العملة الممزقة في العراق: "ورقة بلا قيمة" ترهق جيوب المواطنين وتنعش جيوب المستغلين
انفوبلس/ تقرير
"لن يأخذها مني أحد"، بهذه الكلمات الممزوجة باليأس، كانت السيدة زينب الخفاجي، وهي موظفة حكومية، تهمس لنفسها وهي تتجول بين محال منطقة المنصور الراقية في بغداد. كانت زينب تمسك بورقة نقديّة من فئة خمسة آلاف دينار، تبدو وكأنها خاضت حرباً؛ فهي متهرئة، ممزقة الأطراف، وأُعيد لمّ شتاتها بشريط لاصق بدائي.
تقول زينب بمرارة: "لا أعرف من أعطاني إياها أثناء التبضع في زحام السوق، وحين حاولت الشراء بها مجدداً، رفضها الجميع. هي قانونياً عملة وطنية، لكنها في عرف السوق مجرد ورقة تالفة".
أزمة الثقة في "الفئات الصغيرة"
قصة زينب ليست حالة فردية، بل هي مرآة لمعاناة يومية يعيشها ملايين العراقيين، حيث تحولت العملات الورقية المتهرئة، لا سيما الفئات الصغيرة (250، 500، 1000، 5000 دينار)، إلى عبء مالي ونفسي. فبينما يسهل تداول العملات المتهرئة في إقليم كردستان أو دول الجوار، يواجه المواطن في وسط وجنوب العراق "فيتو" شعبياً وتجارياً على هذه الأوراق.
عمر سامي، بائع خضار، يصف معاناته اليومية قائلاً: "أنا في خط المواجهة الأول مع هذه المشكلة. المشترون يحاولون التخلص من العملة التالفة بإعطائها لي، وعندما أرفض تبدأ المشاكل. وإذا حاولتُ إعادتها كـ (باقي) لأحدهم، يثور غضباً ويصرخ: (شسوي بيها؟ متمشي، بدلها)".
كما يقول المواطن عمار باسم إن "المحال والأسواق المنتشرة في عموم العراق لا تقبل التعامل بالفئات النقدية التالفة، وتحاول قدر الإمكان التخلص منها بإرجاعها الى المواطن أو رفض أخذها منه رغم أنها عملة صحيحة وغير مزورة". وأضاف أن أكثر من يتلف العملة الورقية ذات الفئات الصغيرة هم الأطفال، فتارة يضعونها في أفواههم او يمزقونها بقصد او غير قصد لا سيما إذا كانت متضررة من الأساس".
ويُضاف إلى ذلك ضعف جودة الورق النقدي مقارنة بدول أخرى اعتمدت مواد أكثر متانة، ما يجعل العملة العراقية قصيرة العمر.
كما يقول المواطن علي رياض عباس الذي يعمل سائق سيارة أجرة إن "مشكلة تلف وتمزق الأوراق النقدية من فئات 250، 500، 1000 دينار تفاقمت بشكل ملحوظ في غضون الأشهر القليلة الماضية"، مبيناً أن "أغلب الأوراق النقدية المتداولة من هذه الفئات في البصرة متضررة وممزقة وهي تتسبب لنا بإحراجات وأحياناً مشاكل".
وتتعرض العملات النقدية الورقية الى التلف سريعا، لا سيما ذات الفئات الصغيرة منها، لكثرة تداولها واستعمالها من قبل الاطفال في التعاملات المباشرة بين المحال والاسواق المختلفة، في ظل ضعف التثقيف من قبل البنك المركزي على استبدال العملات التالفة في البنك، ما أوجد منفذا لضعاف النفوس من أخذ نسبة من الأموال مقابل استبدال التالف منها بجديدة، تصل أحيانا الى 50% من قيمتها.
سوق سوداء لاستبدال التالف.. عمولات تصل لـ50%
هذه "اللا مقبولية" الاجتماعية للعملة الرسمية فتحت الباب أمام ظهور فئة من "ضعاف النفوس" الذين استغلوا حاجة الناس والتعقيدات الإدارية. وبسبب ضعف التثقيف بإجراءات البنك المركزي، نشأت تجارة غير قانونية لاستبدال العملات التالفة مقابل عمولات خيالية تصل أحياناً إلى نصف قيمة المبلغ.
يقول علي البهادلي، صاحب أسواق: "أحياناً أضطر لترك ولدي الصغير لإدارة المحل، فيستغل البعض براءته ويمررون له كميات من الفئات الصغيرة التالفة. أجد نفسي في نهاية اليوم أمام خسارة مادية لا ذنب لي فيها. المخرج الوحيد هو شخص يمر علينا بين الحين والآخر يجمع هذا (الحطام النقدي) مقابل اقتطاع نسبة كبيرة من قيمته، تصل أحياناً إلى 50%، ليقوم هو لاحقاً باستبدالها بطرقه الخاصة من المصارف".
أما صبحي حسين، سائق باص، فيؤكد أن المصارف نفسها تساهم في تفاقم الأزمة: "تجمعت لدي مبالغ كبيرة من فئات الـ 500 والـ 1000 المكتوب عليها أو الممزقة. عندما حاولت إيداعها أو استبدالها في المصارف، رُفضت جملة وتفصيلاً، مما اضطرني لبيعها لمكاتب صيرفة بقيمة أقل بكثير".
رؤية اقتصادية: الحل في "الأتمتة" والعملات البلاستيكية
المختص بالشأن الاقتصادي، الدكتور حسين الخاقاني، يرى أن الأزمة تبدأ من المصارف وتنتهي في الشارع. ويقول: "البنك المركزي هو السلطة الوحيدة لإصدار النقد، لكن رفض بعض المصارف تسلم العملات التالفة من التجار يولد رد فعل دفاعي لدى الشارع، فيتوقف الجمهور عن تداولها خوفاً من خسارة قيمتها".
ويقترح الخاقاني حلاً جذرياً يتمثل في فرض التعامل بالبطاقات الإلكترونية (Visa & MasterCard) على المحال التجارية ومحطات الوقود، مؤكداً أن "التطبيق الحقيقي لأتمتة التعاملات سيقلل الكتلة النقدية المتداولة يدوياً، ويحمي المواطن من الضياعات المالية في الوحدات الصغيرة".
من جانبه، يقول الخبير المالي ثامر العزاوي إن "السبب في عدم تداولها هو صعوبة الاستبدال، إذ يجب الذهاب للمصارف الحكومية والانتظار وغيرها من الإجراءات الروتينية". وأضاف أن "الحل لإنهاء هذه الظاهرة هو الاتفاق مع مكاتب الصيرفة على استبدالها من المواطنين، ومنحهم تسهيلات وامتيازات، أو اللجوء إلى تحديث العملة كما جرى في الكثير من الدول الأوروبية وغيرها، إذ استخدمت مواد بلاستيكية عند طبع العملة".
وعن إمكانية أن يحل الدفع الإلكتروني كبديل أسهل، قال العزاوي: "من المبكر أن نقول إن الدفع الإلكتروني يمكن أن يحل مكان الكاش، نعم، التجربة نجحت بشكل كبير بفضل الحكومة الحالية، إلا أن جزءاً كبيراً من المواطنين ما زال غير واثق بها، ويؤمن أن الكاش أفضل وأكثر موثوقية، رغم أن العكس صحيح".
ويرى مختصون آخرون أن حل هذه المشكلة لا يتطلب موارد إضافية، بل قرارًا واضحًا، وتطبيقًا صارمًا، وتنسيقًا حقيقيًا بين البنك المركزي والمصارف والأسواق.
وبحسب تقارير دولية، فإن 15% من النقود المتداولة عالمياً حتى عام 2024 طُبعت باستخدام مادة البوليمر، ما ساهم بشكل واضح في تقليل نسبة النقود الممزقة في العالم.
دليل البنك المركزي: متى تُقبل العملة ومتى تُصادر؟
رغم الجدل الشعبي، يمتلك البنك المركزي العراقي تعليمات واضحة تهدف لحماية قيمة العملة، وهي كالتالي: إذا كانت الورقة النقدية متهرئة أو متضررة على الرغم من عدم تمزقها وعدم فقدان أجزاء منها، أو إذا كانت الورقة متكوّنة من جزأين (مختلفة الأرقام) وكانت مساحتها مقاربة لمساحة الورقة النقدية الأصلية ومثبتة بشريط لاصق، أو إذا كانت الورقة النقدية مثبتة بشريط لاصق شفاف أو أكثر على طولها أو عرضها، أو إذا كان في الورقة النقدية قطع في أكثر من زاوية.
أو إذا كانت الورقة النقدية معيبة الطبع (من حيث التصميم، الحجم، اللون، أو العلامات الأمنية الأخرى التي تحملها الورقة النقدية الحقيقية)، أو احتوت على أختام أو كتابات لا تؤثر في مظهرها الخارجي، أو إذا فقدت الورقة النقدية أقل من 50 ٪ من مساحتها.
بيد أن (البنك المركزي) أكد مصادرة الأوراق النقدية التالفة غير الصالحة للتداول إذا أُدخل على المظهر الخارجي للورقة النقدية تغييرات نتيجة الكتابة أو الرسم أو الطباعة أو الأختام أو احتوائها على مادة لاصقة، أو إذا فقدت الورقة النقدية 50٪ أو أكثر من مساحتها، أو كانت متكونة من جزأين ذات جهة واحدة.
وفي حالة وجود دليل يُقنع البنك المركزي بأن الأجزاء المفقودة من الأوراق قد أُتلفت بالكامل، يتم التعويض عنها جزئياً أو كلياً.
وفي النهاية، تبقى أزمة العملة الممزقة في العراق صراعاً بين "نص القانون" الذي يحمي العملة، و"واقع السوق" الذي يرفضها. وبين هذا وذاك، يظل المواطن البسيط هو الحلقة الأضعف، بانتظار ثقافة مصرفية أوسع، أو تحول رقمي شامل ينهي عصر "الورق المتهرئ".


