استقلال أم انعزال؟ بين هدف الحرية المالية وخطر العقوبات الدولية.. البنك المركزي يسير بـ"حقل ألغام"
انفوبلس..
في خطوة مالية ذات أبعاد استراتيجية، يتجه العراق نحو بناء استقلال نقدي داخلي عبر إطلاق منظومة دفع وطنية بديلة عن الشبكات الدولية، في محاولة لعزل السوق المحلي عن الضغوط الخارجية. المبادرة تثير تساؤلات سياسية واقتصادية، وتضع البلاد أمام اختبار دقيق بين السيادة والمساءلة الدولية.
ومع ما تمضي به الدولة نحو "استقلالية نقدية" داخلية، أصدر البنك المركزي العراقي تعميمًا رسميًا لجميع المصارف ومزوّدي خدمات الدفع الإلكتروني، يعلن فيه عن بدء تنفيذ مشروع منظومة المخطط الوطني للبطاقات، وهو نظام مدفوعات محلي يُدار عبر المقسم الوطني، ويُفصل تمامًا عن المنصات الدولية كـ"ماستر كارد" و"فيزا". القرار يأتي في توقيت بالغ الحساسية، بعد أزمة رواتب الحشد الشعبي، والعقوبات التي طالت عددًا من المصارف، وسط مؤشرات على تحوّل العراق إلى بيئة نقدية مغلقة نسبيًا في مواجهة الضغوط الخارجية.
منظومة وطنية
وبحسب التعميم، فإن البنك المركزي أوعز بإطلاق نظام محلي لتسوية المدفوعات بالبطاقات المصرفية داخل العراق، دون المرور بأي جهة دولية. وأوضح التعميم ضرورة اعتماد رموز وطنية مثل (BIN) و(AID) لتحديد بطاقات الدفع وربطها بالمقسم الوطني، ما يعني ضمنيًا إلغاء أي اعتماد على الشبكات العالمية للدفع مثل فيزا وماستر كارد داخل التعاملات المحلية. التعميم شدد على أن هذا المشروع "محلي حصري"، وأنه سيكتمل مع نهاية السنة الحالية، تمهيدًا لاعتماده رسميًا اعتبارًا من بداية السنة المقبلة.
دوافع القرار
الخبير المصرفي والمسؤول السابق في البنك المركزي، محمود داغر، قال إن "القرار مرتبط جزئيًا بالعقوبات الدولية وبعض الضغوط على مصارف عراقية، لذلك يجري التوجه إلى نظام داخلي بديل".
وأضاف، إن "العراق لا يواجه مانعًا قانونيًا أو تقنيًا في إنشاء هذا النوع من الأنظمة، وقد سبقتنا إليه العديد من الدول"، لكنه أوضح أن "الأنظمة المحلية تبقى محدودة، ولا يمكن استخدامها خارج حدود الدولة".
يُذكر أن القرار جاء بعد تجميد رواتب الحشد الشعبي في بعض المصارف المرتبطة بأنظمة دفع دولية، ما فتح بابًا جديدًا أمام البنك المركزي لإعادة ترتيب البنية التحتية للمدفوعات بعيدًا عن التأثيرات السياسية الدولية.
تحوّل نقدي أم انعزال مالي؟
يتزامن التوجّه الجديد مع تصاعد التوترات بين بغداد وواشنطن، ومع توالي الضغوط التي طالت مصارف عراقية كبيرة بتهمة تمويل جهات محظورة أمريكيًا. وفي هذا السياق، يبدو أن البنك المركزي قرر المضي بمشروع يحمي السوق الداخلية من أي "تجميد سياسي محتمل".
مشروع "منظومة المخطط الوطني للبطاقات" ليس مجرد قرار فني في البنية التحتية المصرفية، بل خطوة لها أبعاد سياسية واقتصادية وأمنية. وإذا ما اكتمل العمل به في نهاية السنة كما خُطط، فإن العراق سيكون قد خطا أولى خطواته نحو "الاستقلال النقدي الداخلي"، لكنها تبقى مشروطة بقدرة الدولة على ضمان الكفاءة، ومنع الانهيارات، وتحقيق الثقة بمنظومة لم تُختبر بعد في واقع اقتصادي هش.
تحذير من تفسيرات واشنطن
ومع مساعي البنك المركزي العراقي لبناء منظومة دفع وطنية مستقلة عن شركتي Visa وMasterCard، وحتى مع استمرار التعامل مع الشركتين الأخيرتين، إلّا أن الخبيرة الاقتصادية، سهام يوسف، ترى أن وجود نظام دفع مالي يعمل خارج أدوات الرقابة المالية الدولية، قد يُفسر كـ”قناة خلفية للتحايل” أو كـ”أداة ربط غير مباشر” بأنظمة خاضعة للعقوبات، خاصة بوجود صلات مع روسيا وإيران الخاضعتين للعقوبات الأميركية، وهو سبب كافٍ لإثارة شك واشنطن. فيما لفتت الخبيرة الاقتصادية الى أن المطلوب الآن ليس التراجع عن السيادة المالية بل تجنب ارتكاب الأخطاء في تشغيل المنصة الجديدة، مثل عدم توفير مستوى معين من الشفافية المالية والتنسيق المالي الصريح، بما لا يعرّض العراق إلى ضغوطات كبيرة من الخزانة الأميركية والتي قد تصل الى مستويات العزل المالي عن النظام العالمي.
وتساءلت يوسف في تدوينة: "هل تقبل الولايات المتحدة بمنظومة دفع وطنية عراقية؟".
وقالت: "في خطوة لافتة، أطلق البنك المركزي العراقي ما يُعرف بـ”المخطط الوطني للبطاقات”، وهو نظام محلي مستقل عن شبكات Visa وMasterCard. وهي خطوة تحمل بُعدًا سياديًا مشروعًا، من حيث تقليل التبعية وتعزيز الاستقلال المالي".
وأضافت، "لكن في حالة العراق، الأمر أعقد، حتى مع استمرار التعامل مع Visa وMasterCard، فإن وجود بنية موازية يُحتمل استخدامها لأغراض لا تمر عبر الرقابة الدولية قد يُفسّر كقناة خلفية للتحايل أو كأداة لربط غير مباشر بأنظمة خاضعة للعقوبات".
وتابعت، إن "العراق بلد له خصوصية سياسية واقتصادية معروفة، وصلاته مع أطراف خاضعة لعقوبات (إيران، وروسيا) كافية لإثارة الشك، حتى دون دليل مباشر".
وأكملت، "أي خطأ في تصميم أو تشغيل هذه المنظومة دون شفافية تقنية وتنسيق مالي صريح، قد يُعرّض العراق إلى ضغوط من الخزانة الأميركية ولمخاطر في التحويلات الدولية أو لعزل تدريجي من النظام المالي العالمي. ليس المطلوب التراجع عن السيادة المالية، بل بناؤها بشكل مسؤول وعلني وشفاف ومتقاطع مع المعايير الدولية".
مصيدة أمريكية
وفي السياق نفسه، حذر الخبير الاقتصادي، زياد الهاشمي، البنك المركزي العراقي من الوقوع في “مصيدة” عقوبات الخزانة الأميركية، معرباً عن اعتقاده بأن سكوت واشنطن وعدم إبداء أي موقف من مشروع “المخطط الوطني للبطاقات” الذي أُعلن عنه مؤخراً، قد يكون ضمن سياسة “راقب ثم عاقب” التي اتبعتها واشنطن طيلة سنوات في التعامل مع النظام المالي العراقي ما أدى إلى إصدار عقوبات بحق الكثير من الكيانات والشخصيات العراقية، وهو ما استعرضه الهاشمي بشكل مفصّل، فيما دعا إلى “تعلم الدرس” وتوخي الحذر مع رفع مستويات الامتثال والرقابة الداخلية إلى أعلى الدرجات لتحصين النظام المالي الجديد، لكي لا يقع البنك المركزي نفسه في ورطة.
وكتب الهاشمي في تدوينة: "(راقب ثم عاقب) هذا هو التكتيك الذي تتبعه الخزانة الأمريكية عند تعاملها مع الأطراف العراقية الرسمية وغير الرسمية المتورطة في العمليات الاحتيالية وغير القانونية التي تجري في الداخل والخارج والتي تلوث اسم العراق".
وأضاف، إنه "بعد رصد يبدو أنه امتد لسنوات، عاقبت الخزانة الأمريكية بثلاث أوامر تنفيذية رجال أعمال ظل عراقيين وغيرهم ينشطون في الاقتصاد الأسود وفي قطاع تهريب النفط والمنتجات البتروكيماوية الإيرانية المعاقبة أمريكياً باستخدام وثائق رسمية عراقية وبالتعاون مع أطراف في إيران وماليزيا وسوريا واليمن".
وأكد، إن "هذا الإجراء ليس الأول من نوعه ولن يكون الأخير فقد تم سابقاً معاقبة مصارف وشركات وشخصيات عراقية تنشط كلها بشبكات واسعة ومعقدة من العمليات السوداء الاحتيالية التي تولد المليارات لأصحابها وسوء السمعة للعراق واقتصاده".
وتابع، إنه "رغم كل أساليب التلاعب والتمويه والاحتيال والتخفي التي تتبعها شبكات الاحتيال والتهريب وغسيل الأموال داخل العراق، ورغم كل الدعم شبه السياسي الذي يتم خلف الكواليس وبسرية تامة، يتضح يوماً بعد يوم أن معظم تلك النشاطات الاحتيالية أو كلها مرصود ومتابع ومراقب من قبل الخزانة عبر مجسات يبدو أنها مزروعة بعمق داخل تلك الأنظمة الاحتيالية".
وأشار إلى أن "تأخر العقوبات الأمريكية عبر الخزانة على هذه الأعمال واضح أنه لأخذ الوقت الكافي وإعطاء الفرصة لكشف كامل الشبكة وكامل نشاطاتها وحجم تورطها ومن يتعامل معها وحجم أموالها وغير ذلك من تفاصيل تجعل من الملف متكامل وجاهز لتنفيذ العقوبات".
ونوه إلى أن "مشكلة شبكات الاحتيال والتهريب وغسيل الأموال العراقية أنها لا تتعلم الدرس ولا تتعظ من تجارب من سبقوها في الوقوع تحت طائلة العقوبات، وهذا يجعلها تستمر في التورط أكثر وتوسيع عملياتها وتضخيم أموالها دون اهتمام أن كل شيء مراقب ومخترق وأن العقوبات قادمة في أي لحظة".
وبين، إن "العراق كدولة باتت تعاني من كثرة العقوبات التي تُفرض على أطراف وأموال محسوبة على البلد وهذه العقوبات ازدادت بشكل فاضح حتى لم يبق أي مفصل اقتصادي عراقي لم يتعرض لعقوبات أمريكية مباشرة أو غير مباشرة مما يضع العراق في قائمة الدول ذات السمعة السيئة وغير المنضبطة قانونياً ومالياً واقتصادياً".
وأضاف، إن "نظام البطاقة الوطنية للدفع الإلكتروني الذي أعلن عنه المركزي العراقي لم يلق رفضاً أو معارضة من قبل الخزانة وكأن الخزانة تريد فتح المجال لمراقبة كيف سيتم استخدام النظام الجديد ومن سيحاول استغلاله للتحايل على الضوابط والوقوع بعد ذلك في مصيدة العقوبات الأمريكية".
وختم بأنه "على المركزي العراقي ان يكون أكثر حذراً هذه المرة وأن يتعلم الدرس مما حصل سابقاً وأن يحصن النظام الجديد بشكل كامل وأن يرفع مستوى الامتثال والرقابة الداخلية إلى أعلى الدرجات، حتى لا يقع هو نفسه في ورطة (المراقبة والمعاقبة) الأمريكية نتيجة تطبيق أو استغلال احتيالي خاطئ لنظامه الجديد".
إيضاح البنك المركزي
ويوم الجمعة الماضي، أكد البنك المركزي العراقي، أن مشروع البطاقة الوطنيّة للدفع الإلكتروني، لا يلغي التعامل بالبطاقات الدولية مثل "الفيزا كارد" و"الماستر كارد"، مبيناً أن المشروع هدفه تعزيز الشمول المالي، وتنويع الخيارات للمواطن.
وقال البنك، في بيان إن "مشروع البطاقة الوطنيّة للدفع الإلكتروني هو خيار محلي إضافي يُستخدم داخل العراق حصراً بالدينار العراقي، ولا يلغي أو يقيّد البطاقات الدوليّة القائمة مثل Visa وMastercard".
وبين، إنه "لا توجد أي خطط لإلغاء هذه البطاقات أو حظر التعامل بالدولار خارج العراق، إذ يظل بإمكان حامليها استخدامها داخل البلاد وخارجها كما هو معمول به حالياً".
ولفت إلى أن "المشروع يهدف إلى خفض تكاليف المدفوعات، وتعزيز الشمول المالي، وتنويع الخيارات أمام الجمهور، وتوفير بطاقات ذات طبيعة وطنية لكل المؤسسات والشرائح داخل العراق، فيما تبقى البطاقات الدوليّة الوسيلة الأساسية للإنفاق بالدولار أو بعملات أخرى خارج العراق للمشتريات عبر المواقع العالمية".


