه المقاتلين المتعبة المستبشرة، حتى بدا المشهد عرساً والكل معني به مباشرة، وراح يطلق العنان لنفسه لتعبّر عن تلك البهجة المخيمة.
شاهدت صديقي وزميلي ورفيق المهنة والقضية حيدر المياحي ومعه علي الماجدي، وكانا يشكّلان فريقاً آخر، فالتحقت بهما دون أن أعرف -رغم مرور ست سنوات- لماذا؟ لكن رجائي لو كان سبب ذلك هو أن الإرادة الإلهية شاءت أن يصيبني بعض ما أصاب قديساً مثل حيدر المياحي الذي كان يمازحني ويزيد، لكنه أخذ بعد ذلك يحدثني بمحبة ليمحو ما لمسه فيّ من ضجر.
دامت عملية تطهير الحضر ثلاثة أيام. في اليوم الأول كان المشهد ساكناً ولكن في اليوم التالي تعرضنا لهجوم بالسيارات المفخخة وقد تم تفجير ثلاث منها أمامي، أما البقية فقد عالجها طيران الجيش.
في اليوم الثالث صحا حيدر لكي يعد لنا الفطور وهو الأكبر سناً والقائد للفريق، لكنه السبّاق حتماً بالخلق والتواضع والدماثة. لقد كنت متشائماً مقبوض الفؤاد، إلا أن عزيمة حيدر كانت تفيض علينا عزيمة نحن أيضاً.
جرى حيدر أبو جعفر على عادة لازمته منذ بدء المعارك، أن يصعد بعد كل نصر ظهور الأبنية والأسطح العالية ويرفع العلم العراقي فوقها، وفي تلك الساعة كان حيدر يوشك أن يفعلها مجدداً مع هذا النصر الجديد، فاختار مبنى الكهرباء وكنا مطمئنين كون المبنى فارغاً مقلوع الأبواب، يسهل الدخول إليه والصعود فوقه، ناهيك عن أن أبا جعفر لم يكن مجرد مراسل بل كان مقاتلاً متمرساً أجرى دورات في الهندسة الميدانية، فدخل هو أولاً ممسكاً بمسدسه لتأمين المكان لنا ثم طلب منا أن ندخل.
دخلنا معاً وكنا نتحدث ونضحك وقد تقدمني نحو السُلّم المؤدي إلى السطح، فاستدار نحوي طالباً مني الماء فأعطيته قارورة كانت معي، شرب منها وارتوى وتبادلنا ابتسامة الصلح والود وتابعنا المسير، ولكن في لحظة مفاجأة رهيبة، شعرت أن الزمان تغيّر، والإدراك تعطّل تماماً إلا عن مشهد عاصف. موجة من النار والشظايا تدفعني بجنون عنيف وتقذفني وكاميرتي في دوامة عزلتني تماماً عن العالم، وكأنني أعيش مشهداً فيلمياً بطيئاً.
لم أعرف ماذا جرى بين لحظتي الإدراك، فبعد ذلك الانفجار بلحظات تعطل الشعور بما حولي، ولم أصحُ مجدداً إلا خارج المبنى، يجتاح أذني صوت الصديقين علي الماجدي وماهر الرماحي دون أن أقدر على استيعاب ما كانا يقولان لي. كانتا نبرتين معروفتين بلا كلمات مفهومة، اختلطت بالضوضاء في رأسي فتلاشت كليّاً. هنالك جاءت قوات من اللواء الثاني بعدما سمع الجميع دوي الانفجار فاستطعت أن ألمح رفيقي حيدر وهو في حال مأساوية محاطاً بمن يحاول إسعافه إلى إحدى المستشفيات، فيما تم إسعافي إلى مركز صحي داخل الحضر، وكان معي كريم كاشخ ومرتضى الفرطوسي، وفي ذلك الحين تناولت هاتفي لأرى جرحي وأسجل وصيتي بعدما أُصبت في الرأس بشدة وتعرضت أذني وأجفاني لحروق بالغة، ورغم ذلك كنا ننتظر خبراً عن حيدر، لكننا لم نسأل عبر جهاز الإرسال حرصاً على ابنه جعفر الذي كان بيننا من أن يصيبه فزع لحال أبيه.
تلقيت بعض الإسعافات والعلاجات السريعة، ثم توجهنا بعد حين إلى المستشفى الذي كان حيدر فيه داخل صالة العمليات، لكن حالته كانت خطرة للغاية، فطلبت مديرية الإعلام العامة أن يُنقل جواً إلى بغداد عبر طيران الجيش، لكن الطائرة التي حضرت لم تتمكن من الهبوط، فتم نقلنا بالسيارة بدلاً منها، وفي تلك اللحظات وبينما وجهي موجه مباشرة نحو فتحة الهواء البارد عسى أن تهدأ بعض آلام الحروق التي تنهشني، فاضت روح صديقي حيدر. لقد نجوت أنا وارتقى هو بعدما تلقى الشظايا عني. لقد كُتِب لي عمرٌ جديد، بينما أجله انقضى، والعلَم الذي اعتاد أن يرفعه فوق الأبنية، عاد في هذه المرة يعلو نعشه.
في بغداد تم نلقنا إلى مطار المثنى. الأحزان تملأ الوجوه، بل الوجود، لا ندري كيف نودّع حيدر كله، بخلقه وتاريخه وشجاعته ومروءته وشهامته، نودعه بحبّنا له، الحب الذي لن يخبو أبداً.
لم أحضر التشييع الذي يستحق، لقد أقفلوا عليّ الغرفة في مديريتنا خوفاً علي من تدهور حالتي الصحية، لكنني وإن لم أشارك في حمل تلك الجنازة فقد حملت له الذكرى والحب والوفاء والعهد بالمُضي على نهجه حتى يوم الملتقى.
#شبكة_انفو_بلس