الإعفاءات الضريبية والكمركية في العراق.. مورِد اقتصادي غائب ومشروع دائم للفساد
انفوبلس/ تقارير
يفتقر العراق إلى حسابات رسمية دقيقة تبيّن حجم الإيرادات المالية من الضرائب، حيث تغيب الإحصائيات الرسمية التي تبيّن الأرقام الحقيقية لحجم العائدات الثابتة والمتغيّرة المتحصّلة من منافذ الجباية الضريبية، لا بل إن الفساد وصل إلى ذروته لتُعلن وزارة المالية العراقية عن إعفاء مدير هيئة الضرائب ومعاونه وعدد من المديرين من وظائفهم، على خلفية اختفاء مبالغ مالية كبيرة من العائدات.
وبيّنت وثيقة رسمية، صادرة عن وزارة المالية بتاريخ 15 سبتمبر/ أيلول 2022 نتائج لجنة التحقيق التي كشفت عدم سيطرة الهيئة على المبالغ المالية، فضلاً عن وجود خروقات إدارية أوصت بموجبها بإعفاء مدير عام الهيئة من منصبه.
*فساد الضرائب
تتنوع وسائل الفساد وهدر المال العام وسرقته في العراق، وفي مختلف القطاعات، إلا إن أبرز ملف تتراكم فيه شبهات الفساد وتنتشر فضائح حوله، هو قطاع الضرائب وما يتعلق بالتجارة الخارجية عمومًا.
ومن أبرز الملفات المشبوهة في التجارة الخارجية، هي المبيعات الكبيرة من العملة الصعبة بما لا يتناسب بشكل واضح مع حجم التجارة والاستيرادات، فضلا عن كمية الاستيرادات الخارجية التي تتراوح سنويا قرابة ٣٠ مليار دولار، فيما لا يحصل العراق إلا على ضرائب لثلث هذه الاستيرادات فقط، ولا تعلم شيئا عن الثلثين المتبقيين من الاستيرادات، لأسباب عديدة أولها دخول هذه البضائع من منافذ لا تسيطر عليها الدولة أو من خلال كردستان، فضلا عن أسباب أخرى تتمثل بالإعفاءات الضريبية، حيث تحوز عدد كبير من المؤسسات والشركات والدول على إعفاء من الضرائب ولا تأخذ الدولة أي ضرائب جرّاء دخول البضائع التابعة لهذه الجهات.
*الإعفاءات الضريبية.. علاوي يُطلق إشارات ويغادر سريعا
ويكتنف ملف الإعفاءات الضريبية شيئا كبيرا من الغموض، إلا إنه لم يغِب عن كلمات وإشارات وزير المالية المستقيل علي علاوي، ما يدل على أن ملف “الإعفاءات الضريبية” يقضم أموالا طائلة من الدولة ويلفّه الكثير من التزوير، حيث تحصل مؤسسات على إعفاءات ضريبية وهي لا تستحقها على سبيل المثال.
وبالرغم من أن علاوي قال في رسالة استقالته إنه “في الأسابيع القليلة الأولى من تولّينا المنصب، وأوقفنا مشاريع عديدة مشبوهة، وفحصنا بعناية جميع طلبات الإعفاءات الضريبية والكمركية”، الا ان عملية جديدة تؤكد أن الاعفاءات الضريبية تستفاد منها مؤسسات كثيرة من بينها “وهمية” حيث تقوم هذه الجهات بتسجيل مؤسساتها كمعامل معينة ولغرض تشجيع الصناعة المحلية، تحصل هذه المعامل على اعفاءات ضريبية مما يتيح لها استيراد سلع ومواد اولية بدون ضرائب بحجة استخدامها في عملها داخل المعمل، الا انها تقوم ببيعها فتزداد ارباحها كونها دخلت بلا ضريبة.
حيث كشفت هيئة المنافذ الحدودية العراقية عن ضبط عدد من المصانع الوهمية، قالت إن أصحابها حصلوا على إعفاءات جمركية وضريبية بمبالغ تصل إلى مليارات الدنانير.
وقالت هيئة المنافذ الحدودية العراقية في بيان لها، إنها “تمكنت من ضبط معامل ومصانع وهمية سبق أن استحصل أصحابها على إعفاءات جمركية وضريبية بشكل مخالف للضوابط”، مبينة أن “عملية ضبط المصانع تمت بعد استحصال قرار قضائي يتضمن الموافقة على الانتقال الى مكان وجود مجموعة من المصانع المزعومة للكشف على حقيقة وجودها”.
*إيرادات الكمارك 30% من المُفترض
لا توجد ارقام واضحة عن كمية الاموال التي يتكبدها العراق ولا يحصل عليها جراء منحه استثناءات واعفاءات ضريبية لعدد كبير من الجهات والمؤسسات والدول، الا ان في كلمات سابقة لوزير المالية المستقيل علي لعلاوي حول الورقة البيضاء اوضح أن “إيرادات العراق من المنافذ الحدودية هي اقل من 1٪ بسبب الاستثناءات الكبيرة والاعفاءات الممنوحة.”
وتبلغ ايرادات الكمارك 1 تريليون دينار كمعدل سنويًا، وبينما تكشف بيانات التخطيط ان العراق استورد بنحو 17 مليار دولار، الا ان مبيعات البنك المركزي لغرض الاستيراد في ذات العام بلغت اكثر من 40 مليار دولار، ما يعني ان ايرادات الكمارك يجب ان تكون قرابة 3 مليار دولار، الا انها لم تكن اكثر من 1.1 تريليون اي اقل من مليار دولار، اي ان ايرادات الكمارك اقل من المفترض باكثر من 70% .
وتُمنح الاعفاءات الضريبية بحسب (قانون الاستثمار رقم 13 لسنة 2006 وقانون الاستثمار الصناعي للقطاعين الخاص والمختلط رقم 20 لسنة 1998 وقانون المنظمات الحكومية رقم 12 لسنة 2010 و قانون إعفاء الشركات الأجنبية والمقاولين الثانويين الأجانب المتعاقدين في عقود جولات التراخيص من الرسوم رقم 46 لسنة 2017 وقانون رعاية ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاص رقم 38 لسنة 2013 والتزامات مع منظمة التجارة العالمية وسوق العربية المشتركة والاتفاقيات التجارية الثنائية مع دول عديدة واتفاقيات دولية أخرى)”، بالإضافة إلى “الإعفاءات الجمركية وفق أحكام قانون الجمارك رقم 23 لسنة 1984 والإعفاءات الأخرى الخاصة بشطب الديون المترتبة عن تأجيل الرسوم الجمركية وباقي القرارات الأخرى المتعلقة بالإعفاءات والرسوم الجمركية ضمن قوانين الوزارات الأخرى”.
*هدر كبير
يشير الباحث الاقتصادي أحمد عيد إلى وجود هدر كبير في القطاع الضريبي، والسرقات التي أعلنت عنها السلطات الرسمية توصف بالكارثية نظرا لحجم المبالغ المهدورة والتي تجاوزت 800 مليون دولار، حيث يكافأ المتهم بهدر المال العام بعقوبة مخففة مع عدم وجود قانون يلزم السارق بإعادة المبالغ المسروقة.
ويبين عيد، أن الضرائب أصبحت بابا من أبواب الهدر والفساد، وما يعيق تطبيق القانون بحق الفاسدين هو الأجندات الحزبية والسياسية، رغم أن الضرائب باب واسع لتدفق الأموال لخزينة الدولة، ومن شأنها إعادة توزيع الموارد والدخل، بالإضافة لوظائف أخرى تتعلق بالسياسات النقدية والسيطرة على حجم ومستويات التضخم.
ويعرب الباحث عن أسفه لأن إدارة جباية الضرائب ما تزال بعيدة عن الواقع الاقتصادي العراقي، كما أن هناك تقصيرا كبيرا في الاستقطاعات الضريبية، حيث إن الأرقام المعلنة في ميزانيات الدولة حول المبالغ المتحصلة ضريبيا أقل بكثير من مستوى التقديرات.
ويوضّح "عادة ما يتم تقدير المبلغ بما يقارب 2-3 تريليونات دينار (1.4-2 مليار دولار) إلا أن التقديرات الحقيقية تتجاوز ضعف هذا بكثير لتصل إلى أكثر من 7 تريليونات دينار (4.8 مليارات دولار) فضلا عن أن الاستقطاعات الضريبية تتم بشكل بدائي من خلال سجلات وإيصالات ورقية لا تنسجم مع حجم المبالغ ومنافذ الاستحصال الضريبي، مما يجعلها عرضة للتلف والتغيير".
وفيما يتعلق بالتهرب الضريبي، يؤكد عيد أن هناك شخصيات وشركات تابعة لجهات متنفذة أعفيت من الضرائب، من خلال ما تمتلكه من سلطة أو من خلال دفع الرشاوى، وهذا يشكل خطرا كبيرا على قطاع الاستحصال الضريبي، فضلا عن تجاهل ضريبة الدخل على رواتب الدرجات الخاصة بالدولة العراقية وعلى رأسها رواتب الرئاسات.
ويلفت إلى أن مزاد العملة لديه النصيب الأكبر من قيمة الاستحصال الضريبي، وعدم وجود تنسيق دائرة التحويلات في البنك المركزي وهيئة الضرائب العامة أسس لمشكلة كبيرة تتعلق بحجم الأموال المحولة للخارج لغرض الاستيراد قياسا بالبضائع والسلع المستوردة من الخارج، وما يفاقم من المشكلة أن الأموال التي تخرج لا تعود إلى البلد سوى بنسبة قليلة من البضائع، وما تفرض من ضرائب على هذه البضائع لا تتعدى 10% من القيمة الحقيقية لها.
*عقوبات صارمة
من جانبه، يؤكد الخبير القانوني الدكتور علي الموسوي وجود الكثير من العقوبات في القانون العراقي، التي تتعلق بمتهربي الضريبة، سواء كانت غرامات مالية أو الحبس، حيث يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن 3 أشهر ولا تزيد على السنتين من يثبت عليه هذه الجريمة.
ويبيّن الموسوي، وجود فئتين تتهربان من الضرائب، الأولى لا تمتلك دخلا يوازي هذه الضرائب وتكون الضريبة عليهم مقطوعة كأصحاب المهن، وأما الثانية فهم أصحاب الشركات الاستثمارية التي لها علاقة بجهات نافذة بالدولة تستغلها للتهرب من دفع الضرائب.
ويقول الموسوي إن القانون يتغاضى عن عمليات الهدر والفساد من قبل رؤوس كبار متنفذة بالحكومة كالأحزاب والمسؤولين، ويقتصر تطبيقه على الفقير المتهرب من الضريبة لأسبابه الاقتصادية الشرعية.
ويشدد على ضرورة تعديل قانون الضرائب بما يتناسب مع المرحلة الحالية، وإرجاع ثقة المكلف بالضريبة بأن جبايتها خدمة للصالح العام وليس لإثراء فئة معينة دون أخرى، كما يجب أن يكون قانون الضرائب نافذا على الجميع، مع القضاء على المنظومة الفاسدة التي تعمل داخل مؤسسات ضريبة الدخل، وهذه من أهم النقاط التي يجب أن نتوقف عليها.
*سرقة القرن وضياع الأموال
من جانبه يقول الخبير المالي المختص بالضرائب عبد السلام حسن حسين إن ضياع أموال الضرائب يعود لارتباط دوائر الضريبة بالتسجيل العقاري بأمانة بغداد، ولذا يجب فك ارتباط هذه الوزارة للسيطرة على عمليات السرقة.
ويؤكد حسين، إن الوحدات الفرعية التابعة للضرائب تسدد كل منها نحو 250 مليون دينار يوميا على الأقل، أي ما يعادل 6 إلى 7 مليارات دينار وأكثر بالشهر للوحدة، وهذا ما يعادل 30 إلى 35 مليار دينار لكل وحدة بالشهر الواحد.
ويقدّر الخبير المالي هدر أكثر من 15 مليار دينار شهريا من الضرائب، ناهيك عن أرباح الدوائر الأخرى، وهذه تكفي لتعيين الخريجين وتشغيل المعامل وتحسين الواقع، بحسب الخبير المالي.
يشار إلى أن إحسان عبد الجبار وزير النفط السابق والذي كان وزيرا للمالية بالوكالة قد أعلن تسليم ملف تحقيقي إلى الجهات المختصة حول سرقة ما يقدر بـ 2.5 مليار دولار من أموال الضريبة في مصرف الرافدين الحكومي.
— Ihsan A. Ismaael إحسان عبد الجبار (@IhsanIsmaael) October 15, 2022
وقال الوزير "دولة رئيس الوزراء وافق على طلبنا بخصوص الإعفاء من مهام إدارة وزارة المالية بالوكالة" مؤكدا "نتائج التحقيق الذي وجهنا به بعد تكليفنا بالوزارة، والاثباتات الرسمية الخاصة بسرقة ما مقداره 3.7 تريليونات دينار (2.5 مليار دولار) من أموال الضريبة/ مصرف الرافدين من قبل مجموعة محددة".
وأضاف عبد الجبار -في تغريدة على حسابه في تويتر- أنه "تم تسليمها من وزارة المالية إلى الجهات المختصة، ومنها اللجنة المالية البرلمانية التي طالبتنا بذلك رسميا وإعلاميا".
من جهته، استنكر رئيس الوزراء المكلف محمد شياع السوداني حادثة سرقة أموال الضرائب، وقال في تغريدة على تويتر "لنْ نتوانى أبدًا في اتخاذ إجراءات حقيقية لكبح جماح الفساد الذي استشرى بكلِّ وقاحة في مفاصل الدولة ومؤسساتها. وضعنا هذا الملفَّ في أول أولويات برنامجنا، ولنْ نسمحَ بأن تُستباحَ أموال العراقيين، كما حصل مع أموال أمانات الهيئة العامة للضرائب في مصرف الرافدين".
لنْ نتوانى أبدًا في اتخاذ إجراءات حقيقية لكبح جماح الفساد الذي استشرى بكلِّ وقاحة في مفاصل الدولة ومؤسساتها.
— محمد شياع السوداني (@mohamedshia) October 16, 2022
وضعنا هذا الملفَّ في أول أولويات برنامجنا، ولنْ نسمحَ بأن تُستباحَ أموال العراقيين، كما حصل مع أموال أمانات الهيئة العامة للضرائب في مصرف الرافدين.
*غياب قاعدة البيانات
بدوره يلفت العضو السابق في اللجنة المالية بالبرلمان، أحمد حمة رشيد، إلى أن جميع الموازنات بالدول الريعية تقسم إلى إيرادات نفطية، وفي العراق تحتل نحو 93%، و7% من إيراداتها غير نفطية حيث تعتبر الضريبة جزءا منها.
ويضيف رشيد، أن الضريبة غير مفصلة بجميع جوانبها، لأن العراق لا يعتمد بالدرجة الأساسية على الضرائب، وينظر إليها المواطنون بعين الريبة، لأن واردات الضريبة لا تعود إلى المواطن على شكل خدمات.
وينوه إلى أن مبالغ الضرائب ضئيلة جدا بسبب التهرب الضريبي وعدم وجود قاعدة بيانات للوحدات التجارية بالدولة سواء على شكل محلات أو صناعات أو أماكن أخرى يمكن أن تجنى منها الضريبة.
ويلفت رشيد إلى أن السياسة المالية مركزية، لكن بسبب وجود خلافات بين إقليم كردستان والحكومة الاتحادية، فلا ترجع ضرائب كردستان العراق إلى خزينة الدولة الاتحادية.
ويكشف أن هيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية نشطان في متابعة ملفات التهرب الضريبي، لكن هناك تلكؤ بالأجهزة القضائية، وهناك مثلا شركة هاتف نقال مدينة للحكومة بمبلغ 375 مليون دولار، وهناك 3 شركات مدينة للحكومة بأكثر من 500 مليون، لكن لم يتم التحرك بشأنها.