ما مخاطرها؟ إطلاق حملة وطنية لمنع استخدام المضادات الحيوية دون وصفة طبية

انفوبلس..
تُعد مقاومة المضادات الحيوية، واحدة من أخطر التحديات التي تواجه الصحة العامة في العالم اليوم، وهذه المشكلة تؤدي إلى فقدان فعالية الأدوية التي كانت تُستخدم لعلاج العديد من الأمراض، مما ينذر بعودة الأمراض المُعدية التي كانت تُعالَج بشكل فعّال في الماضي لتصبح مهددة للحياة، فكيف يتعامل العراق مع هذا الخطر؟ وما مؤشراته في البلاد عموماً ومدينة الموصل الخارجة من الحرب خصوصاً؟
حملة حكومية
اليوم الثلاثاء، أعلنت وزارة الصحة، عن حملة وطنية لمنع استخدام المضادات الحيوية دون وصفة طبية، وذكر بيان للوزارة أنه "انطلاقًا من مسؤوليتها في حماية الصحة العامة، وسعيًا للحد من تزايد معدلات مقاومة المضادات الحيوية، أعلنت وزارة الصحة وبالتنسيق مع نقابة الصيادلة عن تنفيذ حملة توعوية وطنية تهدف إلى تنظيم صرف المضادات الحيوية ومنع تداولها دون وصفة طبية، وذلك ابتداءً من يوم الثلاثاء الموافق 8 نيسان 2025، ولمدة ستة أشهر".
وأضاف، أن "هذه الحملة تندرج ضمن إطار التزامات الدولة تجاه تطبيق المعايير الوطنية والدولية المعنية بمكافحة مقاومة مضادات الميكروبات، ووفقًا لما نص عليه قانون مزاولة مهنة الصيدلة رقم (40) لسنة 1970، المادة (14) البند (4)، والتي جاء فيها: لا يجوز للصيدلي أن يصرف بدون وصفة المواد المضادة للحياة والمواد السامة التي تعينها الوزارة،
واستنادًا إلى ما تقدم، سيُحظر صرف أي نوع من المضادات الحيوية ما لم يكن مدرجًا ضمن القائمة الرسمية المعتمدة والمرفقة بهذا البيان، إلا بموجب وصفة طبية صادرة عن طبيب مرخص.
وفي هذا السياق، أكدت وزارة الصحة ونقابة الصيادلة على ما يلي:
1- ضرورة قيام الصيدليات بتعليق القائمة المعتمدة للمضادات الحيوية المسموح بصرفها دون وصفة طبية، في مكان واضح يسهل الاطلاع عليه من قبل المواطنين.
2- الالتزام التام بعدم صرف أي مضاد حيوي غير مشمول في القائمة، إلا في حال تقديم وصفة طبية أصولية.
3- العمل على توعية المواطنين بمخاطر الاستخدام غير المنضبط للمضادات الحيوية، وآثاره السلبية في تسريع ظهور أنماط العدوى المقاومة للعلاج".
واوضح، أن "الفرق التفتيشية المشتركة من وزارة الصحة ونقابة الصيادلة ستباشر بإجراء زيارات ميدانية دورية إلى الصيدليات، لضمان حسن تنفيذ الإجراءات ومتابعة مدى الالتزام بالتعليمات أعلاه".
ودعت الوزارة والنقابة وفقاً للبيان "جميع الجهات الصحية والمهنية والإعلامية إلى دعم هذه المبادرة الوطنية التي تهدف إلى ضمان الاستخدام الرشيد للمضادات الحيوية، والحفاظ على فعاليتها للأجيال القادمة، بما يُسهم في تعزيز الأمن الصحي الوطني".
وفي أيلول الماضي، أعلن وزير الصحة صالح الحسناوي، عن تفعيل الضوابط القانونية للحد من صرف المضادات الحيوية لدعم البرنامج الصحي في العراق.
وقال الحسناوي، إنه "تم عقد ندوة توعوية بحضور عدد من الأساتذة لمقاومة المضادات الحيوية باعتبارها تؤثر في الصحة".
وأضاف الحسناوي: "نحن الآن في طريق وضع ضوابط وتعليمات للحد من صرف المضادات الحيوية وذلك حفاظاً على صحة المجتمع"، موضحاً أن "المضادات الحيوية تستخدم بكثرة في العراق وهناك مقاومة لهذه المضادات وقد تتسبب بحدوث مشكلة كبيرة لذا وضعنا ضوابط مشددة حتى لا تؤثر في الصحة العامة".
مخاطر المضادات الحيوية
وفي تقرير نُشر عام 2023، قال موقع "المونيتور" الأمريكي، أن العراق يقاتل عدواً صامتاً يتمثل بارتفاع غير طبيعي في الإصابات التي تقاوم الأدوية والمضادات الحيوية، واصفاً العراق بأنه أحد أبرز الأماكن في العالم تضرراً من هذه الظاهرة الصحية.
وأشار التقرير إلى أن ظاهرة مقاومة المضادات الحيوية، تعززها عقود من الحروب والنزاعات، وأنها تشكل تهديدا كبيرا للصحة العالمية، فيما يبرز العراق فعليا كواحد من أكثر الأماكن تضررا من هذه الازمة المتفاقمة، خصوصا في مدينة الموصل حيث تسجل معدلات مقلقة من مقاومة المضادات الحيوية من جانب المنظمات الطبية الدولية غير الحكومية التي تنشط هناك فيما بعد الحرب ضد داعش.
وذكر التقرير؛ أن هذه الظاهرة بلغت مستويات مثيرة للقلق حول العالم خلال السنوات الاخيرة حيث اصبح علاج العدوى البسيطة أكثر صعوبة، مشيرا إلى أن العدوى البكتيرية المقاومة للمضادات الحيوية تسببت في مقتل 1.27 مليون شخص في العام 2019، وفقًا لدراسة أجرتها مجلة "ذا لانسيت" الطبية، أي أكثر من حصيلة الضحايا الذين يقتلهم فيروس الإيدز أو الملاريا.
وبحسب خبراء، فإن مقاومة مضادات الميكروبات (التي لا تتضمن فقط البكتيريا المقاومة ولكن أيضا الفيروسات والفطريات والطفيليات) يمكن أن تتسبب في مقتل نحو 10 ملايين شخص سنويا بحلول العام 2050.
وتقول منظمة "أطباء بلا حدود" الإنسانية، إنه في العام 2019، كان هناك 40٪ من المرضى في الموصل الذين أُدخلوا إلى مركز رعاية طبية فيما بعد الجراحة، يعانون من عدوى مقاومة للأدوية المتعددة.
وأوضح التقرير، إن "سيفترياكسون" و"ميروبينيم" هما نوعان من المضادات الحيوية المستخدمة لعلاج مجموعة كبيرة من الالتهابات البكتيرية مثل التهاب السحايا والالتهاب الرئوي، إلا أن مثل العديد من المضادات الحيوية المستخدمة في المستشفيات العراقية، فقد أصبحت أقل فعالية في علاج المرضى لأن البكتيريا التي تستهدفها أصبحت مقاومة لها.
وتابع التقرير، إن مقاومة المضادات الحيوية تحدث عندما تصبح البكتيريا أقل حساسية للمضادات الحيوية المصممة للقضاء عليها، مضيفا أنه بشكل عام فإن المقاومة تتطور بشكل طبيعي مع مرور الوقت، ولكن هذه العملية تجري بشكل أسرع عندما يتم وصف الأدوية أو اساءة استخدامها، مما يؤدي إلى تعرض البكتيريا لمستويات من المضادات الحيوية غير كافية لقتلها ولكنها لا تزال تسمح لها بالتكيف.
وفي مستشفى الموصل العام، قال التقرير إن عماد أحمد، وهو عضو لجنة المضادات الحيوية في المستشفى، كان يتنهد وهو يجلس في مكتب صغير، ويدقق في نتائج آخر فحوصات المضادات الحيوية التي جمعتها إدارته.
ونقل التقرير عن أحمد قوله "إنه تسونامي صامت، وتدريجيا نخسر الأدوية الوحيدة التي نأمل في الحصول عليها"، مضيفا "نرى أن سيفترياكسون لا يعمل على 90٪ من العينات التي اختبرناها خلال شهر حزيران/ يونيو. حتى أننا نشهد مقاومة لعقار ميروبينيم، الذي كان حتى الآن أحد أكثر المضادات الحيوية فعالية".
وذكر التقرير، إن هذه الأزمة الصحية الصامتة لا تزال تجتاح المستشفيات الخاصة والعامة في الموصل من دون رادع. ونقل التقرير عن أحمد قوله "هناك خطر حقيقي، إلا أنه عندما تنظر إلى التعامل الرسمي، لا تشعر أننا في أزمة. العراق متأخر في معالجة هذه القضية".
وأشار التقرير إلى أن الباحثين والأطباء الذين لهم اطلاع على نظام الرعاية الصحية في العراق يلقون بالمسؤولية على ثقافة اساءة استخدام المضادات الحيوية التي غذّتها عقود من الحرب والعقوبات.
وتابع التقرير، إن الأبحاث الحديثة ربطت ايضا هذه الظاهرة بالحروب الاخيرة التي تسببت في خلق إرث سام من التلوث بالمعادن الثقيلة التي بمقدورها أن تقوي ايضا المقاومة للمضادات الحيوية.
ثقافة الوصفات الطبية الزائدة
وذكر التقرير، أن مقاومة المضادات الحيوية لفتت الاهتمام كمسألة مثيرة للقلق منذ أكثر من 20 سنة في العراق، خصوصا بعد اكتشاف البكتيريا المقاومة للأدوية المتعددة في جروح الجنود الأمريكيين المنتشرين هناك في العام 2003، موضحا أنه بسبب مدى مقاومة الجراثيم للعلاج، كان يتحتم بتر أطراف العديد من الجنود والتي أُصيبت بالعدوى بهدف تجنب انتشار العدوى في أجسامهم وقتلهم.
وأوضح التقرير، أن بكتيريا "A. baumannii" الملقب باسم "بكتيريا العراق" من قبل الأطباء الامريكيين، لم يكن البكتيريا الوحيدة المقاومة للأدوية التي ابتُليت بها المستشفيات. وتابع قائلا إن عددا كبيرا من البكتيريا المسؤولة عن التهابات المسالك البولية أو الرئوية أو الأمعاء كانت تتطور حول العالم كمقاومة للعلاجات.
وأضاف التقرير، إن هذه الظاهرة تفاقمت في العراق بسبب سنوات من الإفراط باستخدام المضادات الحيوية واساءة استخدامها، والتي تطورت بشكل جزئي كرد فعل على البيئة الصعبة التي عمل فيها اطباء العراق منذ التسعينيات.
ونقل التقرير عن عالم الأنثروبولوجيا الطبية والأستاذ في الانثروبولوجيا في جامعة روتجرز في نيوجيرسي الاميركية، عمر الديوه جي، قوله إن "فرضيتي حتى الآن هي أن هذه مشكلة مستمرة منذ أكثر من 30 عاما". مضيفا، إنه "منذ التسعينيات، وفي ظل العقوبات اعتاد أطباء العراق المبالغة في وصف المضادات الحيوية للتعامل مع انهيار نظام المرافق الصحية، وتعوّد الناس في كافة أنحاء المستشفيات العراقية، على وصف المضادات الحيوية".
وبحسب التقرير، فقد أقرّ العديد من الأطباء والممرضات في الموصل بأن هذه العادة لا تزال متجذرة بعمق في نظام الرعاية الصحية. ونقل التقرير رئيس وحدة التوعية في مستشفى الموصل العام عمر مظفر قوله ان معظم الاطباء يصفون المضادات الحيوية لأي مرض بسيط، ولا يتبعون بروتوكولا علميا أو نهجا تدريجيا مع سوائل الأدوية والحبوب، كما أنهم لا يرسلون عينات الى المختبر لمعرفة المضادات الحيوية المطلوبة، مضيفا أن العديد منهم يصفون المضادات الحيوية عن طريق الحقن على الفور.
ونقل التقرير عن طبيب الأطفال الذي يرأس مركز إعادة تأهيل الأطفال في مستشفى الموصل مهند أكرم قوله، "إننا نرى أن مقاومة المضادات الحيوية تنتشر". وتابع قائلا "لا يمكن للأطفال أن يتحملوا المرض بنفس الصبر الذي يتحمله الكبار، ويريد الآباء علاجا سريعا، ويتوقعون الحصول على الدواء".
ولفت إلى أنه عندما يتجه الأطباء الى الأدوية الثقيلة ، فمن المرجح أن يعاني المرضى من الآثار الجانبية، ويصاب بعض الأطفال نتيجة لذلك بمشاكل في الكلى. وقال أكرم، "نحن نرى الكثير من الحالات هنا، عدوى المسالك البولية المتكررة، والضعف الكلوي، وبعضها يحتاج إلى غسيل الكلى".
وبحسب أكرم، فإنه خلال السنوات الأخيرة، غذّت العوامل البيئية هذه الديناميكية بشكل أكبر، موضحا أن "التلوث والعواصف الترابية في انحاء العراق، ادى الى ارتفاع مشاكل الحساسية والتهابات الجهاز التنفسي، بينما يستخدم الناس المضادات الحيوية لعلاجها على الرغم من عدم الحاجة الى المضادات الحيوية، وبالتالي تزداد المقاومة".
ونقل التقرير عن الديوه جي، الذي أجرى مقابلات متعددة مع أفراد من القطاع الصحي في الموصل، قوله إن "القطاع الخاص في العراق اصبح معتمدا بشكل متزايد على الصيدليات الخاصة وصارت الوصفات المفرطة شائعة في عيادات القطاع الخاص"، مشيرا بذلك إلى أن المضادات الحيوية متوفرة في الصيدليات بدون وصفات طبية، مما يسمح للعائلات بالتداوي الذاتي والحصول على الادوية حتى عندما لا يتم وصفها من اطباء مختصين.
متلازمة الموصل
وذكر التقرير؛ أنه على مدى السنوات الخمس الماضية، تم لفت الانتباه المتزايد الى أزمة مقاومة المضادات الحيوية في الموصل، ويرجع ذلك في الغالب إلى أن الوضع هناك جرى توثيقه بشكل أفضل مما هو عليه في مدن عراقية أخرى.
ولفت إلى أنه في عيادة تابعة لجمعية خيرية، احتشد معظم المرضى أجل قضايا صحية تتعلق بجروح الحرب مثل ضعف السمع بسبب الانفجارات والحروق الحادة على اجساد الاطفال الصغار وبقايا الشظايا التي استقرت في وجه شخص.
ونقل التقرير عن الديوه جي قوله، إن "أحد أسباب رؤيتنا المزيد من (مقاومة المضادات الحيوي) في النزاعات، هو زيادة عدد الجرحى، حيث إن هناك زيادة في التعرض للبكتيريا من خلال هذه الجروح".
وتابع التقرير، إن الديوه جي قام مع آخرين بالتحقيق في الإرث السام لعقود من الحرب والتي أدت إلى تلويث بيئة العراق بالعوامل المضادة للبكتيريا.
ونقل التقرير عن الأستاذ في الجامعة الأمريكية في بيروت انطوان أبو فياض قوله، إنه "من الملاحظ والموثق بشكل جيد، أنه كلما كان هناك صراع، وأينما كانت هناك حرب، فإن مقاومة مضادات الميكروبات تنتشر بشكل أسرع وأوسع ويصعب السيطرة عليها".
وتابع أبو فياض قائلا، "هناك عوامل ندركها جميعاً: الفوضى، النزوح، قلة الأدوية، قلة المختبرات، قلة الممرضات. لكن هناك عوامل أخرى أيضا: لقد لاحظنا ارتباطا بالمعادن الثقيلة الناتجة عن الدمار، من التفجيرات، ومن الفوضى".
وبحسب "المونيتور"، فإن أبو فياض وفريقه قاموا بالتحقيق في الرابط بين الحرب وتزايد مقاومة المضادات الحيوية، حيث تشير النتائج التي توصلوا إليها، والتي جرى نشرها في مجلة "بي ام جي غلوبال هيلث"، إلى دور الرصاص والزئبق والكروم والنحاس والنيكل والرصاص والزنك والأنتيمون والباريوم والبورون، وهي معادن تُستخدم في الأسلحة والمعدات العسكرية والتي تراكمت في البيئة العراقية الطبيعية مع مرور الوقت من نزاع تلو الآخر.
وبحسب الديوه جي، فإن الوضع في الموصل هو "فقط قمة جبل الجليد" في العراق لأنه لا توجد بيانات شاملة ومتاحة للجمهور عن مقاومة المضادات الحيوية في مدن عراقية أخرى. ولفت إلى أن منظمة أطباء بلا حدود، التي دقّت ناقوس الخطر لأول مرة بشأن الأزمة الصحية الصامتة التي اجتاحت الموصل في العام 2019، كانت المنظمة الوحيدة "التي تقدم تقارير منتظمة عن مقاومة مضادات الميكروبات". لكن في يوليو/ تموز من العام الحالي، توقفت المنظمة أنشطتها الطبية في المدينة بعد أن أوقفت الجمارك العراقية شحنة من الإمدادات الطبية كانت متجهة الى الموصل في بغداد لأكثر من خمسة أشهر، مما أدى إلى انتهاء صلاحية معظمها. ولفت إلى أن الشحنة كانت تضم إمدادات لمختبر الأحياء الدقيقة، وهي أداة أساسية لتحليل مزارع البكتيريا وتحديد المضادات الحيوية التي تستجيب لها.
ووفقا لموظفي المستشفيات العامة، فإن السلطات العراقية بدأت الآن تعطي اهتماما متزايدا لهذه الظاهرة حيث وجهت وزارة الصحة المستشفيات لتشكيل لجنة لجمع البيانات حول مقاومة المضادات الحيوية.
وكانت منظمة الصحة العالمية قد حذرت في العام 2020 من أنه "بدون اتخاذ إجراءات عاجلة، فإننا نتجه نحو عصر ما بعد المضادات الحيوية حيث يمكن أن تقتل العدوى الشائعة والإصابات الطفيفة مرة أخرى".
وختم التقرير بالقول، إنه مثلما يدرك الأطباء في الموصل بشكل جيد، فإن العراقيين يقفون في الجبهة الأمامية لهذه الأزمة الصحية.