أغنية أموية موروثة
إذا زرت المدن السورية في أيام العيدين السعيدين الفطر والأضحى ومررت على ساحات اللعب الشعبية المكتظة بالصغار، فإنك سوف تسمع أغنية مأثورة يرددها الأطفال بمرح شديد تقول:
إذا زرت المدن السورية في أيام العيدين السعيدين الفطر والأضحى ومررت على ساحات اللعب الشعبية المكتظة بالصغار، فإنك سوف تسمع أغنية مأثورة يرددها الأطفال بمرح شديد تقول:
يا ولاد محارب
شدّوا القوالب
قوالب صيني
شغل الفنيني
علي ما مات
خلّف بنات
بناتو سود
متل القرود
أغنية يصدح الصغار بها ويجهلون معانيها فيما الكبار يعرفون ذلك ويكتمون.
وهذه واحدة من أغاني العصر الأموي التي ظلت متداولة ولم تندثر، لكن جرى عليها ما جرى من تحول لفظي بين الفصحى والعامية، وقد وجدها الشاميون ملائمة للأعياد والمناسبات الصاخبة، وهي منسوخة لبعض الأهازيج التي قيلت في مقتل الإمام الحسين وسبي عياله، وكان الشاميون يرددونها استهزاءً وشماتة وتشفيّاً بعد (نصرهم على آل علي بن أبي طالب) واستمرت على الألسن بعد تلك الأفراح العامة لسنوات وصارت تقليداً متّبعاً حتى اليوم.
فما هو معنى العبارات في تلك الأغنية؟
(يا ولاد محارب..شدوا القوالب)
تبدأ بعبارة التفاخر والتغنّي بجد معاوية (حرب بن أمية) فيخاطب المبتهجون بمشهد السبايا جنود يزيد ويسمونهم جميعاً أبناء حرب (الجد الأكبر ليزيد) ثم يدعونهم إلى المزيد من إيذاء عيال الحسين عبر شد الأغلال وقوالب السلاسل على أيديهم وأرجلهم.
ويبدو أن الأغلال كانت من صنع الصين التي اشتهرت آنذاك بصناعة الأقفال وأدوات التعذيب
.
(علي ما مات .. خلف بنات)
تقول العرب: (الذي خلّف ما مات) إشارة إلى استمرار النسب عبر أبنائه الذكور، فإذا لم يكن له ذكر عُدّ أبتر، وهذه أولى إشارات الاستهزاء والتهكم بقطع سلالة علي بن أبي طالب عندما قُتل أبناؤه وأحفاده (كما بلغ الشاميين) في كربلاء وبقي من نسله بناته السبايا، فعبّروا عن ذلك بأنه (ما مات لأنه خلف البنات) فهي عبارة ذات دلالتين، الشماتة بقطع السلالة من ناحية والتصغير لقدر الإمام "ع" بأنه (البنات كافيات له وزيادة) من ناحية ثانية.
(بناتو سود .. متل القرود)
ثم يأتي وصف النساء اللواتي تغيرت وجوههن من شمس الطريق اللافحة بقولهم (سود مثل القرود).
ليس الغرض محاسبة أهل زماننا، لكن يمكننا ونحن نقف أمام هذا التهكم المخزي للقربى بعد مرور هذه السنين، يمكننا أن نتخيل ما الذي تعرضوا له يومها بدعم وتمويل حكومي رسميين، نتخيل ماذا كانت تسمع زينب وباقي النساء العفيفات من بنات بيت الوحي نتخيل شعور زين العابدين وهو يرى حال هؤلاء النسوة.
لعل الرواة رحمونا عندما لم يخبرونا بكل ما جرى على السبايا حتى لو كانت نواياهم إخفاء مخازي تلك الأيام، إلا أن التفكر والنظر في القرائن يكفينا للوقوف أمام تلك الصورة الرهيبة، فمن فعل الفظائع في عاشوراء، لا يتوانى عن فعل وقول الفظائع في صفر.