حزب العمال وقسد والجولاني.. خريطة جديدة ومعطيات متذبذبة.. هل يترك الـPKK سلاحه امتثالاً لأوجلان؟ وهل يطلق أوجلان دعوة كتلك؟

انفوبلس..
بلقاء متلفز، طرح السياسي الكردي ووزير الخارجية الأسبق هوشيار زيباري توقعاً بأن زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان سيأمر أتباعه في منتصف الشهر الجاري بإلقاء السلاح والتعامل مع قضاياهم بدبلوماسية، الأمر الذي يثير العديد من التساؤلات، وأبرزها: هل ستخضع "قسد" للجولاني؟ وما مصير أكراد سوريا في حال تحقق سيناريوات كتلك؟
رأي تركي
وفي هذا الصدد، تتوقع أوساط سياسية تركية أن يطلق زعيم حزب العمال الكردستاني (PKK)، عبد الله أوجلان، نداءً، في منتصف شباط/ فبراير الجاري، يدعو فيه أعضاء حزبه إلى التخلي عن السلاح.
هذه الخطوة المتوقعة سبقتها دعوات سلام أطلقها قادة وسياسيون أتراك للتسوية مع حزب العمال الكردستاني، إضافة إلى لقاء أجراه نواب عن حزب المساواة وديمقراطية الشعوب "ديم" الكردي مع أوجلان، في سجنه الانفرادي في جزيرة إمرلي.
باكير أتاجان، مدير مركز إسطنبول للفكر والدراسات الاستراتيجية التركي، يقول إنه لا خيار أمام حزب العمال الكردستاني في هذه المرحلة سوى التفاهم مع الدولة التركية والاستجابة لدعوات السلام وإلقاء السلاح.
وأكد أتاجان، إن لحزب العمال الكردستاني أجنحة وتيارات قوية تدعمها دول إقليمية ودولية أبرزها إيران.
وأوضح، إن الجناح الإيراني ينشط في العراق وسوريا وإيران وتركيا وهو لا يأتمر بأوامر أوجلان، بل بقادته وهؤلاء أبرز المعارضين لدعوات السلام التركية.
ويرى أتاجان، أن قسما كبيرا من أجنحة الحزب قد تتجاوب مع نداء زعيمهم باستثناء بعض الأجنحة المتواجدة في جبال قنديل شمال العراق وشرق سوريا وإيران ودول أوروبية وهؤلاء لا يشكلون سوى 30% من أجنحة الحزب العسكرية، بحسب أتاجان.
وأضاف مدير مركز إسطنبول للفكر، إن قادة حزب العمال يدركون جيدا أن ليس بإمكانهم الصمود من دون دعم خارجي وهذا الدعم تراجع كثيرا بعد سقوط نظام الأسد، وابتعاد روسيا وإيران والعراق ودول أوروبية وما تبقى هو دعم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة بافل طالباني وهذا لن يكون له تأثير.
ما المقابل؟ ومن سيلتزم؟
المراقب السياسي المقرب من حزب العمال الكردستاني محمد بنجويني قال، إنه لا يمكن الجزم بأن أوجلان قد يوجه خلال كلمته نداءً لحزبه بالتخلي عن السلاح بالشكل الذي تطلبه تركيا.
ونفى بنجويني وجود أجنحة بولاءات مختلفة داخل العمال الكردستاني، وقال إنه لا توجد أجنحة، بل آراء مختلفة بشأن القضايا المصيرية، وهذا أمر طبيعي في حزب كبير لديه شعبية كبيرة وأعضاء ومناصرون كثر في أجزاء كردستان الأربعة: تركيا والعراق وإيران وسوريا وحتى في أوروبا والعالم.
وأضاف بنجويني، أنه سبق أن جرت مفاوضات سلام عديدة بين الطرفين منذ عام 2010 بوساطات دولية وبنفس المطالب التركية الداعية إلى نزع سلاح حزب العمال الكردستاني لم يُكتب لها النجاح.
وزاد بنجويني، أنه لا يعتقد أن قادة الحزب في قنديل وأماكن أخرى سترضى بنزع السلاح، حتى لو وجه زعيم الحزب هذه الدعوة.
وأضاف، كيف يقبل قادة الحزب تسليم السلاح بمجرد كلمة او دعوة من زعيمهم داخل السجن، تسليم السلاح مقابل أي شيء؟
وأوضح، أنه يجب أن تقدم تركيا ضمانات لسلامة قادة ومقتلي الحزب إذا ما سلموا السلاح وضمانات لحل القضية الكردية ايضا وأن يتم ذلك بإشراف الأمم المتحدة ودول كبرى مثل الولايات المتحدة الأميركية.
ومنذ بدء الصراع بين تركيا وحزب العمال الكردستاني بداية ثمانينيات القرن الماضي طُرحت مبادرات سلام عديدة.
ففي آذار عام 1993 أعلن حزب العمال وقف إطلاق النار من جانب واحد انتهت بعد شهر من وفاة الرئيس التركي تورغت أوزال في أبريل من نفس العام.
وفي عام 1999 أعلن الحزب مرة أخرى وقف إطلاق النار من طرف واحد واستمر حتى يونيو عام 2004. وفي يوليو عام 2010 جرت مفاوضات سرية بين الجانبين في العاصمة النرويجية أوسلو لم تسفر عن نتائج.
وخلال عامي 2012 و2013 جرت محادثات بين المسؤولين الأتراك ورئيس حزب العمال عبد الله أوجلان في السجن من أجل التوصل إلى سلام دعا بعده أوجلان حزبه الى وقف القتال لكنه أنتهى في يوليو عام 2015.
رأي من أكراد العراق
عضو الحزب الديمقراطي الكردستاني محمد زنكنة أكد تعدد الولاءات داخل حزب العمال الكردستاني بعضها لدول إقليمية منها إيران والمتمثلة في جناح " جميل بايك ".
ويقول إن هذا الجناح لن يرضى بإلقاء السلاح ويرفض أي مبادرة للسلام مع تركيا، حتى لو صدرت عن زعيم الحزب عبد الله أوجلان، والطرف الآخر هو جناح قريلان المنفتح على أي مبادرة للسلام، أما الجناح السياسي للحزب في تركيا فلا حول له ولا قوة.
وأوضح زنكنة أن حزب الحياة الحرة الكردستاني "بزاك" أوقف جميع عملياته العسكرية ضد إيران منذ عام 2008 وباتوا مكملين للحرس الثوري الإيراني في مهاجمة مقرات وعناصر "الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني". وحزب الجماعة الكردي الإيراني "كوملة".
وأشار إلى أن اجتماعات عدة جمعت قادة حزب العمال الجناح الإيراني بمسؤولين في الحرس الثوري الإيراني وعلى رأسهم قائد قوات فيلق القدس الإيراني السابق قاسم سليماني.
وبين عضو الحزب الديمقراطي الكردستاني أن قادة الجناح الإيراني لحزب العمال الكردستاني متواجدون في جبال قنديل وأطراف محافظات أربيل ودهوك وقضاء سنجار وسهل نينوى ومناطق أخرى في كردستان العراق وكردستان تركيا وسوريا أيضا، ولديهم استثمارات عديدة في أوروبا.
من جهته نفى عضو الاتحاد الوطني الكردستاني غياث سورجي تقديم حزبه أي دعم للعمال الكردستاني، وأكد أن الحديث عن مثل هذا الدعم مجرد ادعاءات كاذبة ومغرضة الهدف منها النيل من حزبه.
ويرى سورجي أن دعم إيران لجناح معين في حزب العمال الكردستاني "إن كان صحيحا" فهو أمر طبيعي في ظل الصراعات والمصالح الإقليمية في المنطقة ومن منطلق "عدو عدوي هو صديقي" وهذا لا يعني أن حزب العمال عميل لإيران بل إنه بحاجة الى دعم لديمومة نضاله.
وأشار سورجي إلى أن العمال الكردستاني مصنف على قائمة الإرهاب لدى العديد من الدول وفي العراق هو حزب محظور، وأن الاتحاد الوطني الكردستاني لا تربطه بالحزب المذكور أي علاقة لا من قريب ولا من بعيد.
وأضاف عضو حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، أن حزبه ليس دولة لديها الإمكانيات التي تسمح له بدعم أحزاب أو منظمات.
لكن الأحزاب الكردية في أجزاء كردستان لديها قضية مشتركة ومصير مشترك وجميعها متعاطفة مع بعضها بشكل او بآخر، وفق سورجي.
إلى ذلك، يرى المراقب السياسي فائق كولبي أن دعوات السلام التركية يجب أن تتزامن مع ضمانات دولية وإصلاحات دستورية تمنح القوميات غير التركية حقوقها وتعترف بها، حينها يمكن التوصل الى سلام دائم في تركيا.
وأشار إلى أن جميع أجنحة حزب العمال الكردستاني تستجيب لدعوة رئيس الحزب عبد الله أوجلان إذا ما طلب منهم القاء السلاح والدخول في معاهدة سلام مع الحكومة التركية.
هل ترضخ "قسد" للجولاني؟
قال مدير المركز الإعلامي لـ"قوات سوريا الديمقراطية (قسد)" فرهاد شامي، إن تركيا تسعى لعرقلة "الحوار الإيجابي" مع الإدارة السورية الجديدة، مشيراً إلى ضغط تركي على الحكومة في دمشق.
وأضاف شامي، في تصريحات صحافية، أن الحوارات مع دمشق مستمرة وهي ضرورية لتحقيق السلام والاستقرار، مشيراً إلى أن سكان شمال سوريا قادرون على إدارة أنفسهم.
وقال شامي: هناك أطراف خبيثة لا تعجبها تلك الحوارات، وتعمل على إفشالها. حيث كنا في مرحلة متقدمة لحل القضايا المتعلقة بالأحياء ذات الغالبية الكردية في حلب، والإدارة في دمشق كانت راضية بالحوار، ونقاط الاتفاق كانت قوية، لكن تركيا تدخلت ومنعت توقيع الاتفاقية بيننا والإدارة في دمشق.
وأشار القيادي في "قوات سوريا الديمقراطية" إلى أن انضمام قوات "قسد" إلى الجيش السوري سيكون عامل قوة لهذا الجيش، مشدداً على أن تركيا لن تبني جيشاً في سوريا إنما "ميليشيات" تابعة لها.
وتطرق شامي للأنباء حول إعداد خطط انسحاب أميركي من سوريا، وقال إن القوات الأميركية الموجودة في المنطقة تُظهر عزماً متواصلاً لمواصلة العمل مع (قوات سوريا الديمقراطية) لمحاربة تنظيم (داعش)، ولم نتلق منهم أي تقرير بالانسحاب.
أما ممثلة مجلس "قسد" ليلى موسى، فقالت "إنهم مع بقاء القوات الأمريكية حتى يستقر الوضع في البلاد"، مضيفة في تصريح إعلامي لها، أنه "في حال مغادرة الأمريكيين، فإن الأكراد سوف يدافعون عن أراضيهم وعن المكتسبات التي حققوها".
علاقة حزب العمال مع "قسد" قبل سقوط نظام الأسد
في عام 2022، نشر برنامج "مسارات الشرق الأوسط" التابع لمعهد الجامعة الأوروبية دراسة بشأن العلاقة بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وحزب العمال الكردستاني (PKK) رصدت "علامات شقاق" بين الطرفين بدأت بالظهور مؤخراً.
وتوضح الدراسة أن قيادات قسد والإدارة الذاتية شمال شرقي سوريا انقسمت بين مؤيد لحزب العمال الكردستاني وراغب في بالتقرب من نظام الأسد، وطرف آخر يحاول النأي عنهما والاقتداء بنموذج كردستان العراق.
وفي تلك الفترة زادت انتقادات قيادة حزب العمال الكردستاني لـ"الإدارة الذاتية" في شمال شرقي سوريا، وقد انصب انتقادها على مظلوم عبدي قائد أركان قوات سوريا الديمقراطية (قسد) على وجه الخصوص. وأصبح الحرس القديم في حزب العمال الكردستاني يظهر ميلاً واضحاً نحو التعايش مع نظام الأسد.
تعكس الملاحظات التي أبدتها قيادات قنديل نهجين مختلفين لدى حزب الاتحاد الديمقراطي و"قسد"، إذ يحاول "عبدي" ومن انحاز له أن يتبعوا نهجاً سياسياً براغماتياً في شمال شرقي سوريا، في حين أن آلدار خليل، وهو أهم شخصية ميالة لحزب العمال الكردستاني من داخل حزب الاتحاد الديمقراطي، يتبع ويقود نهجاً مختلفاً عن نهج "عبدي". وبالاعتماد على معلومات من مصادر مفتوحة وعلى العديد من المقابلات، تقدم هذه الدراسة هذين النهجين اللذين ظهرا لدى حزب الاتحاد الديمقراطي و"قسد".
انتقد رئيس اتحاد مجتمعات كردستان (KCK)، وهو كيان مظلة لحزب العمال الكردستاني وما يرتبط به من تنظيمات، سلطات الإدارة الذاتية في مناسبات مختلفة. ففي أواخر عام 2020، انتقدت "بيسيه هوزات" الإدارة الذاتية لقيامها بإعداد "أجندات زائفة" ومتابعة مطالب السكان المحليين بدلاً من شن "حرب الشعب الثائر". وبالطريقة ذاتها، انتقد جميل بايق "الإدارة الذاتية" وقائد أركان قسد لاعتمادهما على الولايات المتحدة بدلاً من المشاركة في حوار سياسي صادق مع النظام في سوريا.
ففي مقابلة أُجريت في تشرين الأول 2021، أكد بايق على العلاقة التاريخية التي تربط بين حزب العمال الكردستاني وسوريا والصداقة الشخصية التي تجمع بين عبد الله أوجلان وعائلة الأسد. ومضى أبعد من ذلك حيث شدد على أن المواجهة أو العداء بين حزب العمال الكردستاني وعائلة الأسد أمر غير مطروح، كما أكد على عدم انقطاع التعاون بين حزب العمال والنظام في سوريا على مر السنين. بيد أن التوقيت الذي ظهرت فيه تصريحات بايق جدير بالملاحظة والاهتمام، كونه صرح بذلك بعد زيارة إلهام أحمد، رئيسة اللجنة التنفيذية للمجلس الديمقراطي السوري، لواشنطن بفترة قصيرة.
بعد ذلك قامت المحطات والقنوات الإعلامية التابعة للإدارة الذاتية بنشر وبث سلسلة من المقابلات مع شخصيات عديدة ضمن الإدارة وذلك لدعم تصريحات جميل بايق، فمثلاً، أكد آلدار خليل على استعداده لإجراء مفاوضات مباشرة مع النظام، كما شدد على ضرورة إيجاد حل "للأزمة السورية" في دمشق لا في جنيف. وهذه التعليقات والتصريحات التي ظهرت أخيراً، إلى جانب الشائعات التي انتشرت حول الاستعاضة عن مظلوم عبدي بمحمود برخدان، دفعت بهذين النهجين المختلفين داخل حزب الاتحاد الديمقراطي وقسد للظهور بشكل بارز من جديد.
منذ تأسيس "قسد" في عام 2015 المعروفة بارتباطها بحزب العمال الكردستاني، زاد ظهورها من المخاوف الأمنية لدى تركيا بطرق عديدة، كما أوجد ظهورها مبرراً للجيش التركي للتدخل في سوريا. ومن الناحية النظرية، ثمة طريقة للحد من مخاوف أنقرة، ولخفض التصعيد إلى أدنى مستوياته مع تلك الدولة العضو في حلف شمال الأطلسي، وتتمثل هذه الطريقة بإعادة فرض استقلالية "قسد" وإبراز صبغتها المحلية. كانت تلك على الأقل الطريقة التي فكرت بها الولايات المتحدة وطالبت بتنفيذها في بداية الأمر، ويبدو أن السكان المحليين قد وافقوا على ذلك النهج.
ثمة شريحة واسعة حقاً من السكان المحليين لم تشاطر حزب العمال الكردستاني في أديولوجيته أو في بنية وأسلوب الحكم الذي اتبعه. ولكن خلال فترة من الفترات تقبله السكان في تلك المنظمة بسبب ظهور خطر داهم أكبر تمثل بـ"تنظيم الدولة". ولكن مع عودة حياتهم إلى طبيعتها بالتدريج، ضعف تقبل السكان لهذا التنظيم، وأخذوا يطالبون بإقامة نظام شعبي وسياسي يعتمد على المشاركة بصورة أكبر. ولذلك يمكن لأحدنا أن يصف الجهود التي بذلها حزب الاتحاد الديمقراطي و"قسد" في مجال إضفاء الصبغة المحلية لا على أنها مجرد ردة فعل واستجابة للتشجيع على ذلك من قبل دول أخرى، بل أيضاً على اعتبار أن ذلك أتى بسبب تحقيقهما لتطلعات العناصر المكونة لهما ومتطلباتها.
في الاستجابة لتلك المطالبات، ظهر نهجان أساسيان داخل حزب الاتحاد الديمقراطي وقسد بكل وضوح، أحدهما براغماتي قائم على التقبل ويقوده مظلوم عبدي، والآخر تقليدي أبدى مقاومة أكثر، ويتبعه آلدار خليل. وبالرغم من أن التنظيم يعي وجود هذه النهجين المتماهيين معه حد التطابق، فإن شخصيات عديدة فضلت أن تبقى على الحياد.
يقوم نهج مظلوم عبدي على التطلع لإقامة علاقة عمل مع واشنطن، ولإبداء استعداد كبار الشخصيات التي تتبع هذا النهج البراغماتي لذلك، أخذ هؤلاء بمضاعفة جهودهم لتمتين العلاقة مع الولايات المتحدة، وأهم ناحية في هذه الشراكة تتمثل في التعاون العسكري، بالإضافة إلى مشاركة القوات في محاربة تنظيم الدولة. كما تبنى عبدي فكرة المشاركة عن طيب خاطر عندما طلبها منه داعموه، فسمح بوجود عناصر غير كردية داخل صفوف قسد بالتوازي مع مبادرته لإضفاء لمسة محلية على تلك القوات. وهكذا أصبحت مشاركة العرب والتركمان وغير ذلك من شرائح المجتمع بصرف النظر عن صلاتها التنظيمية أمراً واضحاً في جميع المجالات، وشملت عدداً كبيراً من الأفراد. تم تطبيق الفكرة ذاتها ضمن المؤسسات المدنية والاقتصادية وداخل البنى الحاكمة. حيث حاول البراغماتيون إقامة كيان شبيه بالدولة في شمال شرقي سوريا، ولتحقيق تلك الغاية، سمحوا بل شجعوا على تأسيس العديد من الأحزاب المحلية والمجالس العسكرية والمدنية، وتبنوا خطاب المشاركة الذي يلتزم بالهوية الوطنية السورية، كما اعتنقوا فكرة "الأخوة بين الشعوب".
وبخلاف البراغماتيين، اكتشف أتباع نهج المقاومة بأن مستقبلهم مع دمشق، فأكدوا على رغبتهم بإقامة علاقة عمل مع نظام الأسد، وهذا الجانب أيديولوجي جداً، إذ يعتمد أساسه المنطقي على أيديولوجية يسارية متشددة. ولهذا اعتنق أتباع هذا النهج موقف "الجماعة المسلحة" التي ما تزال ترى الأمور من منظور ظروفها وما حدث معها خلال سبعينيات القرن الماضي. وبالإضافة إلى ذلك، وبالنظر إلى الدور الذي لعبته الولايات المتحدة في القبض على زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان في كينيا في عام 1999، يشكك كل من حزب العمال والجناح الموالي له داخل حزب الاتحاد الديمقراطي بالنوايا الأميركية، إذ مثلاً، لم تكف قيادة حزب العمال عن اتهام الولايات المتحدة بتنفيذها لخطة ضد هذا التنظيم خصوصاً، ومحاولتها إضعاف حزب العمال في العراق، وإضعاف تأثيره في شمال شرقي سوريا. وبالفعل، ترى الولايات المتحدة في وجود حزب العمال الكردستاني على أنه عامل "يزعزع استقرار منطقة كردستان العراق، ولا تريد لهذا التنظيم أن يعزز وجوده في المنطقة، بالرغم من أن الولايات المتحدة لم تقم بخطوات ملموسة في هذا الجانب" (بحسب تصريحات لباحث كردي عراقي مقيم في أربيل رفض الكشف عن اسمه وأجريت المقابلة معه في كانون الأول 2021). والأنكى من ذلك هو أن قيادة حزب العمال الكردستاني تتهم الولايات المتحدة بالنفاق لكونها تتعامل مع قسد والإدارة الذاتية وتتجاهل "التأثير الكبير" لحزب العمال الكردستاني على المكاسب التي حققها حزب الاتحاد الديمقراطي وقسد في شمال شرقي سوريا.
في البداية، تضايق الحرس القديم في حزب العمال الكردستاني من تزايد شعبية عبدي عقب معركة كوباني التي وقعت في عام 2014، وصلاته الوثيقة مع مسؤولين عسكريين أميركيين فضلاً عن علاقاته مع دول أجنبية، وهذا ما دفع الحرس القديم للاعتقاد بأن عبدي يحاول أن يطغى بشعبيته وأن يتفوق بها على قيادة عبد الله أوجلان وما تحمله من رمزية. كما اعتبر أتباع نهج المقاومة داخل حزب الاتحاد الديمقراطي بأن العلاقة مع الولايات المتحدة التي بدأت عام 2014 ما هي إلا خطوة تكتيكية مؤقتة، بيد أنهم اكتشفوا اليوم بأن البراغماتيين أصبحوا يطالبون بشكل ممنهج بزيادة العلاقات مع الولايات المتحدة على أصعدة مختلفة وديمومتها، وخير دليل على ذلك ما ورد من تصريحات على لسان مظلوم عبدي وإلهام أحمد فيما يتصل ببقاء الوجود العسكري الأميركي في شمال شرقي سوريا. ولهذا، "وبالرغم من أن مظلوم عبدي جزء من حزب العمال الكردستاني بلا شك، فإن هذا التنظيم يحاول إضعافه بشكل ممنهج وذلك عبر تقوية غيره من كوادر حزب العمال" (وذلك وفقاً لما ذكره باحث كردي سوري مقيم في إسطنبول رفض الكشف عن اسمه وأجريت المقابلة معه في كانون الأول 2021).
أما المشكلة الثانية التي خلقت حالة توتر بين الطرفين فتتصل بالاتفاق حول النفط الذي تم التوقيع عليه في صيف عام 2020 بين "قسد" وشركة أميركية تعرف باسم دلتا كريسنت إينيرجي (هلال الدلتا للطاقة) وهي شركة ذات مسؤولية محدودة، حيث انتقد جميل بايق هذا الاتفاق، وذكر بأن سوريا "دولة ذات سيادة ومعترف بها دولياً، ولا يمكن لأحد أن يمتلك النفط فيها بما أن ملكيته تعود لكامل المجتمع السوري". وبالرغم من أن اتفاق النفط يعتبر مشروعاً مهماً بالنسبة لحزب الاتحاد الديمقراطي وقسد وذلك لإضفاء التنوع على علاقتهما بالولايات المتحدة، فإن هذا المشروع فقد أهميته بعدما قررت إدارة بايدن عدم تمديد التنازل الممنوح لتلك الشركة في أيار من عام 2021.
أما الناحية الثالثة للشقاق بين الطرفين فتتصل بأعمال تخريبية جرت في شمال شرقي سوريا، حيث نسبت تلك الأعمال للشباب الثوري (ذلك الحزب التابع لحزب العمال الكردستاني) الذي يتلقى أوامره بشكل مباشر من كوادر حزب العمال، إذ تم من خلال تلك الأعمال إحراق مكاتب المجلس الوطني الكردي، واختطاف أشخاص لم يبلغوا السن القانونية وذلك لأغراض عسكرية. وهكذا سكت الجانب الذي يتزعمه آلدار خليل عن معظم تلك الأحداث، وبالمقابل، "أبدى مظلوم عبدي سخطه تجاه هاتين المشكلتين في اجتماعاته المغلقة مع أعضاء المجلس الوطني الكردي، إذ ذكر في تلك الاجتماعات بأنه: "يريد أن يضع حداً لعملية إحراق المكاتب واختطاف القاصرين، لكنه اعترف بأن موقفه ليس قوياً بما يكفي ليقوم بذلك" (من مقابلة أجريت مع باحث كردي سوري مقيم في إسطنبول في كانون الأول 2021).
وأخيراً، فإن موقفَي عبدي وخليل يختلفان حول كردستان العراق والمحادثات بشأن الوحدة الكردية بينهما. فقد حاول مظلوم عبدي على الدوام أن يتفق مع كردستان العراق، بما أن الإدارة الذاتية تعتمد على معبر سيمالكا الحدودي. وعقب عملية نبع السلام التي أطلقتها تركيا والجيش الوطني السوري المتحالف معها في أواخر عام 2019، أطلق مظلوم عبدي محادثات بشأن الوحدة بدعم من الولايات المتحدة وذلك بين حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي الذي ينافسه والمدعوم من قبل أربيل. وقد تماشت تلك المحادثات مع مشروع أميركي يسعى لجعل الإدارة الذاتية كياناً يحظى بشرعية معقولة وذلك عبر خلق حالة من التنوع في المناصب الإدارية. وخلال تلك المحادثات، طالب المجلس الوطني الكردي بإخراج الكوادر غير السورية في حزب العمال الكردستاني من سوريا، لأنهم بحسب زعمه أصبحوا السبب الرئيس للتدخلات العسكرية من قبل تركيا، وما يعقب ذلك من مشكلات وقعت في المناطق ذات الغالبية الكردية في شمال شرقي سوريا. ولقد اعترف مظلوم عبدي بوجود كوادر غير سورية ضمن صفوف حزب العمال الكردستاني داخل الإدارة الذاتية و"قسد"، ووعد بإقالتها من مناصبها، من دون تحديد إطار زمني لذلك. غير أنه فشل في القيام بذلك. إذ بحسب ما ذكره شالال غادو قائد حزب اليسار الديمقراطي الكردي في سوريا وعضو ممثل للمجلس الوطني الكردي داخل الائتلاف الوطني لقوى المعارضة والثورة السورية، فإن مظلوم عبدي "لم يستطع أن يفي بوعده لأنه ليس صاحب القرار الأساسي داخل "قسد". كما أن إقالة كوادر غير سورية لا يمكن أن تتم إلا عبر قرار صادر من قيادات قنديل" (من مقابلة أجريت عبر الشابكة مع شالال غادو في كانون الأول 2021). وبسبب الشكوك المتبادلة وعدم حل العديد من المشكلات بين أطراف سورية متناحرة، فشل الحوار بخصوص الوحدة، ولم يعد المجلس الوطني الكردي متفائلاً حيال إعادة إطلاق تلك المحادثات من جديد بحسب ما ذكر غادو.
ويعاني حزب العمال الكردستاني من ضغوطات شديدة كونه يواجه تحديات كثيرة في سوريا وكردستان العراق، إذ يتعرض هذا التنظيم على الدوام لعمليات عسكرية من قبل تركيا وذلك في كردستان العراق، كما عانى من هزيمة في الانتخابات على يد مرشحي الحزب الديمقراطي الكردستاني في سنجار. والأنكى من ذلك أن التنظيم خسر أحد مسانديه الأقوياء وهو لاهور شيخ جانغي بعد طرده من الاتحاد الوطني لكردستان. والحق يقال إنه كلما زاد الضغط على حزب العمال الكردستاني، زاد عنف ذلك التنظيم. وبالنتيجة اتخذ هذا التنظيم موقفاً أكثر عدوانية تجاه المشكلات التي ظهرت مع البشمركة في كردستان العراق.
وبالمقابل، نجد مظلوم عبدي وقد التزم الصمت في معظم الأحوال طوال فترة النزاع بين الحزب الديمقراطي الكردي وحزب العمال الكردستاني، إذ تصرف ببراغماتية من أجل إنشاء كيان مشابه لذلك الذي تم تشكيله في كردستان العراق. وبخلاف عبدي، انحاز محمود برخدان وهو أحد كوادر حزب العمال الكردستاني الذين وصلوا إلى صفوف قسد، وكان أحد القادة العسكريين البارزين خلال معارك كوباني وعفرين، إلى حزب العمال الكردستاني بشكل واضح، وهدد كردستان العراق في حال قيام اشتباك مسلح جديد بين البشمركة وحزب العمال. وفي هذه الحالة، من الأسلم أن نفترض بأن محمود برخدان يعمل جنباً إلى جنب مع الجانب الذي يتزعمه آلدار خليل، أي أنه من الممكن أن يستعيض حزب العمال الكردستاني ببرخدان عن عبدي في المستقبل المنظور. وفي حال حدوث هذا السيناريو، من المؤكد أن برخدان لن يعارض هذا القرار، بل سيحاول أن يضطلع بدور جديد في السياسة. إذ سبق لعبدي أن أعرب عن رغبته بالمشاركة في السياسة مع تكريسه لوقته في المجال السياسي. وبناء على ذلك، من المرجح بالنسبة للجانب الميال لحزب العمال الكردستاني داخل حزب الاتحاد الديمقراطي وقسد أن ينتصر على النهج البراغماتي الذي يتزعمه عبدي.
ولا بد لهذا السيناريو أن يصب في مصلحة النظام في سوريا، فقد استغل النظام التهديدات التركية لشمال شرقي سوريا حتى تكون له اليد العليا في المحادثات التي جرت قبل ذلك بين "مجلس سوريا الديمقراطي" والنظام في دمشق، وفي قاعدة حميميم الجوية. غير أن تفاقم المشكلات بين حزب العمال الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني أدى إلى إغلاق معبر سيمالكا أخيراً، وهذا من المرجح أن يشجع آلدار خليل ومن يفكرون مثله في شمال شرقي سوريا على الاعتماد بشكل أكبر على دمشق بعد إغلاق ذلك المعبر. وقد يخلق هذا السيناريو فرصة لشخصيات ميالة لحزب العمال الكردستاني للتقرب من النظام لأن هذا ما يطمحون إليه. إلا أن ذلك لن يأتي من دون ثمن، لأن الإدارة الذاتية وحزب الاتحاد الديمقراطي لا بد أن يقدما تنازلات كبيرة مقابل ذلك.