عن الطوفان بعد عامين بلُغة البيانات الثلاثية الأبعاد

كتب / سلام عادل

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، لم يكن العالم يدرك أن عملية “طوفان الأقصى” ستتجاوز حدود الحرب العسكرية، لتتحوّل إلى حدثٍ مفصلي يعيد رسم الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط، ويغيّر طبيعة العلاقة بين المقاومة وإسرائيل، بل وبين الجنوب والشمال في النظام الدولي.

ومنذ الأيام الأولى، انكشفت هشاشة “الأسطورة الأمنية الإسرائيلية” التي بُنيت خلال عقود، فاختراق المقاتلين لمنظومة التحصين المتطورة، وتنفيذهم عملية نوعية خلف الخطوط، شكّل صدمة غير مسبوقة لمؤسسات الأمن والاستخبارات في تل أبيب، وخلال الساعات الأولى فقط، قُتل أكثر من 1200 إسرائيلي وجُرح الآلاف، وتم أسر نحو 250 شخصاً، بينهم ضباط وجنود، ومع مرور الوقت، تبيّن أن إسرائيل لم تنجح في تحقيق حسمٍ عسكري رغم استخدامها أقصى درجات العنف على مدار 600 يوم، ما جعل غزة أطول ساحة حرب مفتوحة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.

ولم تبقَ نتائج “الطوفان” محصورة في غزة، ففي العامين اتسعت خطوط المواجهة لتشمل لبنان وسوريا والعراق واليمن وايران، وتوسعت سياسياً حتى سقطت صورة إسرائيل كـ “ديمقراطية نموذجية” بنظر الغرب، بعدما وُجّهت إليها اتهامات بالإبادة أمام محكمة العدل الدولية، وبدأت دول عديدة — من بوليفيا إلى كولومبيا وتركيا — بقطع علاقاتها أو تجميد تعاونها العسكري مع تل أبيب، وهو ما أكسب القوى المناهضة للهيمنة الأميركية — من إيران إلى روسيا والصين — زخماً إضافياً، وجعل “الطوفان” يُقرأ في بعض العواصم بوصفه بداية أفول مرحلة الأحادية القطبية، وصعود عصر جديد من التوازن الدولي.

وبلغت كلفة الحرب في إسرائيل أكثر من 60 مليار دولار، أي نحو 10٪ من ناتجها المحلي، وتراجعت الاستثمارات الأجنبية والسياحية بنسبة 80٪، وانخفض (الشيكل) أمام الدولار بأكثر من 15٪، وهذه جميعها مؤشرات على تحول الصراع إلى نزيف اقتصادي مستمر أثّر حتى على الأسواق العالمية، إذ ارتفعت أسعار الطاقة وازداد القلق في أوروبا من أزمة إمدادات جديدة، بينما فتحت الصين وروسيا قنوات تعاون أوسع مع دول المنطقة، صار يقرأ كتحوّل اقتصادي ناعم في موازين القوة.

وصحيح في غزة، أن عدد الشهداء تجاوز 69 ألفاً وفق تقديرات الأمم المتحدة، وتحوّلت أكثر من 190 ألف بناية إلى أنقاض، ولكن هذه المأساة، التي أرادتها إسرائيل وسيلة لترهيب الفلسطينيين، تحولت إلى وقود لإحياء الضمير العالمي، حيث خرجت مظاهرات في أكثر من 100 عاصمة، من واشنطن إلى جوهانسبرغ، فيما اهتزّت صورة الإعلام الغربي، الذي فقد احتكاره للرواية بعد أن فضحت وسائل التواصل حجم التزييف والتحيّز، وبهذا المعنى، كانت الهزيمة الأخلاقية لإسرائيل أحد أبرز وجوه النصر الرمزي للمقاومة.

ومن هنا يعتبر النصر في “طوفان الأقصى”، إن لم يكن عسكرياً صرفاً، صار يُعد تحوّلاً في الوعي السياسي والرمزي، يظهر ذلك في عودة القضية الفلسطينية بعد عقود من التهميش إلى صدارة النقاش الدولي، وتحوّل الحديث من “التطبيع” إلى “المساءلة”، حتى إن واشنطن لم تعد قادرة على تمرير قراراتها في مجلس الأمن بسهولة، ولم تعد إسرائيل تُعامل كدولة فوق القانون، فيما أصبح الحديث عن المقاومة جزءاً من لغة السياسة لا من قاموس الإرهاب، وهذه التحولات البطيئة والعميقة تمثل مكسباً استراتيجياً لا يقل أهمية عن أي إنجاز ميداني.

وقد يرى البعض أن الحديث عن “نصر” في ظل هذا الحجم من الدمار ضربٌ من التناقض، لكنّ التاريخ يعلمنا أن الهزيمة الحقيقية هي الاستسلام للواقع لا مقاومته، وطوفان الأقصى، رغم فداحة الثمن، نقل الصراع من حدود غزة إلى خرائط العالم، وخلق وعياً جديداً لدى الشعوب بأن ميزان القوة يمكن أن يهتزّ من أضعف نقطة، فهو نصر لم يُكتب بالحبر بعد، لكنه يتشكل في وعي الشعوب، وفي فقدان العدو لهيبته، وفي عودة فلسطين إلى مركز المشهد العالمي، ولعل هذا وحده كافٍ ليُقال إن الطوفان لم ينتهِ، بل بدأ لتوّه.