انقلاب جديد بالقارة السمراء وهذه المرة في الغابون.. مَن يسحب البساط من تحت أقدام فرنسا؟
انفوبلس/ تقرير
ظهرت مجموعة من كبار قادة الجيش في دولة الغابون على شاشة التلفزيون في الساعات الأولى من صباح اليوم الأربعاء 30 آب/ أغسطس 2023، وأعلنوا الاستيلاء على السلطة بعد وقت قصير من إعلان لجنة الانتخابات فوز الرئيس علي بونغو بولاية ثالثة، في مشهد أصبح معتاداً بالقارة السمراء ويتكرر من حين لآخر.
وقال الضباط، الذين ظهروا على شاشة قناة "غابون 24" التلفزيونية، إنهم يمثلون جميع قوات الأمن والدفاع في الدولة الواقعة في وسط إفريقيا. وأعلنوا إلغاء نتائج الانتخابات وإغلاق جميع الحدود حتى إشعار آخر، إلى جانب حل مؤسسات الدولة
والغابون دولة تقع في غرب وسط إفريقيا، وهي غنية بالموارد الطبيعية، وتوصف أحياناً بكويت إفريقيا، وهي مستعمرة فرنسية ويُعد رئيسها علي بونغو من أهم حلفاء باريس التي لديها وجود عسكري في الغابون، ويقدر معهد أبحاث الدفاع السويدي أن هناك 350 قاعدة ومنشأة فرنسية في الغابون، واللغة الرسمية هي الفرنسية.
وتقع الغابون على المحيط الأطلسي، وتحدها الكاميرون وغينيا الاستوائية وجمهورية الكونغو. وهي ذات كثافة سكانية منخفضة، حيث يبلغ عدد سكانها 2.3 مليون نسمة (2021) وتغطي الغابات 88% من أراضيها.
وهي رابع أكبر منتج للنفط في منطقة جنوب الصحراء الكبرى، حسب تقرير للبنك الدولي، وهي واحدة من أكبر منتجي المنغنيز في العالم، كما يتم استغلال ومعالجة اليورانيوم بها منذ عام 1961. إضافة إلى استخراج الألماس والذهب أيضاً، وهناك احتياطيات من خام الحديد عالي الجودة، حسب موسوعة Britannica.
كما أن الأخشاب أصبحت في الآونة الأخيرة القطاع الأكثر أهمية من وجهة النظر الاقتصادية في الغابون، حيث توفر فرص عمل لما يصل إلى 28٪ من سكان الغابون، وهي حقيقة تعكس توافر القوى العاملة الوفيرة للمشاريع المستقبلية.
قبل هذا الحدث بنحو شهر فقط، وقع انقلاب عسكري في النيجر، حيث احتجز الحرس الرئاسي في البلاد الرئيس المخلوع محمد بازوم في 26 يوليو/ تموز 2023 وأعلن قائد الحرس الرئاسي الجنرال عبد الرحمن تشياني نفسه قائداً للمجلس العسكري الجديد، حيث يُعد هذا خامس انقلاب عسكري منذ حصول البلاد على استقلالها عام 1960، والأول منذ عام 2010.
ويعد الانقلاب في الغابون الثامن في غرب ووسط إفريقيا منذ العام 2020. وأدت انقلابات في مالي وغينيا والسودان وبوركينا فاسو وتشاد والنيجر والغابون، إلى تقويض التقدم الديمقراطي في المنطقة في السنوات القليلة الماضية.
*أول ظهور للرئيس الغابوني منذ الانقلاب عليه
في أول ظهور له منذ إعلان ضباط في الجيش الاستيلاء على السلطة، دعا رئيس الغابون، علي بونغو، الأربعاء 30 أغسطس/آب 2023، في مقطع فيديو قصير، المواطنين أصدقاءه للتحرك و"إحداث ضجة" بعد محاولة الانقلاب التي قادها الجيش.
علي بونغو قال في مقطع الفيديو الذي قام مساعدوه بتصويره وهو يتحدث باللغة الإنجليزية، إنه رهن الإقامة الجبرية في منزله، و"لا أدري ما يحدث"، كما أكد اعتقال أفراد من أسرته، وقال: "تم توقيفي وأسرتي؛ ابني في مكان ما، وزوجتي ليست موجودة".
تنتمي للمجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط إفريقيا التي تهيمن عليها فرنسا
وتنتمي الغابون وخمس دول أخرى (الكاميرون، وجمهورية إفريقيا الوسطى، وتشاد، وجمهورية الكونغو، وغينيا الاستوائية) إلى المجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط إفريقيا.
إن العضوية في المجتمع الاقتصادي الفرنسي تمنح الغابون قدراً كبيراً من الاستقرار، لأن الفرنك الصادر عن بنك دول وسط إفريقيا، مرتبط باليورو، مما يمنح الشركاء التجاريين الثقة في العملة الغابونية.
ولكن قوة هذا الفرنك تضعّف صادرات البلاد الصناعية أمام العملات الأضعف، مما يشجع الاستيراد ويؤدي لارتفاع الأسعار فليس أمراً طبيعياً أن تكون عملتها بقوة اليورو.
وتمتلك فرنسا الاحتياطيات الوطنية للغابون مثلها مثل 14 دولة إفريقية أخرى في غرب ووسط إفريقيا.
يتعين على الدول الإفريقية أيضاً إيداع احتياطياتها من العملات الوطنية لدى بنك فرنسا، وتتلقى الخزانة الفرنسية نحو 500 مليار دولار عائدات وعوائد من إفريقيا سنوياً.
وتقوم فرنسا بشكل أساسي بإعادة جزء من هذه الودائع القسرية إلى البلدان الإفريقية على شكل "مساعدة". كما وتوجد حوالي 110 شركات فرنسية في الغابون، توفر 14 ألف فرصة عمل وتنتج مبيعات تقدر بنحو 3.23 مليار يورو، حسب موقع الخارجية الفرنسية.
الاستعمار وصراع القوى الكبرى على الثروات سبب رئيسي لعدم الاستقرار السياسي
على الرغم من أن حقبة الاستعمار الغربي المباشر للقارة السمراء قد انتهت منذ أكثر من 70 عاماً، إلا أن كثيراً من المراقبين يرون أن ما زرعه ذلك الاستعمار في إفريقيا لا يزال "ينمو" ويترعرع بصورة تتسبب، في جزء ليس باليسير، في استمرار الانقلابات العسكرية.
فدولة مثل فرنسا، على سبيل المثال، استبدلت الاستعمار المباشر لدول غرب القارة باتفاقيات تضمن لباريس استمرار تسيير شؤون تلك الدول بما يخدم مصالحها دون أن تضطر لسداد فاتورة استمرار الاحتلال العسكري المباشر، وهي فاتورة باهظة بشرياً واقتصادياً وأخلاقياً أمام العالم.
وبالتالي فالمستعمرات السابقة تصبح بالضرورة مناطق نفوذ حالية، ومع اشتداد حالات صراع القوى الكبرى ينتقل ذلك الصراع إلى مناطق النفوذ، وهذا ما يحدث في إفريقيا خلال العقد الماضي تقريباً، في ظل سعي روسيا إلى القضاء على النفوذ الفرنسي وتمدد الصين من خلال مبادرة الحزام والطريق، ومؤخراً سعي الولايات المتحدة تحت إدارة جو بايدن لاستعادة تأثيرها المفقود في القارة السمراء.
إذ يظل الاقتصاد والموارد الطبيعية التي تتمتع بها الدول الإفريقية مربط الفرس ولبّ الصراع الذي لا يتوقف بين الدول الكبرى للاستفادة من تلك الثروات، بحسب غالبية المراقبين والمحللين. وعلى سبيل المثال، كان الموقف الفرنسي من انقلاب غينيا عام 2021 معبراً عن ذلك الصراع بصورة فجّة.
فعندما أطاح انقلاب عسكري بالرئيس الغيني كوندي، كان الموقف الفرنسي مرتبطاً بأسباب اقتصادية غير تلك السياسية المعلنة، فالرجل فضل صداقة الصين على فرنسا، وكان يعتزم تسليم بكين رخصة استغلال أحد أكبر مناجم الحديد في العالم، بعد تنازل ملياردير فرنسي-إسرائيلي عن حقوقه فيه إثر فضيحة فساد.
نعم، أصدرت فرنسا بياناً يُندد بالانقلاب العسكري في غينيا، لكن باريس لم تفرض عقوبات أو توقف التعاون العسكري والاقتصادي مع كوناكري؛ ما أثار التساؤلات حول مدى تواطؤ فرنسا للإطاحة بصديق الصين.
وكانت غينيا، إحدى المستعمرات الفرنسية السابقة في إفريقيا، قد شهدت انقلاباً عسكرياً السبت 5 سبتمبر/ أيلول 2021، قام به العقيد مامادي دومبويا قائد القوات الخاصة، الذي بث بنفسه بيان الانقلاب عبر الإذاعة والتلفزيون الحكومي، ليعلن اعتقال الرئيس ألفا كوندي وحلّ المؤسسات وتعطيل الدستور.
وتكرار الانقلابات العسكرية في هذه الدول التي كانت مستعمرة من قبل فرنسا، يثير تساؤلات عميقة حول ما يحدث في تلك الدول وأسبابه وتداعياته، وسط أحاديث عن صراعات بين الدول الكبرى للاستيلاء على الثروات الطبيعية الهائلة في تلك الدول.
فغينيا بلد غني بالموارد الطبيعية، تتصارع عليه دول كبرى، رغم أن عدد سكانه لا يتجاوز 14 مليون نسمة، 85% منهم مسلمون، وناتجه المحلي لا يتجاوز 12.6 مليار دولار (صندوق النقد الدولي 2019). لكن موقعه استراتيجي؛ حيث يطل على المحيط الأطلسي، ومحاذٍ لمنطقة الساحل الإفريقي الملتهبة أمنياً من جهة جنوب مالي، كما لا يفصله عن موريتانيا من الجانب الأطلسي سوى غينيا بيساو والسنغال وغامبيا.
ولا تملك غينيا ثاني أكبر احتياطي من البوكسيت في العالم الذي يستخرج منه الألومنيوم وحسب، بل لديها منجم سيماندو، أحد أكبر مناجم الحديد عالمياً، وتبلغ احتياطاته 2.4 مليار طن ولا يتفوق عليه إفريقيّاً سوى منجم غار جبيلات بالجزائر (3.5 مليارات طن).
الانقلابات العسكرية في إفريقيا؟
إذا ذُكرت الانقلابات، ذُكرت إفريقيا، فالقارة شهدت أكثر من 215 انقلاباً منذ ستينيات القرن الماضي، أحدثها في النيجر والغابون، وحتى تتضح الصورة أكثر، شهد العالم أجمع، منذ عام 1950، 488 انقلاباً، سواء كان ناجحاً أو فاشلاً، كان نصيب القارة السمراء وحدها ما يقرب من النصف إذ شهدت 216 انقلاباً أو محاولة انقلاب.
وعلى الرغم من أن قارة أمريكا اللاتينية هي الأخرى شهدت عدداً كبيراً من الانقلابات العسكرية بلغ 146 انقلاباً، إلا أن الظاهرة تراجعت ويمكن القول إنها اختفت تقريباً منذ عقود، عكس ما يحدث في القارة السمراء.
وكانت جميع مناطق العالم قد شهدت انقلابات عسكرية، حتى أوروبا شهدت 17 انقلاباً، منها 8 انقلابات ناجحة، إلا أن القرن الحادي والعشرين شهد انحساراً لافتاً لظاهرة الانقلابات في جميع قارات الدنيا باستثناء قارة إفريقيا، وجاء عام 2021 ليشهد عودة "غريبة" لتلك الظاهرة؛ إذ شهدت القارة 4 انقلابات عسكرية في غينيا والسودان ومالي وتشاد، ثم انقلاب بوركينا فاسو يناير/ كانون الثاني 2022، ثم جاء انقلاب النيجر ومن بعده الغابون في صيف 2023، ليؤكد على أن زمن الانقلابات لا يزال أمراً واقعاً في القارة السمراء، عكس باقي مناطق العالم.