تريليونات مودعة واقتصاد عطِش.. البنوك تفقد دورها المحوري وتتحول من رافعة للنمو إلى مخازن للأموال
انفوبلس..
رغم تضخم الودائع المصرفية في العراق إلى مبالغ ضخمة، تكشف الأرقام عن خلل بنيوي خطير، إذ أن أكثر من 80% منها أموال جارية بلا عائد، وأكثر من ثلثي القروض استهلاكية. هذا الواقع يعكس فشل الجهاز المصرفي، خصوصًا الحكومي، في أداء دوره التنموي وتحويل السيولة إلى قوة اقتصادية حقيقية.
وحول ذلك، يقول الخبير الاقتصادي منار العبيدي إنه في حزيران 2025 تجاوزت الودائع في الجهاز المصرفي العراقي 115 ترليون دينار، أكثر من 95 ترليونا منها جارية بلا عائد، فيما لم تتعدَ ودائع التوفير والثابتة 20 ترليونا فقط، أي أن قرابة 80% من الأموال مودعة في حسابات قصيرة الأجل لا تساهم في خلق قيمة اقتصادية حقيقية.
الأخطر أن أكثر من 85% من هذه الودائع محتجزة في المصارف الحكومية التي ما زالت تمارس دورًا تقليديًا في حفظ الأموال دون أن تتمكن من تحويلها إلى قروض إنتاجية أو أدوات استثمارية تخدم الاقتصاد.
ورغم هذا الحجم الكبير من السيولة، فإن مجموع القروض الممنوحة للقطاع الخاص والمؤسسات العامة لم يتجاوز 46 ترليون دينار، أي أقل من 40% من إجمالي الودائع، وهي نسبة متواضعة جدًا بالمقارنة مع الأردن حيث تصل إلى أكثر من 75%، وفي مصر إلى نحو 85%، بينما تتجاوز في تركيا 100%.
والأخطر من حجم القروض هو طبيعتها، إذ تشير البيانات إلى أن أكثر من 66% منها ذهبت إلى قروض شخصية استهلاكية أو قروض بناء وشراء عقارات، فيما توزع الباقي على القطاعات الإنتاجية، مع ملاحظة مثلا أن تمويل القطاع الصناعي لم يتجاوز 4% فقط من إجمالي القروض بينما تمويل القطاع الزراعي لم يتجاوز حاجز ال 3% من اجمالي القروض ، وهو رقم يكشف بوضوح غياب البوصلة التنموية عن عمل المصارف.
هذا الواقع يضع المصارف الحكومية تحت مسؤولية مباشرة، فهي التي تستحوذ على معظم الودائع لكنها لم تتمكن من تحويلها إلى قوة دفع للاقتصاد، واكتفت بدور "الخازن" بدلًا من أن تكون مؤسسات تنمية.
إن بقاء هذه الفجوة بين السيولة الهائلة والتمويل المحدود يطرح علامات استفهام حول جدوى السياسات المصرفية الحالية، ويستدعي تغييرًا جذريًا في أسلوب عمل الجهاز المصرفي.
ولكي تستعيد المصارف دورها التنموي، هناك حزمة حلول ممكنة: أولها إعادة توجيه هيكل القروض نحو القطاعات الإنتاجية كالزراعة والصناعة والطاقة المتجددة بدل الاكتفاء بالقروض الاستهلاكية والعقارية، وثانيها تطوير أدوات مالية جديدة مثل تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة بضمانات جزئية من الدولة، وثالثها تحسين الحوافز للادخار طويل الأجل عبر رفع الفوائد على ودائع التوفير والثابتة لجذب سيولة إضافية إلى النظام المصرفي، ورابعها توسيع الشراكة مع القطاع الخاص عبر صناديق تمويل مشتركة تمول مشاريع بنية تحتية وصناعية، وخامسها تعزيز الشفافية والحوكمة داخل المصارف الحكومية لتقليل الهدر وتعزيز ثقة الجمهور.
ويختم العبيدي حديثه، بأن العراق لا يعاني من نقص السيولة بل من سوء توظيفها، وما لم يتحول الجهاز المصرفي من مجرد خزائن راكدة إلى مؤسسات فاعلة في توجيه الأموال نحو الإنتاج، سيبقى الاقتصاد أسيرًا لدائرة مغلقة من الاستهلاك والتمويل العقيم، وستبقى الودائع الهائلة بلا أثر يذكر على النمو وفرص العمل.
معطيات شهر حزيران التي قدّمها العبيدي، تكشف أن العراق يقف أمام مفارقة حادة: فائض سيولة نقدية يقابله جفاف في التمويل الإنتاجي. تجاوز حجم الودائع 115 ترليون دينار، لكن أكثر من 95 ترليونا منها تبقى جارية بلا مردود، ما يحوّل المصارف إلى مجرد "صناديق إيداع" عاجزة عن تحريك عجلة الاقتصاد. الأخطر أن 85% من هذه الودائع تتركّز في المصارف الحكومية التي لا تزال أسيرة نموذج تقليدي قائم على الحفظ، لا على التوظيف.
بالمقارنة مع دول الجوار، تتضح خطورة الفجوة العراقية. ففي الأردن، تبلغ نسبة القروض إلى الودائع أكثر من 75%، وفي مصر نحو 85%، بينما تتجاوز في تركيا 100%. أما في العراق، فالنسبة لا تتجاوز 40%، ما يعني أن أكثر من نصف السيولة "مجمدة". والأسوأ أن ثلثي القروض تذهب للاستهلاك أو العقارات، فيما لم يحصل القطاع الصناعي سوى على 4% من إجمالي التمويل، والزراعي على 3% فقط.
هذه الأرقام تكشف غياب الرؤية التنموية في السياسات المصرفية، وتحوّل الجهاز المصرفي إلى عائق أمام النمو بدل أن يكون رافعة له.
مصادر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لطالما أشارت إلى أن العراق يعاني من "فشل الوساطة المالية" (Financial Intermediation Failure)، حيث لا تستطيع المصارف نقل المدخرات إلى استثمارات إنتاجية. هذا الفشل يعمّق التبعية للقطاع النفطي ويترك الاقتصاد هشًا أمام تقلبات أسعار الطاقة. فبدل أن تخلق السيولة فرص عمل وتدعم تنويع الاقتصاد، تذهب نحو تمويل الاستهلاك الذي يزيد التضخم ولا يبني بنية تحتية مستدامة.
إصلاح هذا الواقع يتطلب تغييرات جذرية. أولًا، إعادة هيكلة أولويات الإقراض لتشجيع الزراعة والصناعة والطاقة المتجددة، بما ينسجم مع خطط التنمية الوطنية. ثانيًا، تطوير أدوات مالية حديثة مثل التمويل الموجه للمشاريع الصغيرة والمتوسطة (SMEs Financing) التي أثبتت في دول مثل ماليزيا وتركيا أنها قاطرة للنمو والتشغيل. ثالثًا، تعزيز الحوافز على الادخار طويل الأجل برفع الفوائد على الودائع الثابتة والتوفير، ما يزيد من قدرة المصارف على التخطيط والتمويل الاستثماري. رابعًا، إشراك القطاع الخاص عبر صناديق تمويل مشتركة للبنية التحتية والصناعات التحويلية، وهو ما أوصت به دراسات "معهد بروكنغز" كمدخل لإصلاح الاقتصادات الريعية. خامسًا، إدخال إصلاحات حقيقية في الحوكمة والشفافية داخل المصارف الحكومية، بما يقلل الهدر ويعيد ثقة الجمهور بالنظام المصرفي.
إن استمرار الوضع الراهن يعني أن العراق سيبقى عالقًا في حلقة الاستهلاك والاعتماد على النفط، فيما تُهدر فرصة تاريخية لتوظيف السيولة الهائلة في خلق اقتصاد متنوع. ما لم يتحول الجهاز المصرفي من "خازن للأموال" إلى "محرّك للتنمية"، ستظل التريليونات المودعة بلا أثر، ويبقى الاقتصاد أسيرًا لدوامة الركود والتقلبات.


