أحمد الشرع من الولادة حتى التشدد.. الجولاني في سطور انفوبلس.. إليك سيرة ومحطات خريج "بوكا" ومؤسس عواصم التكفير
انفوبلس/ تقارير
كان اسما مجهولا عندما بدأت الثورة السورية، فحتى صورته لم تكن متداولة، وهذا ما قاد الى عدة روايات بشأن "أبو محمد الجولاني" او كما اطلق على نفسه باول تسجيل صوتي "القائد الفاتح" أبو محمد الجولاني، فمَن هو؟ وكيف انقلب على الجميع وأسس عاصمة تكفيرية خاصة به؟ وما الأدوار التي لعبها في العراق؟ إليك تاريخه منذ الولادة وحتى دخوله حلب الاسبوع الماضي.
مَن هو؟
أحمد حسين الشرع الملقب أبو محمد الجولاني هو من تولد 1982 في العاصمة السعودية الرياض، لكن عائلته من منطقة الزوية في الجولان المحتل.
وجائت ولادة الجولاني في الرياض، بعد ان ذهب لها والده حسين الشرع عام 1978 وعمل هناك كباحث اقتصادي، وبقي عدة سنين حتى ولد ابنه أحمد (الجولاني) ثم عاد به إلى سوريا.
الجولاني هو الذكر الأصغر بين اخوته الشباب، اذ يملك شقيقين وشقيقتين، والده كان دكتور ووالدته معلمة، نشأة في بيئة مسيسة بفعل اعمامه المعارضين للنظام.
كما لابد من الذكر، بأن العامل الأكبر الذي تسبب بتحول الجولاني الى هذا الطريق وتفكيره به هي سلسلة الاحداث من عام ٢٠٠٠ الى ٢٠٠٣ اي انتفاضة الاقصى واحداث ١١ سبتمبر ثم غزو العراق وافغانستان.
وايضا، تأثر الجولاني بزعيم تنظيم القاعدة المقبور اسامة بن لادن، وهذا ما يظهر بصورة مباشرة عند النظر اليه والى لحيته وطريقة لبسه التي حرص على ان تكون شبيهة ببن لادن.
كان الجولاني يدرس الإعلام، فيما لم تثبت المعلومات والروايات انه درس الطب، حتى انه لم يكمل دراسته في كلية الإعلام وتركها في السنة الثانية وتحديدا عام ٢٠٠٢ وتوجه الى العراق.
محطة العراق الأولى والعودة إلى سوريا
كما ذكرنا اعلاه، ترك الجولاني دراسته في كلية الاعلام بسوريا عام ٢٠٠٢ وتوجه إلى العراق، اي قبل الغزو بعام تقريبا، فوصل بغداد بسهولة، ثم ذهب إلى الرمادي، بعدها عاد الى بغداد وكان حاضرا فيها يوم السقوط، ثم عاد بعد ذلك إلى سوريا.
في سوريا، أصبح الجولاني جزء من مجموعة تدعى "دروشا - الطبقة" (نسبة إلى منطقة دروشا في الجولان وطبقة في الرقة) وهنا بدأت الدعوات لـ"المقاومة" لكنها كانت تنتهي بجمع التبرعات فقط.
قضى الجولاني في سوريا أكثر من عامين، قبل ان يتم القبض على أعضاء هذه المجموعة (دروشا - الطبقة) في الأشهر الأخيرة من عام 2005 وجرى توقيفه وقتئذ في سجن "صيدنايا" لكنه استطاع إقناع ضباط فرع التحقيق بالمخابرات الجوية أنه بريء.
محطة العراق الثانية
بعد الإفراج عنه، غادر الجولاني مجدداً إلى العراق، ولكن هذه المرة نحو وجهة محددة مسبقاً هي مجموعة إرهابية صغيرة في الموصل انتسب إليها، وكان اسمها «سرايا المجاهدين» بقيادة أبو طلحة العراقي.
بعد ذلك، بايعت "سرايا المجاهدين" أبو مصعب الزرقاوي بوصفه أمير فرع القاعدة آنذاك.
لكن، وعقب وصول الجولاني بعدة أشهر الى العراق وتحديدا الموصل كما ذكرنا اعلاه، اعتقل في عام 2006 وهو يحاول زرع عبوة ناسفة.
كان الجولاني، يحمل هوية عراقية مزورة واستطاع اجتياز فحص اللهجة الذي كانت تجريه القوات الأميركية لتمييز الإرهابيين العرب، ولذلك سُجن على أنه عراقي وكان يُعرف بـ"أبو أشرف" وتنقل في سجون أبو غريب؛ بوكا؛ كروبر؛ التاجي. وقضى فيها نحو 5 سنوات.
تعرف الجولاني في هذه السجون على عدد ممن سيصبحون من أبرز قادة "الدولة" عندما سيطلَق سراحهم ويتوقع ان ابرزهم كان يدعى "أبو علي الأنباري" والذي كان نائب أبو بكر البغدادي.
خرج الجولاني من السجن في 2011 ليجد نفسه جندياً (عضواً) فيما يسمى "الدولة الإسلامية" بشكل أوتوماتيكي.
وبعد خروجه بوقت قصير، وإثر اندلاع الثورة السورية في آذار 2011، التقى بــ"أبو علي الأنباري"، وهو أحد أبرز من تعرف إليهم في السجن، وأحد القلة الذين يعرفون أنه سوري.
كان الأنباري قد أصبح والياً على نينوى، إذ استعادا الاثنان أحاديث كان الجولاني يقولها عن سوريا في السجن، وبناء على اتفاقهما أعد مقترحاً للعمل هناك، أرسلاه إلى "أميرهم" بو بكر البغدادي الذي وافق عليه بالكامل والتقى صاحبه بعد ذلك.
عودته الى سوريا واندلاع الثورة وصعود جبهة النصرة وبدء الانشقاقات
كما ذكرنا اعلاه، فبعد موافقة البغدادي على مشروع الجولاني في سوريا، دخل الاخير فعلا إلى سوريا، على رأس ستة أشخاص زوده بهم البغدادي في آب 2011، وشرع الجولاني في تأسيس خلايا تنظيمه.
في 24 كانون الثاني 2012 أعلن الجولاني عن وجود ما اسماه «جبهة النصرة لأهل الشام من مجاهدي الشام في ساحات الجهاد» في تسجيل مرئي تكلم فيه بصوت مشوش قدّم فيه نفسه بوصف «الفاتح أبو محمد الجولاني» وكانت القاعدة هنا تموله بمبلغ يتراوح بين الـ ٦٠ الى ٧٠ الف دولار بغية تجنيد المقاتلين.
في ذلك الوقت، كانت النصرة برئاسة الجولاني في سوريا امتدادا لتنظيم القاعدة في العراق، من ناحية السيارات المفخخة والانتحاريين، وهو ما برهنة الهجوم الكبير والاول لجبهة النصرة على دمشق عام ٢٠١١ والذي كان عبارة عن تفجير انتحاري مزدوج.
بعد ذلك، وسّع الجولاني الخلايا، وزاد عدد جبهة النصرة حتى وصل إلى ألف مقاتل.
في 10 نيسان 2013 أعلن الجولاني عن بيعة «جبهة النصرة» لتنظيم القاعدة رداً على إعلان أبو بكر البغدادي في اليوم السابق إلغاء اسم الجبهة وضم عناصرها وما يتبع لها في كيان «دولة الإسلام في العراق والشام».
في 28 تموز 2016 فك الارتباط مع تنظيم القاعدة وغيّر اسم تنظيمه إلى «جبهة فتح الشام».
في 28 كانون الثاني 2017 دخلت جبهة فتح الشام في اتحاد مع مجموعة فصائل أخر، أبرزها حركة نور الدين الزنكي وجيش الأحرار، تحت اسم «هيئة تحرير الشام» التي كان أميرها هاشم الشيخ (أبو جابر)، والجولاني قائدها العسكري.
في 1 تشرين الأول 2017 أصبح قائداً لهيئة تحرير الشام بعد استقالة أبو جابر. وما زال حتى الآن.
وهنا لابد من الإشارة، إلى أن صعود جبهة النصرة في تلك الفترة، تسببت بقلق لدى "تنظيم الدولة" وبدأت بين الطرفين منافسات اجبرتهم على الاحتكام الى الظواهري الذي قال آنذاك ان النصرة يتركز عملها في سوريا والتنظيم في العراق، الامر الذي لم يلقى اذانا صاغرة وتسبب بذهاب كل طرف (النصرة وتنظيم الدولة) في طريق.
بذور الشقاق.. هكذا تطورت الخلافات بين التنظيمات الثلاث
كما أشرنا، تسبب صعود جبهة النصرة الملفت الى قلق لدى "تنظيم الدولة" ولذلك حمّل “البغدادي” مبعوثه “الجولاني” مهمتين طلب منه وضعهما على رأس أولوياته، إحداهما شخصية، والأخرى أيديولوجية إن جاز القول؛ وكانت الأولى متمثلة باغتيال شيخ وقيادي “جهادي” عراقي مقيم في دمشق، يعرف بعدة أسماء منها “أبو عبد الله المنصور” و”أبو سعيد العيساوي” و”أبو سعيد العراقي”، أما اسمه الحقيقي فهو “محمد حردان”، شيخ “البغدادي” ومرشده.
كان “حردان” هو الذي علّم “البغدادي” عن قرب في الجامعة والحلقات الخاصة، وكان قائده العسكري السابق أيضا في “جيش المجاهدين”، قبل اعتقال كليهما في “بوكا” الذي خرج منه “البغدادي” أكثر تطرفا فانضم إلى فرع القاعدة العراقي تحت قيادة “الزرقاوي”، ليدخل في معارك شرسة مع “حردان” وفصيله الذي لم يكن “البغدادي” يرى أن ضرره أكبر من ضرر الأميركيين وحسب؛ بل كان يخشى كذلك أن يكشف “حردان” نفسه أسراره التي ظهر بعضها في كتاب للأخير قال فيه إن البغدادي كان “محدود الذكاء بطيء الاستيعاب باهت البديهة… أبعد ما يكون عن طالب علم فضلا عن أن يكون عالما… ولم يكن من المبرزين في الميدان ولا من أهل الصولة والجولة ولا المهمات الكبار”.
لم يختر البغدادي “الجولاني” لمهمة الاغتيال لمجرد أنه ذاهب إلى دمشق، بل لأن الأخير و”حردان” قد اجتمعا في الزنزانة نفسها في “بوكا”، وعرفا بعضهما البعض عن قرب دون أن يعرفا هويات بعضهما، بحسب ما يكشف “حذيفة عزام” نجل الرمز الجهادي الشيخ “عبد الله عزام”، ويؤكد رفيقا الجولاني في رحلته إلى سوريا “أبو مارية القحطاني” و”صالح الحموي” الشهير باسم “أس الصراع في الشام” ووسط إصرار البغدادي كان الجولاني يرفض المهمة بشكل غير مباشر -كلما أعاد الأول تذكيره بها- بقوله إنه لا يعرف أين هو ولم يجده.
أما المهمة الثانية فكانت أيديولوجية بلا هدف سياسي، وتمثّلت بإرسال السيارات المفخخة والانتحاريين إلى اﻷراضي التركية، ورفضها “الجولاني” وشرعيّه العام “أبو مارية القحطاني” كذلك بشكل قاطع أكثر من مرة، مما دفع البغدادي نهاية عام ٢٠١٢ لإرسال مبعوث سوري آخر عالي الرتبة، وهو مسؤول العمليات الخارجية والناطق الرسمي باسم التنظيم “طه فلاحة”، الشهير باسم “أبو محمد العدناني” والملقب وقتها بـ “منجنيق الدولة الإسلامية”، ليولّيه “الجولاني” على الرقعة الشمالية التي تضم حينها حلب وإدلب وحماة، حيث بدأ “العدناني” في أخذ البيعات باسم “دولة العراق” لا “جبهة النصرة”، ثم وقعت بينه وبين المسؤولين المحليين مشاكل كثيرة، فعزله “الجولاني” من منصبه، وسلمه مسؤولية الحدود والمهاجرين والمعسكر المركزي لاستقبال المهاجرين، ثم عزله مجددا، فكتب كتابا للبغدادي من ٢٥ صفحة تقريبا وأرسله إليه، ليبعث الأخير في طلب “الجولاني” الذي أسرع إليه في العراق تاركا مكانه “مجلس شورى”.
كان العدناني قد أوحى لقيادته أن “الجبهة” تحاول الانشقاق عن “دولة العراق”، فبعث “البغدادي” مشرفا على الشام هو رئيس مجلس شورى “تنظيم الدولة” ويُدعى “أبو علي الأنباري”، وكان من ضمن مهماته التحقق من نية الجبهة بالانشقاق، واستغرقت منه تلك المهمات ستة أشهر كاملة خرج منها بنتيجة سلبية تنفي نيّات “الانشقاق” المزعوم، إلا أن البغدادي لم يطمئن فسافر بنفسه لسوريا ووصلها مطلع عام ٢٠١٣.
في ذلك الوقت كانت الجبهة، بحسب عضو المجلس الشرعي “أبو عبد الله الشامي”، تستعد لشن هجوم على دمشق العاصمة، فأوقف البغدادي الهجوم بعزله المكلف بإدارته مع أمراء آخرين، وأعاد تشكيل مجلس الشورى منتصف مارس/آذار عام ٢٠١٣، وكان يفترض بذلك أن ينهي المشكلة، إلا أن ذلك لم يحدث، فاجتمع المجلس الجديد لكتابة شكوى وإرسالها إلى “الظواهري”، وكانت هي بمنزلة القشة التي دفعت “البغدادي” و”الأنباري” لقطع الطريق على “الجبهة” و”القاعدة” معا بالإعلان الشهير في التاسع من أبريل/نيسان للعام نفسه والذي ألغى “دولة العراق الإسلامية” و”جبهة النصرة”، وأعلن عما عرفه العالم بعدها بـ “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، المسماة اختصارا بـ “داعش”، وهو إعلان أنهى المسيرة المشتركة للتنظيمين، وبدأ سلسلة طويلة من الحروب الكلامية والواقعية ستُعيد تشكيل مشهد “الجهادية” عالميا ومحليّا.
بدءا من ذلك اليوم، وعلى مدى عام كامل، لم تهدأ حرب البيانات بين “جبهة النصرة” و”تنظيم الدولة” و”تنظيم القاعدة”، بداية من اليوم التالي الذي خرج به “الجولاني” بكلمة صوتية أعلن بها امتثاله للدمج والانضمام لـ “تنظيم الدولة”، قاطعا الطريق على البغدادي بإعلانه البيعة المباشرة للظواهري زعيم “القاعدة”، من خرج بعد ذلك بشهرين داعيا للفصل المكاني بين “الولايتين”، وانتداب أبي خالد السوري مبعوثا للفصل بين التنظيمين ليُقتل بعد ذلك بثمانية شهور بهجوم انتحاري اتهم فيه “الظواهري” و”الجولاني” “تنظيم الدولة” باغتياله، بعد أيام من تبرؤ القاعدة من “فرعها” العراقي وأفعاله.
من الخارج، قد يبدو هذا الشقاق حدثا استثنائيا بين ثلاثة تنظيمات تتبع بعضها بعضا، إلا أنه لم يكن أكثر من كشف عن الفروق الجوهرية بين “جبهة النصرة” و”تنظيم الدولة”، على كل المستويات، إذ إن نشأة الجبهة كانت ملتبسة الهوية والأيديولوجيا ما بين نهجين مختلفين تماما سياسيا.
فمن ناحية، تعتمد القاعدة ما يسمى بنهج “الأنصار”، المرتبط بتنظيم القاعدة المركزي وإستراتيجيته التي طورها بعد الربيع العربي والمعتمدة على جذب السكان المحليين بتحويل مطلب “تحكيم الشريعة” من عمل نخبوي إلى عمل شعبوي، ومزج المدني بالعسكري والمحلي بالعالمي، مقابل النهج الهوياتي المذهبي المرتبط بالفرع العراقي، والذي يعتمد على الحروب المفتوحة والسطوة والتمكين، دون مبالاة بالحاضنة المحلية، وقد حسمت النصرة خياراتها باللجوء نحو الخيار السياسي والبراغماتي في النهاية.
لا تقف الخلافات على المستوى السياسي فقط، بل ترجع إلى مستوى أعمق وهو مستوى “المرجعية النظرية”، فبينما كانت مرجعية الفرع العراقي تستند فقهيا إلى “أبي عبد الله المهاجر” في “فقه الدماء”، وعمليا إلى أطروحات “أبي بكر الناجي” تحديدا في “إدارة التوحش” التي تضع مركزية التنظيم كأولوية؛ كان “الجولاني” يستند نظريا وعمليا إلى أطروحات “أبي مصعب السوري” المعتمدة على “اللامركزية” و”حروب المستضعفين” وإنشاء خلايا يجمع بينها الفكر والعقيدة دون تنظيم هيكلي متماسك، والتي تبناها الأخير وأكد عليها في كتابه الأشهر “دعوة المقاومة الإسلامية العالمية”، وطبقها الجولاني عمليا لقناعته بها وبصلاحيتها في سوريا، بما يتلاءم مع النزعة البراغماتية وسياسات التكيف في شخصية الجولاني، فضلا عن انتمائهما للهوية السورية المشتركة التي تحرص عليها النصرة بـ”سورنة” التنظيم أولا، ثم “شومنته” ثانيا (نسبة لسوريا والشام)، مقابل “عرقنة” تنظيم الدولة الذي قاده حجي بكر (نسبة للعراق)، في الخلافات التي انتهت أخيرا بالانفصال التام بين التنظيمين، ومهدت لرحلة جديدة من الشقاق، هذه المرة بين الأصل القاعدي والفرع السوري.
من “النصرة” إلى “الفتح”
كانت لحظة السيطرة على “دير الزور” لحظة فارقة في تطور الأحداث، فمن ناحية؛ كان توسع “تنظيم الدولة” على مساحة بعرض يصل لـ ٧٠٠ كم من ريف حلب الشمالي إلى تخوم كركوك، غنية بالموارد النفطية ويقطنها ملايين البشر، مكسبا إستراتيجيا كبيرا على حساب المعارضة المسلحة التي انحسرت وانحصرت مناطق نفوذها في أربع جزر معزولة، وعلى حساب جبهة النصرة التي فقدت معقلها ومواردها المالية، وتصدّعت بنيتها الداخلية بانشقاق آلاف المقاتلين الذين أغرتهم “دولة الخلافة”، أما من الناحية الأخرى؛ فقد تصدر “تنظيم الدولة” بعد دير الزور واجهة المشهد بإصداراته السينمائية القاسية وعملياته الانتحارية في كل أنحاء العالم، مما دفع إدارة الرئيس الأميركي وقتها “باراك أوباما” لإعلان تحالف عسكري ضده في الذكرى الثالثة عشرة لعمليات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001.
بعد عشرة أيام من الإعلان، لم تستهدف أولى الطائرات الأميركية المشاركة في الحملة معقل “تنظيم الدولة” في الموصل أو إحدى مناطق نفوذه مثلا، وإنما قصفت معملا للأسلحة قرب بلدة “سلقين” في إدلب، استهدفت به الكويتي “محسن الفضلي”، الذي نجا منها ليُقتل في هجوم لاحق، وكان “الفضلي” هو القائد المفترض لما أسمته واشنطن يومها للمرة الأولى بـ “مجموعة خراسان”، التي لم يكن يعلم عنها أحد شيئا، بما فيهم الجولاني الذي أنكر وجودها، وهي، كما يبدو، الوصف الأميركي لمجموعة من "الجهاديين" المعولمين داخل جبهة النصرة، والذين يتبعون قيادة الظواهري في “خراسان” ويسعون لاستهداف “العدو البعيد”، مما يجعلهم يُشكّلون عائقا أمام تكيفات “النصرة” مع الشأن المحلي السوري، ويحولون دون إمكانية فك الارتباط مع تنظيم القاعدة.
امتاز “الفضلي”، مثل بقية أعضاء هذه الخلية، بسجل عسكري حافل ارتبط غالبه بأسامة بن لادن ونائبه الظواهري اللذين أرسلا غالب الخلية كوسطاء في الأزمة بين النصرة والدولة، أما الأمر الثالث والأخير الذي يجمعهم فهو أن معظمهم قُتل بطريقة الفضلي نفسها، بطائرات بدون طيار “درونز” كونهم أهدافا مفضلة لإستراتيجية “قطع الرؤوس” التي توسعت إدارة “أوباما” بها باستخدام تلك الدرونز، ونقلتها إلى سوريا بعد نجاحها في نظر أوباما ضد القاعدة في أفغانستان وشبه جزيرة العرب.
فلسفة "جبهة فتح الشام" ومشهد إعلانها
كان مشهد إعلان “جبهة فتح الشام” عالي الرمزية، إذ ظهر على يمين الجولاني أكبر المدافعين عنه وهو الشرعي العام لجبهة فتح الشام “عبد الرحيم عطون” من عرفناه بكنيته “أبو عبد الله الشامي”، وعلى يساره الشخصية العالمية “أبو الفرج المصري”، في محاولة من الجولاني لكسب الشرعيتين المحلية و"الجهادية" العالمية، بينما ظهر الجولاني نفسه كاشفا عن وجهه للمرة الأولى بمظهر شبه مطابق لابن لادن، بعمامة ولباس عسكري، واستخدم كلمات زعيم القاعدة نفسها وأهداف التنظيم نفسها، رغم تأكيده أن تنظيمه “لا ينتمي لأي جهة خارجية”، مما جعل هذا الانفصال “شكليا”، سواء ذاتيا بإعلان ذلك لاحقا على لسان “أبو عبد الله الشامي” الذي قال في شهادة مطوّلة له إن هذا كان مجرد “لعبة إعلامية”، أو موضوعيا بكون التحول لم يقلل خوف الفصائل من النصرة أو يقربها إليها، كما لم يدفع الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لرفع صفة “الإرهابية” عنها، لتواصل الأخيرة استهدافها للجبهة باسمها الجديد.
لم يكن إعلان “فتح الشام” شكليا وحسب، وإنما كان إشكاليا كذلك بحسب ما كشف عنه عدد من الشهادات الداخلية لاحقا لبعض الشخصيات المرتبطة بالحدث، فمنذ اللحظة الأولى استقال عدد من أعضاء مجلس شورى التنظيم، على رأسهم “أبو جليبيب” رفيق الجولاني في رحلة التأسيس، و”أبو خديجة الأردني” و”أبو همام الشامي”، مع تعليق الشرعي العام لجبهة فتح الشام “سامي العريدي” لمهماته، والأسوأ هو “غضب” زعيم تنظيم القاعدة “أيمن الظواهري”، اذ أرسل رسالتين منفصلتين أعلن بهما رفض الانفصال موضحا أنه لا يتم إلا بموافقة كل أعضاء مجلس شورى “القاعدة” أو بعد تشكيل “تنظيم الدولة”، مع أن نائب الظواهري نفسه، “أبا الخير المصري”، قد أعلن مباركته لما حدث قبل الإعلان بيوم لتوقعه موافقة الظواهري على ما يبدو، بينما فُسّر رفض الأخير على أنه تأثير من بقية أعضاء مجلس شورى القاعدة، مثل “سيف العدل” و”أبو محمد المصري” والذين كانوا يتوقعون أن يتراجع الجولاني، إلا أن الجولاني رفض التراجع وصعّد من خطواته للخطوة الأخيرة حتى الآن من رحلته.
من فتح الشام الى تحرير الشام.. اندماج الجولاني مع جيش الأحرار”و”حركة نور الدين زنكي”
في نهاية عام ٢٠١٦، بدا أن المفاوضات بين “القاعدة” و”فتح الشام” تسير في طريق مسدود، خاصة مع انتشار شائعات أن “أبا جليبيب” كان يعد أساسات تشكيل فصيل جديد منتسب للقاعدة، ومع الانتقاد العلني للمنظر الجهادي العالمي “أبو محمد المقدسي” لـ “فتح الشام”، بالتزامن مع انقلاب الموجة على المعارضة المسلحة في “حلب” التي كانت تشهد أيامها الأخيرة، مما رفع أسهم فكرة “الاندماج” لأعلى حالاتها منذ بداية الثورة السورية، وهي موجة استغلها الجولاني لفتح محادثات جديدة في ديسمبر/كانون الأول لعام ٢٠١٧ مع الفصيل الوحيد الذي يتجاوزه حجما وانتشارا: “أحرار الشام”.
سعى الجولاني بذلك لتجاوز رفض التيار الذي يمكن أن يسمى بـ “الوطني” داخل الحركة لصالح “الجهادي” الذي كان ينسق مع الأول، والذي انشق أخيرا تحت اسم “جيش الأحرار” بعد انهيار محادثات الاندماج بسبب رفض “أحرار الشام”، خشية من فقدان الدعم من تركيا، الداعم الرئيس لها، وخوفا من التصنيف على قوائم الإرهاب والاستهداف من قِبل واشنطن، بجانب خشية “أحرار الشام” لاحتمالية استغلال “فتح الشام” للاندماج إن حدث لتتغلب عليها، خاصة أن المحادثات تخللها تهديدات بالاغتيال حال الرفض.
على كلٍّ، لم يمنع هذا الرفض جبهة فتح الشام من تشكيل “هيئة تحرير الشام” باندماجها العملي مع “جيش الأحرار” و”حركة نور الدين زنكي” أكبر فصائل غربي حلب، بجانب عدد من الفصائل الأخرى، مما كان يعني انفصالا عمليا وكاملا عن القاعدة، اتفق على وصفه بذلك كل من “عطون”، شرعي جبهة فتح الشام، و”العريدي”، الشرعي السابق لها والذي أعلن انشقاقه عنها لحظة الإعلان، ليكون ذلك بداية نهاية جهود الصلح مع القاعدة.
تصاعد الخلاف بعد ذلك وبلغ ذروته بحملة أمنية شنتها الهيئة فجر 29 نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١٧ اعتقلت بها “العريدي” نفسه بجانب عدد من قيادات القاعدة الكبار في سوريا، أبرزهم “أبو جليبيب” ونائب الظواهري “أبو القسام السوري”، مبررة الحملة بأن هذه الشخصيات “كانت تسعى لتقويض كيان الهيئة ونشر الفتن والإشاعات” حسبما قالت، ومثيرة موجة من الانتقادات والاختلال داخلها نفسها، وفي الوسط الجهادي عامّة، وهي موجة دفعت الظواهري في مساء اليوم نفسه لإصدار كلمة صوتية مطولة هاجم بها الهيئة، وفك الارتباط من ناحيته تماما بإعلانه وجود فرع للقاعدة في سوريا، دون مزيد من التفاصيل.
لاحقا، وبعد ما يقارب ثلاثة أشهر، ظهر على قنوات الفصائل المقربة من “القاعدة” في سوريا بيان مشترك بعنوان “أنقذوا فسطاط المسلمين” تحت اسم تنظيم جديد هو “حراس الدين”، حارس شعلة القاعدة الأخير[25]، والذي جمع تحت لوائه عدة كتائب صغيرة من المقاتلين الأجانب ومقاتلي وشخصيات القاعدة السابقين، أبرزهم “أبو الهمام الشامي” العسكري السابق للنصرة والذي يقال إنه أمير التنظيم، برفقة “أبي جليبيب” و”أبو خديجة الأردني” و”سامي العريدي” و”أبو القسام خالد العاروري”، نائب أبي مصعب الزرقاوي الذي كان معتقلا في إيران، ليصبح هناك تنظيمان مختلفان تماما، بانفصال يشابه الانفصال بين “النصرة” و”تنظيم الدولة”، بعد المسعى الجديد الذي اتخذه الجولاني و”هيئة تحرير الشام”، والذي يمكن القول، للمفارقة، إنه ليس مجرد انفصال الفرع عن الأصل، وإنما محاولة استنساخ لتجربة عدو كل هذه التنظيمات ونقيضها: حزب الله اللبناني، ميليشيا الشرق الأوسط الأضخم، والتي روى عدة مقربين من الجولاني عن تأثره وإعجابه بها.
الكيان السني في إدلب.."حلم" الجولاني الأبدي
لقد برز مشروع الجولاني الحقيقي في عام ٢٠٢٢، عندما ظهر بكلمة مرئية أظهر فيها انه لا يزال متمسكاً بمشروع إنشاء كيان سني تحت قيادته شمال غرب سوريا، بعد تأكيده أن مشروع الهيئة لم يعد ثورة ضد الظلم.
وقال الجولاني في كلمة مرئية خلال اجتماعه مع ممثلي حكومة الإنقاذ (الجناح المدني لتحرير الشام)، إن "مشروع الهيئة ومن خلفها حكومة الإنقاذ، هو بناء "كيان إسلامي سني" يتناسب مع طبيعة الشعب وتاريخه"، معتبراً أن "اقتصار الثورة على أنها فكرة عسكرية أو أمنية هو توصيف خاطئ، بعدما بات أهل السنّة معرضين لخطر وجودي في سوريا، رغم أغلبيتهم وكثرة عددهم، بسبب سياسة التهجير واستبدال الهوية السنية بهوية أخرى، بحسب زعمه.
تجديد المشروع السني
لم تكن المرة الأولى الذي يتحدث فيها الجولاني عن مشروع الكيان السني في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام شمال غرب سوريا، فقد سبق أن دعا إلى توحيد الفصائل العسكرية وإنشاء كيان موحد يمثل "أهل السنة" ويدافع عنهم عسكرياً وسياسياً خلال إعلانه تشكيل هيئة "فتح الشام" وإلغاء العمل باسم جبهة النصرة يوم 28 تموز/يوليو 2016، وأكده في مقابلة تلفزيونية مع قناة "الجزيرة" عام 2016.
وبالفعل حاول الجولاني دمج فصائل "جيش الفتح" في ذلك الوقت تحت مظلة وقيادة موحدة، وسخر شخصياته وواجهته الإعلامية لدعم هذا التوجه، إلا أن محاولاته اصطدمت برفض غالبية الفصائل العسكرية والحركات الإسلامية المحلية، التي اعتبرت مشروع الجولاني محاولة للتفرد في حكم المنطقة وصهر تنظيمه ضمن التشكيلات العسكرية المحلية لنزع صفة الإرهاب عنه.
ومع خلو منطقة ادلب من المنافسين المحليين لسلطة "هيئة تحرير الشام" العسكرية وذراعها المدني متمثلة بحكومة الإنقاذ، عاود الجولاني طرح مشروعه، لكن هذه المرة، بواقع ومتغيرات جديدة تفرضها سلطة "تحرير الشام" المطلقة على منطقة ادلب وأجزاء من ريف حلب الغربي واللاذقية الشمالي.
ويعتقد الصحافي السوري عمار جلو، أن "تحرير الشام" تحاول تعزيز سلطتها العسكرية والمدنية بسلطة دينية تمهيداً للسيطرة على القرار السياسي في مناطق المعارضة، في ظل ما قد يطاول القضية السورية من حلول.
ويقول: "لا تزال هيئة تحرير الشام متوجسة من الفصائل الراديكالية، لا سيما بعد تزايد الضغوط والتهم عن تقديم الجولاني تنازلات مستمرة للغرب بهدف إزالته من قوائم الإرهاب، فضلاً عن تعمق فكر المذهبية والعرقية السياسية في الحالة السورية، وخلل العقد الاجتماعي والرابط الوطني في المجتمع السوري"، مشيراً إلى أن حديث الجولاني عن الخطر الذي يحيط بالسنة، "يهدف إلى شرعنة استبداده الديني والسياسي في جغرافية حكومته ويكرسه زعيماً للتيار السياسي السني في أي حل سوري ينزلق للمذهبية والاثنية".
مشروع سني يحمي الجولاني
ويعتبر كثيرون من المهتمين في شؤون الجماعات الإرهابية والمتطرفة، أن تصريحات الجولاني تنافي التوجه السياسي الأخير لـ"تحرير الشام" في محاربة الجماعات المتطرفة والتضييق عليهم في ادلب، والترويج على أنها جماعة إسلامية معتدلة قادرة على حامية الأقليات من خلال زيارات الجولاني المتكررة إلى القرى والمناطق التي تقطنها الأقليات الدرزية والمسيحية.
لكن الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية عباس شريفة، اعتبر أن خطاب الجولاني عام ٢٠٢٢ لم يحمل أي جديد، ذلك أن "الخطوات السابقة لتحرير الشام من خلع العباءة العقائدية إلى تشكيل حكومة الإنقاذ ومحاولة استمالة المجلس الإسلامي السوري، تصب جميعها في صالح نجاح مشروع الكيان السني".
ويوضح شريفة، أن سياسة الجولاني قائمة على عدد من الخيارات لفرض نفسه كخيار وحيد بالنسبة إلى الدول الباحثة عن حل للقضية السورية، وحصر تمثيل المكون السني في "هيئة تحرير الشام".
ويقول: "يعمل الجولاني على استثمار المظلومية السنيّة ومخاوف التمدد الشيعي لتثبيت حكمه وتحصيل مشروعية تمكنه من دخول النسيج السياسي السوري المغيب عنه، لمعرفته بحتمية فشل الاعتماد على العصبية المناطقية أو القبلية، نتيجة غياب البعد العشائري عن منطقة ادلب واحتضانها مهجرين من مختلف المناطق".
ويضيف: "يريد الجولاني حصر المناطق المحررة في مشروع واحد، خصوصاً وأن وجود منطقة خارج سيطرة الإنقاذ بريف حلب يزيد من حجم الضغوط ، ويجعل من الجولاني ورقة قابلة للاستبدال في أي لحظة".
في النهاية، انقلب الجولاني على الجميع، واجتاح حلب وبعض المدن السورية الاخرى الان، في محاولة منه لتحقيق حلمه الابدي وهو اعلان "الكيان السني" في إدلب، المنطقة المهمة التي حوّلها الجولاني الى عاصمة تكفيرية له.