ركود اقتصادي وأزمات وشيكة.. جميع المؤشرات سلبية بما فيها "الإيجابية" في ظاهرها
انفوبلس..
تشير مؤشرات مالية وتجارية متعددة إلى احتمال دخول الاقتصاد العراقي في مرحلة ركود، وسط تراجع في معدلات التضخم، وانخفاض مبيعات العملة الأجنبية، وتراجع حركة سوق الأسهم، وارتفاع القروض المتعثرة. غياب البيانات الدقيقة يعمق الغموض، فيما يرى الخبراء ضرورة تحفيز عاجل لتجنب تداعيات اقتصادية أوسع.
ووفقا للخبير الاقتصادي منار العبيدي فإن الركود الاقتصادي يُعرَف بشكل عام على أنه تراجع حاد في النشاط الاقتصادي يستمر لفترة طويلة. ولقياس مدى حدوث الركود، يتم تحليل مجموعة من البيانات الأساسية والرسمية التي تشمل الناتج المحلي الإجمالي، معدلات البطالة، الإنفاق الاستهلاكي، الإنتاج الصناعي، معدلات التضخم، الاستثمار التجاري، وأسعار الأسهم والعقارات.
وبحسب العبيدي، يفتقر العراق إلى العديد من البيانات التي يمكن أن تساهم في رسم صورة دقيقة عن وجود الركود أو عدمه. ومع ذلك، تشير البيانات المتاحة حاليًا إلى بعض المؤشرات التي قد تدل على وجود ركود اقتصادي، الأمر الذي يتطلب تحفيزًا ماليًا واقتصاديًا لدعمه، وإلا فإن العواقب ستكون سلبية على القطاع الخاص.
المؤشر الأول:
تراجع معدلات التضخم في النصف الأول من 2025 مقارنة بنفس الفترة من 2024 والنصف الثاني من نفس العام. حيث انخفضت نسبة التضخم في النصف الأول من 2025 إلى 1.5% بعد أن كانت 2.7% في النصف الثاني من 2024، و3.6% في النصف الأول من 2024. هذا الانخفاض يعد من المؤشرات التي تدل على ضعف النشاط الاقتصادي.
المؤشر الثاني:
انخفاض مبيعات البنك المركزي العراقي من العملة الأجنبية. فقد تراجعت مبيعات البنك المركزي في النصف الأول من 2025 إلى 37.2 مليار دولار، مقارنةً بـ 43 مليار دولار في النصف الثاني من 2024 و38 مليار دولار في النصف الأول من 2024. هذا يشير إلى انخفاض الاستيراد بشكل عام، مما يعكس ضعف النشاط التجاري في العراق.
المؤشر الثالث:
تراجع حجم تداولات الأسهم في سوق العراق للأوراق المالية. حيث بلغ عدد الأسهم المتداولة في النصف الأول من 2025 123 مليار سهم بقيمة 199 مليار دينار عراقي، مقارنة بـ 522 مليار سهم في النصف الثاني من 2024 بقيمة 365 مليار دينار عراقي، و281 مليار سهم في النصف الأول من 2024 بقيمة 321 مليار دينار. هذا التراجع الكبير في أعداد وقيم الأسهم المتداولة يعكس ضعفًا في ثقة المستثمرين في السوق العراقي.
المؤشر الرابع:
زيادة نسبة القروض المتعثرة والمتأخرة عن السداد مقارنةً بإجمالي الائتمان. فقد وصلت هذه النسبة إلى 7.7% في نهاية النصف الأول من 2025، مقارنة بـ 7.14% في النصف الثاني من 2024 و6.9% في النصف الأول من 2024. هذا الارتفاع يشير إلى تزايد المخاطر الائتمانية ويعكس ضعف القدرة المالية للعديد من المقترضين.
هذه المؤشرات تظهر تراجعاً في النشاط الاقتصادي، ما يعني احتمال وجود ركود اقتصادي. ومع ذلك، يمكن تعزيز هذه التحليلات ببيانات إضافية حول معدلات البطالة، فرص العمل في القطاع الخاص، عدد المشاريع الصغيرة التي تم افتتاحها أو إغلاقها، بالإضافة إلى حجم الاستثمارات المحلية والأجنبية التي تم ضخها في السوق العراقي. هذه البيانات من شأنها أن توفر صورة واضحة حول ما إذا كان الاقتصاد في مرحلة ركود أم في نمو.
إذا أضفنا إلى ذلك انخفاض سعر الصرف في السوق الموازي، فإن ذلك يعد دليلاً إضافيًا على وجود الركود الاقتصادي. هذا الوضع يستدعي اتخاذ تدابير عاجلة لتحفيز الاقتصاد، من خلال تقديم خدمات تمويلية للقطاع الخاص، والعمل على تقليص النفقات الحكومية في بعض القطاعات، خاصة الإنتاجية، ودعم الشركات في توفير مستلزمات استدامتها وقدرتها على المنافسة.
تعد مشكلة الركود من القضايا الكبيرة التي تتطلب حلولًا سريعة، حيث إن تفاقمها قد يؤدي إلى تأثيرات سلبية واسعة النطاق على الاقتصاد العراقي.
لذا من الضروري مراقبة النشاط الاقتصادي بشكل دقيق لتفادي تفاقم الوضع وتجنب وقوع مشكلات اقتصادية إضافية في المرحلة الحالية.
وفي إيضاح سابق للعبيدي، قال: انخفضت مبيعات البنك المركزي من العملة الأجنبية للشهر الثالث على التوالي، حيث بلغت 5.7 مليار دولار في شهر حزيران من العام الحالي، بتراجع نسبته 15.5% مقارنة بشهر أيار الذي سجلت فيه المبيعات 6.5 مليار دولار. وبهذا، وصلت مبيعات البنك المركزي من العملة الأجنبية في الأشهر الستة الأولى من السنة إلى 37.2 مليار دولار، منخفضة بنسبة 2.2% مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي التي كانت قد سجلت 38.1 مليار دولار.
كما انخفضت المبيعات النقدية للعملة الأجنبية إلى أدنى مستوى لها، حيث بلغت في شهر حزيران 99 مليون دولار فقط، وهي أقل قيمة مبيعات شهرية منذ بدء اعتماد المبيعات النقدية. وبذلك، بلغ إجمالي مبيعات البنك المركزي من العملة الأجنبية على طريقة المبيعات النقدية في الأشهر الستة الأولى من السنة 1.4 مليار دولار، بتراجع نسبته 21% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي التي كانت قد بلغت 1.76 مليار دولار.
أما مبيعات العملة الأجنبية عبر آلية تعزيز الأرصدة، فقد بلغت 5.6 مليار دولار في شهر حزيران من العام الحالي، بزيادة قدرها 35% مقارنة بشهر حزيران من العام الماضي. وبذلك، بلغت مبيعات العملة الأجنبية عبر آلية تعزيز الأرصدة في الأشهر الستة الأولى من السنة 35.8 مليار دولار، مرتفعة بنسبة 37% مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي التي كانت قد بلغت 26 مليار دولار.
كما توقفت تمامًا آلية التسويات الدولية عبر البنك المركزي، وكذلك آلية التحويل عبر البنك المركزي، ليقتصر بيع العملة الأجنبية على آلية تعزيز الأرصدة والبيع النقدي للمسافرين. ورغم انخفاض المبيعات النقدية وتوقف التسويات الدولية، إلا أن سعر الدولار ظل مستقرًا ولم يتأثر بهذا التراجع.
ومن المتوقع أن تصل مبيعات البنك المركزي لهذا العام إلى حوالي 70 مليار دولار، بانخفاض عن العام الماضي الذي تجاوزت فيه المبيعات 80 مليار دولار.
إن تراجع مبيعات العملة الأجنبية، مع استقرار سعر الدولار في السوق الموازي وانخفاض مستويات التضخم، يستدعي مراجعة دقيقة لمعرفة الأسباب التي أدت إلى هذا التراجع. وهذا الأمر يمكن أن يكون مرتبطًا بإمكانية دخول معظم التجار إلى السوق الرسمية، مما يقلل الحاجة للعملة الصعبة في السوق الموازي، أو بتراجع الطلب على السلع، ما قد يعكس حالة من الركود الاقتصادي الذي يمر به السوق العراقي.
مؤشرات الركود
وتتزامن الفترة الأخيرة في العراق مع تسجيل عدد من المؤشرات الاقتصادية المثيرة للقلق، حيث انخفض معدل التضخم وتراجعت مبيعات البنك المركزي من العملة الأجنبية، وضعفت تداولات الأسهم في البورصة المحلية، في حين ارتفعت نسبة القروض المتعثرة في النظام المصرفي. ويعرف الركود الاقتصادي بشكل عام بأنه «تراجع حاد في النشاط الاقتصادي يستمر لفترة طويلة»، ويُستدل عليه من المؤشرات المذكورة سلفا. وفي ضوء هذه البيانات، تحذر تحليلات اقتصادية من احتمال دخول العراق في مرحلة ركود، وتحث على إجراءات فورية لتحفيز الاقتصاد.
تراجع معدلات التضخم
الانخفاض الذي شهدته معدلات التضخم السنوية يبدو ظاهرياً إيجابياً، لكنه في السياق الحالي يعكس انخفاض الطلب الكلي في السوق العراقية. فهو يقترن بتراجع الإنفاق الاستهلاكي وصعوبات في الاستثمار، ما يؤدي إلى استقرار الأسعار أو انخفاضها.
ويرى الاقتصادي علي دعدوش أن ما يحدث هو «ركود تضخمي مركب» يتميز بارتفاع الإنفاق الحكومي (مثل الرواتب) مقابل ضعف الطلب الاستهلاكي، وعدم الثقة بالعملة الوطنية، مما يغذي ضغوطاً نقدية ويعمّق الأزمة الاقتصادية. بمعنى آخر، تراجع التضخم في هذه الحالة ليس انعكاساً لتحسن اقتصادي وإنما لركود في حركة السوق وقلة السيولة الحقيقية.
تراجع مبيعات العملة الأجنبية
المؤشر الآخر الذي يلفت الانتباه، هو تراجع مبيعات البنك المركزي العراقي من الدولار الأمريكي بشكل ملحوظ. ومن منطلق خبراء الاقتصاد، يعني ذلك انخفاضاً عاماً في الواردات والطلب على العملة الصعبة، إذ يعتمد القطاع الخاص على الدولار لاستيراد السلع والخدمات.
ضعف تداولات سوق الأسهم
كما عانت سوق العراق للأوراق المالية من تراجع حاد في أحجام التداول. فالركود الاقتصادي يؤدي عادةً إلى عزوف المستثمرين عن المخاطرة واحتفاظهم بالأموال نقداً أو استثمارها في الأصول الآمنة، ما ينعكس مباشرةً على انخفاض قيم التداول في البورصة. ويترجم هذا الضعف في السوق المالية حالة الترقب والتريث لدى قطاعات الأعمال، وهو ما قد يتفاقم مع استمرار تدهور المؤشرات الاقتصادية العامة.
ارتفاع القروض المتعثرة
وفضلا عن كل ما سبق، فإن ما أظهره القطاع المصرفي من زيادة في نسبة القروض المتعثرة إلى إجمالي الائتمان يعكس تزايد المخاطر الائتمانية وضغطاً على قدرة المقترضين على السداد، سواء أكانوا شركات أم أفراداً. فعندما تتضاءل إيرادات القطاع الخاص بسبب الركود، يتعذّر على كثيرين تسديد قروضهم، فيتحول الدين إلى متعثّر. وهذه الظاهرة تؤذي قدرة البنوك على منح ائتمان جديد وتعطّل ضخ التمويل في الاقتصاد، مما يفاقم حالة الركود ويخلق حلقة مفرغة من تراجع الطلب وقلة السيولة.
رؤى الخبراء وتفسير المؤشرات
جمع الخبراء الاقتصاديون هذه المعطيات في إطار تحليلي موحد يتجه نحو وجود حالة ركود في الاقتصاد العراقي.
يؤكد منار العبيدي أن مجموعة هذه المؤشرات «تظهر تراجعاً في النشاط الاقتصادي، ما يعني احتمال وجود ركود اقتصادي»، ويشدد على أنه من الضروري «تعزيز هذه التحليلات ببيانات إضافية حول البطالة وفرص العمل وحجم الاستثمار» لبلورة الصورة بشكل أوضح. كما لاحظ العبيدي انخفاض سعر صرف الدولار في السوق الموازي مؤخراً، ورأى في ذلك دليلاً إضافياً على الركود.
ومن جهته، يصف علي دعدوش الوضع بـ«الركود التضخمي المركب» الذي يجمع بين ركود في الاستهلاك وانتشار للتضخم البنيوي، مطالباً باستخدام أدوات نقدية عاجلة «لضبط السيولة المفرطة» مثل عمليات السوق المفتوحة وإعادة تفعيل شهادات الإيداع قصيرة الأجل، إلى جانب تحفيز الطلب المحلي بآليات مباشرة تستهدف محدودي الدخل (مثل قسائم شراء موجهة لأسواق التجزئة المحلية).
ويرى محللون آخرون أن تردّي الأوضاع دفع الأسر إلى «الاستهلاك الدفاعي» (الحد الأدنى من الإنفاق والادخار تحسّباً للأزمات)، مما يفاقم الركود في الأسواق.
ويضيف الخبير أحمد عيد أنه مع انخفاض القوة الشرائية وغياب الرؤية الاقتصادية، بات لزاماً «ضمان استقرار دخل المواطنين، وتفعيل الرقابة على الأسعار، وتوسيع مظلة الحماية الاجتماعية، وإطلاق حزمة من الإصلاحات الاقتصادية لإعادة الثقة بين الدولة والمواطنين».
مقترحات تحفيز الاقتصاد الوطني
في ظل هذه المخاطر، يقترح الخبراء مجموعة من التدابير للتعامل مع حالة الركود وتحفيز النمو الاقتصادي. من أهمها:
دعم القطاع الخاص بالتمويل: تعزيز القروض والاستثمارات الموجهة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتقديم حزم تمويل مخفضة الفائدة لمشاريع الإنتاج والتصدير.
ضبط السيولة النقدية: استخدام أدوات سياسية نقدية مرنة لامتصاص الفائض من العملة المحلية (البيانات) مثل عمليات السوق المفتوحة وإعادة تفعيل شهادات الإيداع قصيرة الأجل بعوائد محفّزة، بهدف تقليص الأعباء التضخمية الناجمة عن السيولة الزائدة.
تحفيز الطلب المحلي المستهدف: إطلاق برامج دعم مباشر للفئات ذات الدخل المحدود، مثل قسائم شراء للسلع الأساسية أو دعم للأسعار في الأسواق المحلية (المخابز، الهايبرماركت التعاوني) مع إعفاءات ضريبية مؤقتة للمحال الصغيرة، لتعزيز القدرة الشرائية وزيادة الاستهلاك بالأسواق المحلية.
ترشيد الإنفاق الحكومي: مراجعة المصروفات العامة وإعادة توجيه الموازنات نحو مشاريع إنتاجية وتنموية حقيقية. ويشدد الخبراء على تقليل الإنفاق الاستهلاكي أو غير المنتج، وتحسين كفاءة الإنفاق العام، مع مكافحة الفساد لتعظيم موارد الدولة بدلاً من تبديدها.
تنويع مصادر الدخل وتعزيز الإنتاجية: تخفيف الاعتماد على عائدات النفط عبر تشجيع الصناعة والزراعة والسياحة وتطوير بنية تحتية داعمة (مصانع، موانئ، نقل). يقترح الخبراء دعم قطاعات اقتصادية بديلة غير مستغلة وتوسيع القاعدة الضريبية والجمركية لزيادة الإيرادات المحلية. على المدى المتوسط، ينبغي تحسين بيئة الأعمال لجذب الاستثمار الأجنبي والمحلي، وتوسيع نظام الدفع الإلكتروني والرقابة المالية لتسهيل المعاملات وزيادة الشفافية.
ضمان الأمان الاجتماعي والحماية: العمل على الحفاظ على استقرار الأجور وتوسيع شبكة الحماية الاجتماعية (رواتب، إعانات، دعم مؤسساتي)، لدرء مخاطر الفقر ومساهمة في استقرار الطلب. كما ينصح بمراقبة الأسعار لمنع التضخم التضخمي وحماية المستهلكين.
تدعم هذه التدابير، إذا نُفذت بفعالية، القدرة التنافسية للاقتصاد وتشجع العودة إلى النمو. ويشدّد اقتصاديون على وجوب تنسيق السياسات النقدية والمالية والاقتصادية بعيداً عن التجاذبات السياسية، لضمان أن تعمل الخطوات الإصلاحية بفاعلية في مواجهة الركود المحتمل.
في المجمل، تتفق التقارير والآراء الاقتصادية على أن العراق يواجه تحدياً تمثّل في ضعفه حالياً على صعيد النشاط الاقتصادي غير النفطي. وترى هذه التحليلات أن تضافر السياسات الداعمة للقطاع الخاص، وترشيد الإنفاق العام، وتنمية القطاعات الإنتاجية، مع الحفاظ على الاستقرار النقدي والاجتماعي، هو السبيل لتجاوز مخاطر الركود وتعزيز الانتعاش الاقتصادي الوطني.


