التحول نحو الدفع الإلكتروني.. طريق طويل لتغيير بنيوي معقّد في ظل القيود السياسية والمؤسسية

انفوبلس..
في ظل سعي العراق للتحول نحو الدفع الإلكتروني، تبرز تحديات بنيوية عميقة تقف عائقاً أمام تحقيق الأهداف المرجوة. ورغم التحسن الملحوظ في مؤشرات الثقة المصرفية خلال عامين، إلا أن الطريق ما زال طويلاً نحو بنية مالية رقمية متكاملة. هذا التحول لا يقتصر على تحديث تقني، بل يمثل مشروعاً سياسياً واقتصادياً يتطلب إرادة حقيقية وإصلاحات مؤسسية جذرية.
تحليل تفصيلي
وحول هذا الملف كتب الخبير الاقتصادي منار العبيدي منشوراً مفصلاً على صفحته في فيسبوك، جاء فيه:
هل حقق الدفع الإلكتروني النتائج المطلوبة منه بعد سنتين من التوجه نحو استخدامه بشكل واسع في معظم مرافق الدولة ومؤسساتها؟
لا تُقاس أهمية الدفع الإلكتروني في أي بلد بمدى قدرته على تقليص حجم النقد المتداول خارج النظام المصرفي، إذ إن النقد الحقيقي وُجد ليؤدي دوره في التداول، لا ليُخزّن فيزيائياً داخل المؤسسات المالية.
إن معيار النجاح الحقيقي لاستراتيجيات الدفع الإلكتروني يتمثل في مدى تطور بنية الثقة بالنظام المصرفي، وهو ما يُقاس بدقة من خلال نسبة عرض النقد الموسع (M2) إلى عرض النقد الضيق (M0).
ولتوضيح ماهي هذه النسب بشكل مبسط
لنفترض أن شخصا يمتلك 100,000 دينار نقدًا:
- إذا احتفظ بالمبلغ نقدا بالكامل، فإن M0 = 100,000.
- اما إذا وضع 30,000 في بطاقته الإلكترونية وسحب 70,000 نقدًا، فإن:
M0 = 70,000
M1 = 30,000
وإذا قام بتحويل 15 ألف دينار من حسابه المصرفي المرتبط ببطاقته الإلكترونية إلى وديعة ثابتة لدى البنك فتكون المؤشرات
M0 = 70,000
M1 = 15,000
M2 = 15,000
كلما زادت ثقة الأفراد بالنظام المصرفي وبالتعاملات المالية الالكترونية، زادت أرصدتهم الإلكترونية (M1)، وكلما تعززت ثقتهم بجدوى الاستثمار المصرفي، ارتفعت قيمة ودائعهم طويلة الأجل وبالتالي زاد الـ (M2).
فليس مهماً مقدار الكتلة النقدية سواءً داخل المؤسسات المالية أو خارجها بقدر قدرتها على تحريكها بفعالية أكثر من مرة والقدرة على رفع قيمة M2 على حساب الـ M0
بالتالي يكون تأثير هذه الدلالات على النحو التالي: -
- ارتفاع نسبة M1/M0 يدل على ثقة أكبر في التعامل اليومي مع النظام المصرفي.
- ارتفاع نسبة M2/M0 يشير إلى تعزيز ثقة الأفراد بالاستثمار داخل القطاع المصرفي.
بيانات العراق على مدار السنتين الماضيتين
بين آذار 2023 وآذار 2025، ارتفعت نسبة M2/M0 من 1.11 إلى 1.25، بزيادة قدرها 12.4%، وهو ما يعكس تحسنًا في الاعتماد على الخدمات المصرفية والدفع الإلكتروني.
لكن رغم هذا التحسن، ما زالت النسبة منخفضة مقارنة بدول أخرى مثل السعودية، حيث بلغت النسبة فيها 6.4 خلال نفس الفترة.
وقد يتبادر سؤال مهم هو كيف يكون M2 أكبر من M0 بكثير؟
يمكن ذلك من خلال الدور التراكمي للنظام المصرفي: فإذا أودع شخص المذكور في المثال الـ 15,000 دينار في حساب بطاقته، وأعاد البنك إقراض 10,000 منها لشخص آخر أعاد بدوره إيداعها، فإن مجموع الأموال المتداولة داخل النظام يصبح أكبر من القاعدة النقدية الأصلية، وبالتالي ترتفع نسبة M2 إلى M0 لذلك عندما تكون هذه النسبة في السعودية 6.4 هذا يعني أن العمليات المصرفية التي تتم على نفس الكتلة النقدية تتداور مصرفيا بسرعة مما يشير الى كفاءة القطاع المصرفي وقدرته على كسب ثقة المتعاملين في القطاع المصرفي.
رغم النمو الإيجابي في مؤشرات الدفع الإلكتروني في العراق، إلا أن الطريق لا يزال طويلاً نحو الوصول إلى المستويات العالمية. ومع ذلك، فإن الاتجاه العام يشير إلى تحسن تدريجي مشجع في ثقة الأفراد بالنظام المصرفي، وإن كان بوتيرة بطيئة.
كذلك فإن نسبة الـ M2/M0 في شهر آذار 2025 قد انخفضت قليلا مقارنة بشهر شباط 2025 نتيجة انخفاض قيمة الودائع لدى القطاع وهو مؤشر يحتاج الى متابعة دقيقة والعمل على تصحيح النسبة لتكون بالاتجاه الموجب.
إن قياس نجاح التعاملات الالكترونية يجب أن يكون خاضعاً لأهداف متبناة بشكل واضح احداها هو الوصول بنسبة الـ M2/M0 الى حاجز 3 من خلال تقليل الكتلة النقدية المصدرة بشكل تدريجي وسحبها من التداول وزيادة أقيام الودائع والتعاملات المصرفية بشكل أكبر من خلال الضغط على المؤسسات الخاصة والعامة لتبني اليات التعاملات المصرفية واهمها الدفع الالكتروني وتقديم تحفيزات مناسبة للمتعاملين تحفزهم للاستمرار باستخدامها.
خطوة التحول
وشهد العراق منذ بداية يونيو (حزيران) 2023، نقلة نوعية في مجال الدفع الإلكتروني بهدف تقليل التداول بالعملة النقدية "الكاش"، فقبل هذا التاريخ لم تكن هناك أية خطوات حقيقية للاعتماد على أجهزة الدفع الإلكتروني المعدومة في الدوائر والمؤسسات الحكومية والقطاع الخاص.
ويعد العراق من الدول المتأخرة في مجال الاعتماد على وسائل الدفع الإلكتروني بسبب ما شهده بعد 2003 من اضطرابات أمنية وسياسية واقتصادية كانت سبباً رئيساً في هذا التأخر.
وفي محاولة لخلق ثورة رقمية شاملة ولتعزيز الشمول المالي في البلاد، أعلن البنك المركزي العراقي، منتصف عام 2023، دخول قرار مجلس الوزراء حيز التنفيذ، والمتمثل بزيادة عدد أجهزة الدفع الإلكتروني في المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص لتعزيز ثقافة الدفع والتحصيل الإلكتروني، والتقليل من استخدام النقود الورقية في الجباية والتعاملات التجارية، إذ أسهم القرار الذي وفر سياسات مشجعة للدفع الإلكتروني في توفير البنية التحتية الضرورية لتسهيل وتوسيع نطاق الخدمات المالية الرقمية.
تحرك رسمي
ومع تلك الخطوات، اتجه البنك المركزي العراقي لتأسيس شركة وطنية لإدارة أنظمة الدفع الإلكتروني في العراق، وبمشاركة المصارف وشركات مزودي خدمات الدفع الإلكتروني ورابطة المصارف الخاصة العراقية.
وقال البنك المركزي العراقي في بيان له، إنه جرى بحث أهمية تنظيم عمليات الدفع الإلكتروني ومواكبة التطورات التكنولوجية المتسارعة وصناعة مدفوعات تنافسية تقدم خدمات دفع آمنة وموثوق بها وسهلة الوصول وقابلة للتشغيل البيني على نطاق واسع والاستجابة السريعة والمرونة العالية للمتغيرات التقنية والتنظيمية.
وأضاف البيان "تم استعراض الأهداف الأساسية للشركة والمتطلبات الخاصة للمباشرة بالتأسيس إذ ستتولى مهمات إدارة بعض نظم الدفع الإلكتروني المركزية والأساسية على المستوى الوطني وتشغيلها وتطويرها".
إنّ قراءة المعطيات الاقتصادية المُفصّلة التي طرحها الخبير الاقتصادي منار العبيدي بشأن تطور مؤشرات الدفع الإلكتروني في العراق، لا يمكن فصلها عن السياق السياسي العام الذي تتحرك فيه هذه المبادرات. فالإصلاحات المالية، خاصة تلك المتعلقة بالنقد والقطاع المصرفي، لا تنشأ أو تنجح في الفراغ، بل تعتمد بشكل وثيق على إرادة سياسية مستقرة، ومؤسسات فاعلة، وبنية تحتية قانونية وتنظيمية متقدمة، وهي عناصر لا تزال موضع إشكال في الواقع العراقي.
خطوة اقتصادية أم مشروع سياسي؟
رغم أن الدفع الإلكتروني يُقدَّم غالباً على أنه مشروع تقني-اقتصادي يهدف إلى تحديث النظام المالي، إلا أن مضمونه الحقيقي في الحالة العراقية يحمل أبعاداً سياسية عميقة. فالانتقال من اقتصاد نقدي غير رسمي إلى نظام مصرفي رقمي لا يعني فقط تسهيل التبادلات، بل ينطوي أيضاً على إعادة هيكلة لمراكز القوة الاقتصادية التي استفادت لعقود من ضعف الشفافية النقدية وانتشار "اقتصاد الظل"، بدءاً من شبكات الفساد المالي داخل مؤسسات الدولة، وصولاً إلى نفوذ بعض الجماعات المسلحة التي تعتمد على النقد "غير المتعقب" لتمويل أنشطتها.
بالتالي، فإن أي محاولة جادة لتوسيع رقعة الدفع الإلكتروني تعني، بشكل غير مباشر، تهديداً لمصالح قوى قائمة داخل المشهد السياسي العراقي، ما يفسّر البطء في التنفيذ وضعف الاستجابة المؤسسية في بعض القطاعات رغم القرارات الحكومية الواضحة.
عوائق البنية المؤسسية
حتى مع تبني البنك المركزي العراقي سياسات طموحة لتعزيز الشمول المالي وتوسيع أنظمة الدفع الإلكتروني، يبقى السؤال المطروح: هل يمتلك الجهاز الحكومي الأدوات الكافية لتنفيذ هذه الرؤية؟
الواقع أن الإدارة العراقية، بحكم تكلّسها البيروقراطي وتعقيداتها الإدارية، تقف حجر عثرة أمام التحولات الرقمية. فالعديد من المؤسسات الحكومية لم تُعدّ بعد لإدماج أنظمة الدفع الإلكتروني ضمن هياكلها التشغيلية، إما بسبب ضعف البنية التقنية، أو بسبب مقاومة داخلية ناتجة عن غياب الحوافز أو الخوف من فقدان الامتيازات المرتبطة بالتعامل النقدي المباشر، مثل "العمولات" غير الرسمية أو التلاعب في جباية الإيرادات.
وفي هذا السياق، فإن تأسيس الشركة الوطنية لإدارة أنظمة الدفع الإلكتروني يمثل خطوة تنظيمية مهمة، لكن نجاحها مرهون بصلاحياتها الفعلية، ومدى استقلاليتها عن النفوذ السياسي، وقدرتها على فرض التغيير على مؤسسات تقليدية اعتادت التعامل بالنقد.
مؤشرات الثقة أكثر من أرقام تقنية
من خلال المقارنة الرقمية بين العراق والسعودية – كما أشار العبيدي – يبدو واضحاً التباين الشاسع في ثقة الأفراد بالمصارف؛ فبينما تصل نسبة M2/M0 في السعودية إلى 6.4، لم تتجاوز هذه النسبة في العراق حاجز 1.25 حتى بعد سنتين من التحول نحو الدفع الإلكتروني.
هذا الفارق لا يعود فقط إلى المستوى التكنولوجي أو البنية التحتية، بل يعكس أيضاً استقراراً سياسياً وتنظيمياً أكبر لدى دول الجوار. فالثقة بالنظام المصرفي ليست نتاج قرارات اقتصادية فحسب، بل تتكون عبر عقود من الاستقرار، وحوكمة مؤسسية فعالة، واستقلالية للقطاع المالي عن التدخلات السياسية.
في المقابل، يفتقر العراق إلى تلك العناصر الأساسية؛ فغياب سياسات شفافة في مكافحة الفساد، وضعف القضاء، وتعدد مراكز القرار، كلها عوامل تضعف الثقة العامة بالنظام المالي، وتؤدي إلى تفضيل النقد الورقي على التعامل المصرفي.
من يُمسك بمفاتيح التداول؟
من الناحية الاقتصادية البحتة، يتفق الخبراء على أن تقليص الكتلة النقدية المتداولة خارج القطاع المصرفي وزيادة نسبة الودائع والاستثمارات البنكية، يمثلان مؤشراً رئيسياً على "نضج" النظام المالي. إلا أن هذا التحول يصطدم في العراق بواقع اقتصادي هش تسيطر عليه منظومة من المصالح المتشابكة بين القطاع غير الرسمي، وأصحاب النفوذ السياسي، وبعض المصارف الخاصة التي تعمل على هامش النظام الرقابي.
القطاع المصرفي العراقي نفسه يعاني من انقسامات وظيفية: هناك مصارف مملوكة للدولة ذات أداء متدنٍ لكنها تستحوذ على الحصة الأكبر من الودائع الحكومية، في حين أن المصارف الخاصة، والتي يفترض بها أن تكون أكثر مرونة في دعم الدفع الإلكتروني، لا تزال تعاني من ضعف الثقة ومن تركيزها على أرباح الحوالات الخارجية بدلاً من تقديم خدمات مصرفية حقيقية على مستوى الأفراد والشركات.
بين الضرورة والإرادة
إن مؤشرات التحسن التي سجلها العراق خلال السنتين الماضيتين لا ينبغي الاستهانة بها، لكنها تظل غير كافية لتحقيق طفرة نوعية في الاقتصاد الرقمي ما لم تترافق مع إصلاح سياسي عميق يعيد هيكلة العلاقة بين الدولة والمجتمع.
ينبغي أن تُستكمل الجهود التقنية للبنك المركزي العراقي بخطة سياسية واضحة تتبناها الحكومة العراقية، قوامها:
- تحديث التشريعات لتوفير الإطار القانوني اللازم لحماية مستخدمي الدفع الإلكتروني ومحاسبة الجهات المعرقلة.
- فرض إلزام مؤسسي على استخدام الدفع الإلكتروني في المؤسسات الحكومية، خاصةً في الجبايات والرسوم.
- برامج توعية وطنية تعزز من الثقافة المصرفية وتفكك العقلية الريعية التي ترى في "النقد الورقي" وسيلة أمان.
- تحفيز القطاع الخاص من خلال إعفاءات ضريبية أو دعم لوجستي للشركات التي تعتمد بشكل كلي على الدفع الإلكتروني.
لا يمكن النظر إلى الدفع الإلكتروني كخيار تقني صرف في العراق، بل هو مشروع سياسي-اقتصادي متكامل يتطلب رؤية إصلاحية شاملة تتجاوز "التحسين التدريجي" إلى تبنٍ فعلي لاقتصاد مؤسسي عصري. العراق اليوم يقف على مفترق طرق: فإما أن يغتنم فرصة التحول الرقمي لبناء نظام مالي حديث يعزز من سيادة الدولة وشفافيتها، أو يظل أسيراً لدورة نقدية مغلقة تُعيد إنتاج الفساد والتهميش المالي لعقود قادمة.