بين سعره في العراق ووضعه في العالم.. الدولار يخرج من منطقة "العملة التي لا تُنافس" بسبب سياسات ترامب

انفوبلس..
يشهد الدولار الأميركي تراجعاً في مكانته العالمية، مع انخفاض ملحوظ في سعر صرفه أمام الدينار العراقي، ويأتي ذلك في ظل تحولات سياسية واقتصادية داخل الولايات المتحدة وخارجها. ويُعزى هذا التراجع إلى سياسات إدارة ترامب، وتقلبات الأسواق العالمية، وتنامي التوجه نحو تعددية نقدية دولية.
انخفاض في الأسواق العراقية
وتحدث أستاذ الاقتصاد الدولي نوار السعدي، عن أسباب انخفاض سعر صرف الدولار الأميركي أمام الدينار العراقي في الأسواق المحلية.
وشهدت البورصات المحلية في العاصمة بغداد، في الأيام الأخيرة، ارتفاعاً في قيمة الدينار عند الإغلاق، ووصل سعر البيع إلى 145,500 دينار لكل 100 دولار، والشراء عند 143,500 دينار لكل 100 دولار.
وكان سعر صرف الدولار في الأسواق العراقية ارتفع بشكل ملحوظ في خريف 2024 وتجاوز 1550 ديناراً لكل دولار أي 155.000 دينار لكل 100 دولار، في بعض المناطق.
وقال السعدي، إن "الانخفاض الحالي في أسعار صرف الدولار الأميركي لا يمكن عزله عن السياق الاقتصادي والسياسي العالمي الذي يمر بتحولات عميقة. فالولايات المتحدة تواجه منذ فترة مؤشرات اقتصادية سلبية، منها تباطؤ النمو وتراجع بيانات مبيعات التجزئة، ما عزز توقعات الأسواق بأن مجلس الاحتياطي الفيدرالي قد يتجه إلى تخفيض أسعار الفائدة خلال الفترة المقبلة، وهذا التوجه يؤدي بطبيعته إلى إضعاف جاذبية الدولار كعملة ادخار واستثمار، ويزيد من الضغوط عليه في أسواق الصرف".
وأضاف: "كذلك، فإن السياسات الاقتصادية التي تبنتها الإدارة الأميركية مؤخراً، وعلى رأسها فرض الرسوم الجمركية على عدد من السلع، ساهمت في رفع تكاليف الاستيراد وزادت من معدلات التضخم، مما انعكس سلباً على ثقة المستثمرين بأداء الاقتصاد الأميركي في الأجل المتوسط".
وتابع: "إلى جانب العوامل الداخلية، هناك أيضاً تحولات عالمية بدأت تُحدث تأثيراً تدريجياً على مكانة الدولار"، مبيناً أن "التوجه المتسارع من بعض القوى الدولية، كدول مجموعة البريكس، نحو تقليص الاعتماد على الدولار في التبادلات التجارية والمالية يعكس بداية تآكل المركز الاحتكاري الذي كان يتمتع به الدولار منذ عقود، وهذه السياسات المتعددة الأقطاب بدأت تترك آثاراً واضحة في ميزان القوة النقدية على مستوى العالم".
أما بخصوص الوضع في العراق، وفق الخبير، فإن "ما شهدناه مؤخراً من انخفاض في سعر صرف الدولار يعود إلى تراجع الطلب المحلي خلال شهر رمضان، حيث يقل النشاط التجاري والسفر، ما يؤدي إلى انخفاض مؤقت في الطلب على العملة الصعبة، إلا أن هذا الانخفاض ليس مستداماً، ومن المرجح أن يعاود الدولار الارتفاع مع عودة الطلب إلى مستوياته الاعتيادية، خصوصاً مع اقتراب مواسم الاستيراد الصيفية، أو في حال ظهور معوقات في تدفق العملة الأجنبية إلى السوق العراقية".
واعتبر السعدي أن "الدولار لن يفقد مكانته العالمية بسهولة، لكنه لم يعد العملة التي لا ينافسها أحد، والعالم يتجه تدريجياً نحو توازنات نقدية جديدة سيكون لها تبعات عميقة على الاقتصادات النامية، ومن بينها العراق".
وختم أستاذ الاقتصاد الدولي حديثه بالقول، إن "ما نراه من تراجع في سعر صرف الدولار هو انعكاس لحالة من القلق وعدم اليقين الاقتصادي أكثر من كونه تحولاً استراتيجياً طويل الأمد".
وضع الدولار في العالم
عادةً ما تشهد العملات النقدية صعوداً وهبوطاً باستمرار، لكن سعر صرف الدولار شهد تراجعاً كبيراً في الأشهر الأخيرة.
كان سعر صرف الدولار في صعود أثناء الخريف الذي سبق الانتخابات الرئاسية في 2024، بفضل نمو نسبي في الاقتصاد الأمريكي، واستمر في قوته بعد فوز ترامب بالرئاسة، في نوفمبر/تشرين الثاني، مع أمل أمريكي أن يواصل صعوده.
وكان للحديث عن سياسة ترامب التجارية تأثير أيضاً. فالكثير من المستثمرين اعتقدوا أن تؤدي التعريفات الجمركية، التي وعد بفرضها، إلى زيادة التضخم. وهو ما يجبر البنك المركزي الأمريكي على رفع نسبة الفائدة، أو على الأقل عدم خفضها بالسرعة التي كانت متوقعة.
فرفع نسبة الفائدة في الولايات المتحدة يجعل الدولار أكثر جاذبية، إذ يعني أن المستثمرين سيحققون أرباحاً أكبر من سيولتهم النقدية بالدولار مقارنة بالعملات الأخرى.
ولكن التفاضل تغير في الأشهر الأخيرة، بعد ظهور تفاصيل هذه التعريفات، وما تلاها من تعليق أو توسيع مثلما حدث في حالة الصين، ما أثار شكوكاً بخصوص تأثيرها.
وتتوقع أغلب التقديرات الآن أن يتراجع نمو الاقتصاد الأمريكي.
وأدى ذلك إلى هبوط حاد في سعر صرف الدولار. ويبدو أن انتقادات ترامب لرئيس البنك المركزي، جيروم باول، بسبب عدم تخفيض نسبة الفائدة، زاد أيضاً من الضغوط على الورقة الخضراء.
وترتفع قيمة جميع العملات وتنخفض مدفوعة بالعديد من العوامل، من بينها توقعات التضخم، وسياسات البنك المركزي، ولكن مؤشر الدولار، الذي يقيس قوة العملة الأمريكية مقارنة بالعملات الأخرى، هوى إلى أدنى مستوياته، منذ ثلاثة أعوام.
استثمار آمن "غير آمن"
يُنظر إلى الدولار عادة على أنه استثمار آمن في زمن التقلبات والأزمات.
وعليه فإن الهبوط الحاد في قيمة العملة، فضلاً عن بيع السندات الحكومية، التي تُعتبر هي الأخرى أصولاً آمنة، أمر غير اعتيادي.
وتقول جين فولي، مديرة استراتيجية الصرف الأجنبي في مصرف رابوبنك، إن انهيار سعر صرف الدولار كان صادماً بعد إعلان ترامب عن التعريفات الجمركية التي سماها "يوم التحرير".
"فقد تقبل السوق لعدة سنوات قصة نمو الاقتصاد الأمريكي. وكانت البورصات الأمريكية متفوقة على البورصات الأخرى. وفجأة يقول لك خبراء الاقتصاد اليوم إن التعريفات ستدفع بالولايات المتحدة إلى التضخم".
وتشير الخبيرة أساساً إلى بيع واسع للأصول الأمريكية من سندات وعملة.
وقد أثار ذلك تكهنات حول ما إذا كان الانخفاض قد يشير إلى تحول أوسع نطاقاً بعيداً عن الولايات المتحدة، وكذلك عن الدولار.
سيلاحظ الأمريكي العادي ضعف الدولار عندما يسافر إلى الخارج، فيجد أن أمواله لن تأخذه إلى أماكن بعيدة. أما السياح الأجانب فيجدون أن عملاتهم تشتري لهم أكثر.
ولكن تذبذب قيمة الدولار له تأثير قوي على المستوى الدولي أكبر من تأثير غيره من العملات.
والسبب في ذلك هو أن العملة الأمريكية هي عملة الاحتياط الأولى في العالم. وهذا يعني أن البنوك المركزية في كل أنحاء العالم تحتفظ بكميات كبيرة منها، باعتبارها جزءاً من احتياط النقد الأجنبي الخاص بها.
والبنوك المركزية تستعمل الدولار في تعاملاتها الدولية، لتسديد الديون، أو لدعم نسبة الصرف المحلية.
ويُعد الدولار أيضاً العملة الأساسية في التجارة الدولية.
وتذكر فولي أن حوالي نصف الفواتير في العالم تدفع بالدولار.
ويعني هبوط الدولار أن المنتجات الأمريكية ستكون أرخص في السوق، بينما قد تصبح السلع المستوردة أغلى بسبب ضعف العملة.
والكثير من السلع المتداولة عالمياً مثل النفط والغاز يكون تسعيرها بالدولار. فالدولار الضعيف يجعل النفط الخام أرخص بالنسبة للدول التي تستعمل عملات أخرى.
رمزيته في أمريكا
ترمز قوة الدولار في الولايات المتحدة إلى قوة أمريكا السياسية. فلا يعقل بالنسبة للأمريكيين أن تفقد بلادهم مكانة احتياط الصرفي العالمي، التي تتمتع بها.
وتقول فولي إن عملات أخرى أخذت تتقوى، ولكن هذا لن يجعل الدولار يفقد مركزه الأول في وقت قريب. هذا على الرغم من أن مسؤولاً في الخزانة الأمريكية قال العام الماضي إنه لا ينبغي للولايات المتحدة أن تعتبر هذه المكانة حقاً مكتسباً.
وترى أن الدولار سيستعيد بعض ما فقده في الأسابيع المقبلة، ولكنه لن يعود إلى قوته السابقة.
وذلك لأن كل حركة كبيرة في السوق توفر إمكانيات لتحقيق الأرباح. فلو قرر المستثمرون مثلاً أن يبيعوا اليورو بينما هو في أعلى مستوياته، فإن ذلك قد يؤدي إلى انهيار اليورو وصعود الدولار.
وستراقب الأسواق ما إذا كان ترامب سيواصل انتقاده لرئيس الاحتياطي الفيدرالي. فقد وصف باول بأنه من أكبر "الفاشلين"، ودعا علناً إلى "إقالته".
وإذا تعرض باول إلى ضغوط فإن الأسواق ستتساءل عن مصداقية الاحتياطي الفيدرالي، وهو أمر في غاية الأهمية.
وتقول سوزانا ستريتر، رئيسة قسم المال والأسواق في شركة هارسغريفز لانسدوان للخدمات المالية: "استقلالية البنك المركزي مسألة ضرورية لضمان استقرار الأسعار على المدى الطويل، ولحماية صُنّاع السياسات من الضغوط السياسية الظرفية".