حكاية المغول 6
في صيف العام 1251 تم تنصيب (مونكو خان) خاقان أعظم على الإمبراطورية المغولية, وكانت في أوجج نشاطها واستعدادها العسكري, لها النفوذ الأقوى في آسيا الوسطى بعد سقوط بكين والدولة الخوارزمية ومناطق شاسعة بأيديهم من قبل
في صيف العام 1251 تم تنصيب (مونكو خان) خاقان أعظم على الإمبراطورية المغولية, وكانت في أوجج نشاطها واستعدادها العسكري, لها النفوذ الأقوى في آسيا الوسطى بعد سقوط بكين والدولة الخوارزمية ومناطق شاسعة بأيديهم من قبل, فقرر الإمبراطور الجديد مع أخويه مواصلة مشروع جدهم (جنكيزخان) في تأسيس إمبراطورية مغولية واحدة تحكم العالم, فأرسل أخاه الأول (قوبيلاي) للاستيلاء على ما بقي من بلاد الصين وصولاً إلى بحر اليابان, والثاني (هولاكو) لفتح غربي إيران والعراق والشام ومصر. توجه هولاكو إلى معسكره ومكث عاماً كاملاً جمع فيه الجند والمعدات, وبعد تحركه كتب إلى عدد من الملوك والسلاطين يدعوهم إلى المساهمة في حملته ومده بالرجال والسلاح وإلا فسيجري عليهم ما سيجري على الإسماعيلية وقلاعهم, فأتاه بعضهم يحمل الهدايا وفروض الطاعة دفعاً للخطر وطمعاً بتثبيتهم في مناصبهم تحت سلطته. كان الهدف الأهم لهولاكو حصون الإسماعيلية المنيعة التي لم يتمكن أحد من اختراقها في جبال قزوين الوعرة, وبعد السيطرة على ما سبقها من مناطق بدأ حصاره وهجومه على مدنهم وقراهم حتى سقطت على يد قواته الواحدة تلو الأخرى, ثم واصل تقدمه مدمراً قلاعهم ومجبراً المتولين لها على هدمها والاستسلام, وارتكب مجازر لم يشهد لها التاريخ مثيلاً إلا ما ارتكبه جده جنكيزخان, حتى سقطت ألموت (عش العقاب) آخر القلاع وأكثرها تحصيناً وسيطر بذلك على معظم المناطق في إيران وبدأت أنظاره تتجه نحو بغداد.
كانت بغداد لا تمثل من العالم الإسلامي إلا الصفة الرمزية بعدما فقدت الدولة العباسية معظم أقاليمها وتحولت إلى دول مستقلة يحكمها سلالات متعقابة لا ترتبط ببغداد أو حكامها, وكان المستعصم بالله آخر أولئك الحكام العباسيين وكان ضعيف الشخصية غارقاً بالملذات مولعاً بالغناء والطرب وتربية الطيور وجمع الأموال, واتخذ من خبير الطيور ابن الدرنوس نديماً ثم عينه مستشاراً, وفي أيام تقدم المغول نحو الغرب واشتداد الخطر, استمع إلى مطربة فأعجب بلحنها, فسألها عنه فقالت له إنه لمعلمها الأرموي فأرسل في طلبه وحين ضرب على العود أعجب به وخصص له راتباً ضخماً.
أما الأحوال الإدارية فكانت الدولة غارقة بالفساد, وضباط القصر وكبار الموظفين منغمسون بالعمل وفق منافعهم الشخصية, خصوصاً بقايا الترك المسيطرين على مفاصل الدولة, بحيث لما أمر المستعصم لاحقاً بتشكيل قوة من الرماة لمواجهة التتار, وخصص لذلك مبلغاً كبيراً, ضاعت الأموال بين القادة الفاسدين ولم يُنفق من المبلغ إلا أقل من عشره لذلك الغرض. وكانت القوات المسلحة تحت إمرة الدويدار الصغير مجاهد الدين أيبك, ومعه زعيم التركمان سليمان شاه, وكلاهما في منافسة وخلاف شديدين مع وزير الدولة مؤيد الدين بن العلقمي وكان الأخير عربياً من الشيعة الإمامية, وقد ضعف الجيش بسبب إهمال الجند وقطع رواتبهم حتى تسرح كثير منهم وهاجر قسم إلى الشام وأخذ بعضهم يتسول في الشوارع وعند المساجد.
وأما الأحوال الاجتماعية فكانت متردية إلى الهاوية, وكثرت عصابات العيّارين والأوباش واللصوص والجريمة المنظمة وكان أكثر هؤلاء يرتبط سراً بالدويدار لاستخدامهم ورقة ضغط على الخليفة واستحصال الأموال من العامة فأصبح في مدة وجيزة صاحب شوكة. وكانت بغداد غارقة بالفتن خصوصاً المذهبية بين السنة والشيعة أو بين الحنابلة وسائر المذاهب الأخرى, كما كان الاضطراب والاقتتال مستمراً بين أهالي محلات المستعصمية والجعفري ودرب زاخي والقنويين وسوق المدرسة وأهل المشرعة وسفك بين هؤلاء دماء كثيرة, وفي منتصف سنة 1256 وقع شجار بين شاب من الكرخ مع آخر من محلة قطفتا (شارع حيفا حالياً) فقتل الشيعي الآخر السني, وهذا الجرم الجنائي يستدعي اعتقال القاتل ومعاقبته, لكن المنتفعين والقائمين أطنبوا في تحريض الخليفة وذم أهل الكرخ والشيعة حتى أخذوا أمراً بعقوبة جماعية, فهاجمت قوة من القصر ومعها عوام من الأهالي جانب الكرخ وقتلوا وأحرقوا وسبوا نساء علويات وعملوا المنكر.
في تلك الظروف المزرية كان هولاكو قد استقر في همذان يعد العدة للتقدم نحو بغداد وحين أرسل إلى المستعصم يدعوه للاستسلام قبل التحرك وكتب إليه: (فإذا أطاع الخليفة فليهدم الحصون ويردم الخنادق, ويسلم البلاد لابنه ويحضر لمقابلتنا, وإذا لم يرد الحضور فليحضر الوزير وسليمان شاه والدويدار). عرض الخليفة الأمر على الوزير ابن العلقمي وكان الأخير يعرف ماذا يعني العناد والمواجهة, إذ لا طاقة لبغداد في مواجهة فيالق هولاكو التي يفوق عديدها عشرين ضعفاً, والعالم أجمع سمع بما جرى على سمرقند وبخارى ومرو ونبسابور وبلخ وسائر المدن التي لم تحمها الأسوار ولا الدفاعات أمام قوة العدو, فاقترح ابن العلقمي قبول التفاوض وإرسال الهدايا النفيسة وفتح سبيل إلى التفاهم لتجنيب المدينة الكارثة والهلاك, لكن الدويدار وسليمان شاه ثارا ومنعا القيام بذلك واتهما ابن العلقمي بأنه يريد تسليم الدولة المسلمة وينتقم لحادثة الكرخ انتقاماً من أهل السنة, وأخذوا يحرضون الأهالي ويبثون الفتن فأشغلوا البلاد بالهامش عن المتن.
فكان ابن العلقمي يجول مردداً قول أبي فراس:
كيف يُرجى الصلاح من أمر قومٍ .. ضيعوا الحق فيه أي ضياعِ
فمطاع المقال غير سديدٍ .. وسديد المقال غير مطاعِ
يبدو أن قادة الجيش أدركوا أن هولاكو وإن كان يقرب العلماء والحكماء كما فعل مثلاً مع العالم الفلكي الإسماعيلي نصير الدين الطوسي, لن يحيط عفوه ورأفته بالجيش لا سيما قادته, ولن يبقي أحداً منهم حتى لو تم تسليم المدينة إلى سلطانه سلمياً, لذلك دخل الدويدار وسليمان شاه تلك المغامرة بعيداً دون مبالاة بما سيجري على المدينة وسكانها, ودون مراعاة لأرواح آلاف الأبرياء, لذلك ثارت ثائرة القادة وبدؤوا يشيعون في المدينة أن (الرافضي ابن العلقمي يريد تسليم بغداد للتتار انتقاماً من أهل السنة والجماعة), ووجه الدويدار جماعات اللصوص والقتلة لمراقبة مداخل ومخارج المدينة واعتقال أي وفد يرسله الخليفة, وبذلك قطعوا الطريق أمام التفاوض, فاعتبر هولاكو ذلك رداً بعدم قبول عرضه وإعلاناً للتحدي وبالتالي الحرب.
أرسل هولاكو أحد قادته (بايجو نويان) على رأس فيلق مدجج شارك فيه المتحالفون مع المغول وبينهم الكرج (سكان جورجيا حالياً) وهنا نشير إلى خطأ جسيم وفادح وقع فيه المؤرخون حين قرؤوا في كتاب الحوادث (ومعهم الكرج) ظنوا أنه يعني (الكرخ) وهو أحد جانبي بغداد سكنه الشيعة آنذاك, فقالوا إن سكان بغداد الشيعة تعاونوا مع المغول في إسقاط المدينة وإبادة أهلها السنة, فنسبوا تلك التهمة المشينة التي لازمتهم منذ مئات السنين, بسبب جهلهم في التحقيق والقراءة الدقيقة والتمعن في الجزئيات, رغم أن المغول عندما دخلوا بغداد أتوا على معظم سكانها دون تمييز بين سني أو شيعي.
اجتاز الجيش المغولي ناحية الإسحاقي شمالي بغداد, واضطر الجيش لملاقاته في معركة غير متكافأة, بل متهورة, فما معنى الخروج لملاقاة الجحافل المستعدة عدداً وعدة بجيش ضعيف منكسر مهمل غير التهلكة. وهذا ما جرى فعلاً فقد أبيد الجيش بصورة مأساوية وقُتل قادته شر قتلة.
ضرب المغول حصاراً خانقاً على بغداد وبدؤوا يرمون المدينة بالسهام, وليس في المدينة سوى مجموعات صغيرة من الجند وأصحاب الحمية من الأهالي, لكن المفاوضات المتأخرة عجلت بالنهاية الدامية, فعندما فتحت الأبواب لتسليم المدينة ظناً أن ذلك سوف ينفع, قام هولاكو بتقسيم المقاتلين إلى مجموعات وذبحهم عن آخرهم, وأطلق لجنوده اليد في القتل والنهب للمدينة. استمر القتل أياماً, ولم ينج إلا القليل من الناس, فقد أعطى هولاكو الأمان للمسيحيين إكراماً لزوجته المفضلة دوقوز التي تدين بالنصرانية وكذلك العلماء والخاصة من الناس, وتجدر الإشارة إلى أن مسيحيي بغداد آووا في الكنائس الكثير من المسلمين لحمايتهم, واختبأ قسم في أقنية الماء السفلية والسراديب ومات كثير منهم ودفن فيها, حتى تعفنت الجثث وخشي هولاكو من تفشي الوباء فأمر بوقف القتل وسمح بإزالة القتلى ودفنهم.
أما الخليفة المستعصم فعندما دخل هولاكو قصره وجده خاضعاً ذليلاً, فأمره بإحضار الذهب والأموال, وعندما فتح له الخزانة وزعها هولاكو على حاشيته وقال للمستعصم إنما أردت الذي تخفيه, فدلهم المستعصم على مخبأ تحت البركة جمع الأموال الموروثة جيلاً بعد آخر.
يقول رشيد الدين الهمذاني: إن ما جمعه بنو العباس خلال خمسة قرون من أموال أصبح غنيمة للمغول, فجمعوه وكدسوه حتى صار كأنه جبل على جبل, وسأل هولاكو الخليفة لما رأى كثرة أمواله (إذا كنت تعرف أن الذهب لا يؤكل فلم احتفظت به, ولم توزعه على جنودك حتى يصونوا لك ملكك الموروث من هجمات هذا الجيش المغير؟ ولمَ لمْ تحول تلك الأبواب الحديدية إلى سهام وتسرع إلى شاطئ نهر جيحون لتحول دون عبوري؟) فقال الخليفة: (هكذا تقدير الله) فرد هولاكو: (وما سوف يجري عليك إنما هو تقدير الله) انتهى كلام الهمذاني.
فأمر هولاكو أن يوضع المستعصم في سجادة وانهال عليه الجنود بالضرب حتى مات ركلاً.
وأما ابن العلقمي فرغم أنه لم يُقتل يومها, مات كمداً بعد مدة قصيرة.
لقد كانت بغداد ضحية حكومة فاسدة حتى النخاع, انشغل رموزها بجمع المال الحرام والسحت, وأهملوا أحوال الرعية ومصالحهم إلى أبعد الحدود, بل إنهم عموا عنها تماماً, وحتى لما بان الخطر ولاح التهديد مناصبهم الرفيعة التي ملكت عقولهم تماماً, لم يغيّروا نهجهم أو ينظروا إلى بعيد الأمور التي لم تكن خافية حتى على بسطاء الناس, ليس لأنهم كانوا جاهلين بها, لكن انغماسهم بالفساد والمنافسة على المناصب والامتيازات, بلغ عيونهم وآذانهم وملك جوارحهم كاملة, وجعلهم غير قادرين على خوض أمر غير ما هم فيه. أما العوام فرغم أنهم ليسوا معنيين بإدارة الدولة وأمور الجيش, لم ينظروا في ما بقي لهم من مصلحة, وانساقوا وراء الفتن التي خلقها المتسلطون ليجعلوا منهم أداة للسياسة. وحتى بعد زوال الفاجعة لم يتعظوا ويكتبوا للأجيال المقبلة ما جرى بصورة دقيقة متجردة, لكي لا يقعوا في الأخطاء نفسها, وأفسحوا المجال في ذلك للكتاب الطائفيين والحاقدين الذين لا تهمهم الحقيقة أكثر من خلق الافتراءات والأكاذيب على خصومهم, كنوع من الحرب الدعائية. إن ألم ذكرى سقوط بغداد والمذبحة الرهيبة التي حلت بأهلها, لا ينفصل عن ألم الجهل المسيطر فيها رغم هول الضربات التي تتلقاها, ليس في حوادث زوال الحكم العباسي وحسب, ولكنه جهل وسوء تقدير ملازمان في كل نكبة عبر العصور.
#شبكة_انفو_بلس