نبوءة أم قراءة دقيقة للمستقبل؟.. 35 عاما على رسالة الإمام الخميني لغورباتشوف.. دعوة للإسلام وحلول واقعية لأزمة السوفييت.. تعرّف على مضامينها وآثارها
انفوبلس..
عقب انتهاء حرب الخليج الأولى، وفي مطلع عام 1989 أرسل الإمام الخميني رسالة لرئيس الاتحاد السوفيتي ميخائيل غورباتشوف يدعوه فيها إلى الإسلام بوصفه حلّاً للأزمات التي يمر بها اتحاده ويحذّره من الاعتماد على الدول الغربية لحل المشاكل الاقتصادية التي يعاني منها هذا الاتحاد.
وبعد مرور 35 عاماً على تلك الرسالة إلا أن أصداءها ما تزال تدوي في العالم لما تحتويه من رؤى ثاقبة لمستقبل الاتحاد السوفيتي وصفها بعض المحللين بالـ"نبوءة" لدقتها وتحقُّق ما جاء فيها بعد أقل من 4 سنوات على إرسالها.
في 3 كانون الثاني/ يناير 1989 كتب الإمام روح الله الخميني مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية رسالة إلى ميخائيل غورباتشوف الزعيم السابق لدولة الاتحاد السوفيتي. وفي 7 كانون الثاني/ يناير 1989 ذهبت مجموعة من نواب الإمام الخميني، وهم عبد الله الجوادي الآملي ومرضية حديدجي وكذلك محمد جواد لاريجاني، إلى موسكو ليسلّمُوا الرسالة رسميّاً. فرحّب مسؤولو الاتحاد السوفيتي الوفد الإيراني في المطار وزارهم بعد ذلك غورباتشوف واستغرقت هذه الزيارة ساعتين تقريباً. وقام المفسّر بترجمة الرسالة لغورباتشوف وزملائه وقرأها لهم وكانوا يستمعون إليه وأحياناً يكتب غورباتشوف بعض النقاط الهامة من الرسالة.
نقاط الرسالة الرئيسية
حملت رسالة الإمام الخميني دعوةً إلى غورباتشوف للتخلي عن العقيدة الشيوعية والالتحاق بالإسلام والتوقف عن محاولة محو الهوية الإسلامية لمواطني جمهوريات آسيا الوسطى السوفياتية. وقد استعان الإمام الخميني في توضيح وجهة نظره بإحالات عدة إلى الفلسفة العربية الإسلامية وإلى التصوف الإسلامي للقول بتفوق الإسلام عقيدةً ومنهجاً فكريًا على الماركسية المادية. فلذلك نجد أن هناك شيئًا من الصعوبة في فهم معاني الجمل والعبارات التي استخدمها الخميني في هذه الرسالة.
في بداية الرسالة وفي الفقرة الأولى منها يشير الإمام الخميني إلى طريق النجاة للاتحاد السوفيتي ويقول:
«فإن القضية الأولى التي ستكون يقيناً سبباً لنجاحكم هي أن تُعيدوا النظر في سياسية أسلافكم المتمحورة حول محاربة الله واستئصال الدين من المجتمع فهذه السياسة بلا شك هي التي أنزلت أكبر وأهم ضربة على جسد الشعب السوفياتي؛ واعلموا أن التعامل مع القضايا العالمية لا يمكن أن يكتسب الصبغة الواقعية إلا من خلال هذا الطريق».
يشير الإمام الخميني في الفقرة التالية إلى عجز الرأسمالية الغربية التي يتوسل إليها الاتحاد السوفيتي في حل المشاكل الاقتصادية؛ حيث يقول:
«إنكم إذا أردتم أن تحصروا جهودكم لحل العقد المستعصية في الاقتصاد الاشتراكي والشيوعية في هذه المرحلة باللجوء إلى مركز الرأسمالية الغربية، فاعلموا أن نتيجة ذلك لن تنحصر في العجز عن معالجة شيء من آلام شعبكم، بل ستتجاوز ذلك إلى إيجاد حالة تستلزم مجيء مَن يعالج آثار أخطائكم، لأن العالم الغربي مبتلٍ أيضاً بنفس ما ابتُليت به الماركسية اليوم من وصول مناهج تعاملها مع القضايا الاقتصادية والاجتماعية إلى طريق مسدود، بل وهو مصاب بمشاكل أخرى أيضا، والفرق هو في الصور والظواهر».
إحدى النقاط الهامة التي يضيفها روح الله الخميني إلى الرسالة هي توجّه الشيوعية إلى متاحف التاريخ السياسي العالمي، ويذكر السبب لهذا الادعاء عدم تلبية الماركسية لأي شيءٍ من الاحتياجات الإنسانية الحقيقية:
«حضرة السيد غورباتشوف… لقد اتضح للجميع أن البحث عن الشيوعية يجب أن يتوجه من الآن فصاعدا إلى متاحف التاريخ السياسي العالمي!! أما لماذا؟! فلأن الماركسية لا تلبّي شيئا من احتياجات الإنسان الحقيقية، لماذا؟ لأنها مذهب مادي، ومحال إنقاذ البشرية بالمادية من الأزمة التي خلقها فقدان الإيمان بالمعنويات، وهو الذي يمثل العلّة الأساسية لما تعانيه المجتمعات الإنسانية شرقية كانت أم غربية».
وفي الفقرة التالية يوجه الخميني الكلام إلى ضرورة إعادة النظر في الفلسفتين المادية والإلهية:
«السيد غورباتشوف عندما ارتفع نداء «الله أكبر» وإعلان الشهادة برسالة خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) من مآذن المساجد في بعض جمهورياتكم، فجَّر دموع الشوق في أعين أنصار الإسلام المحمدي الأصيل كافة، الأمر الذي ألزمني أن أذكركم بضرورة إعادة النظر في الفلسفتين المادية والإلهية».
ربما تعتبر الفقرة التالية من أهمّ فقرات هذه الرسالة حيث يشير فيها الخميني إلي سماع صوت تهشّم عظام الشيوعية حيث يقول:
«...إن الحكومات الحليفة لكم، التي تخفق قلوبها لمصالح أوطانها وشعوبها، لن تكون على استعداد بعد الآن، لهدر ثرواتها بكلا نوعيها الجوفي وغيره من أجل إثبات نجاح الشيوعية بعدما وصل صرير تهشم عظام الشيوعية إلى أسماع أبناء تلك البلدان».
وبالتالي يدعو الإمام الخميني غورباتشوف إلى التحقيق حول الإسلام كوسيلة لإنقاذ الشعوب وحل الأزمات البشرية كافة:
«حضرة السيد غورباتشوف… والآن... أطلب منكم أن تحققوا بدقة وجدية حول الإسلام؛ ليس لأن الإسلام والمسلمين بحاجة إليكم؛ بل لما يتضمنه الإسلام من قيم سامية، ولما يمتاز به من شمولية بحيث يستطيع أن يكون وسيلة لراحة وإنقاذ الشعوب، وحل الأزمات الأساسية كافة التي تعاني منها البشرية. إن التدبر والتوجه الجادّ للإسلام يمكن أن ينقذكم من مشكلتكم في أفغانستان وأمثالها في العالم».
يقول الإمام الخميني (قدس) في رسالته : “حضرة السيد غورباتشوف، لقد وجه الزعيم الصيني ماو تسي تونغ الضربة الأولى للشيوعية، وها أنتم تنزلون بها الضربة الثانية، ويبدو أنها القاضية. ولكنني أطلب منكم، على نحو أكيد، أن تحذروا من الوقوع في سجن الغرب والشيطان الأكبر فيما أنتم تحطمون جدران الماركسية”.
تجدر الإشارة إلى أنّ غورباتشوف نفسه أعلن ندمه لعدم تنفيذ وصية الإمام الخميني (قدس)، معلناً لأحد الصحفيين بعد حوالي 12 عاماً من رسالة الإمام الراحل "إني أتأسف لعدم تفهمي لتلك الرسالة آنذاك كي لا يقع الاتحاد السوفيتي في هذا الوضع".
أحد أعضاء الوفد متحدثاً عن الرسالة
وفي حوار صحفي كشف سفير الجمهورية الإسلامية في الاتحاد السوفياتي السابق الدكتور ناصر نوبري والذي كان ضمن الوفد الذي أرسله الإمام الخميني (قدس) إلى موسكو للقاء غورباتشوف بتاريخ 3 كانون الثاني 1989م العديد من تفاصيل ومضامين وأسباب الرسال، فكان هذا الحوار:
- ما الذي دفع الإمام الخميني (قدس) لتوجيه رسالة إلى رئيس الإتحاد السوفياتي السابق غورباتشوف؟ وما هو محتوى الرسالة؟
في العالم ثنائي القطب آنذاك، كان الاتحاد السوفياتي إحدى القوتين العظيمتين في العالم، لكنه عانى من تخلف وأزمة داخلية عميقة، وسعى زعيم البلاد غورباتشوف بصفته مصلحاً لإجراء إصلاحات وإنقاذ البلاد مما هي كانت فيه، وقد بيّن غورباتشوف أنّه جاد في هذا المسار، لكن الأمور أصبحت غامضة ومُربكة بالنسبة له.
من جهته سعى الإمام الخميني الراحل (قدس) عبر رسالته بمضمونها السياسي والعقائدي تحذير الرئيس السوفياتي غورباتشوف من الانحراف مشيراً إلى المسار الصحيح الذي عليه اتخاذه.
رسالة الإمام الخميني كان لها فحوى سياسية وايديولوجية، ففي الجانب السياسي حذر غورباتشوف من مغبة الثقة بالغرب وأنّ لا يعتمد على العلاقات مع الغرب ولا على مساعداته، مؤكداً على أن هذا الغرب يظهر نفسه كصديق الاتحاد السوفياتي الوفي لكنه في ساحة الفعل والواقع لن يتعاون ويتعاضد مع الاتحاد السوفياتي.
في الجانب الإيديولوجي، صرّح الإمام بادئ الأمر بأنّه يراقب عن كثب وبدقة الإجراءات التي يتخذها غورباتشوف وتبيّن له أنّ هذا الأخير لا يؤمن بالشيوعية، فطلب منه أن يضع نهايةَ رسميةً وعلنية للشيوعية في الاتحاد السوفياتي.
وقد بّين الإمام الراحل بالتفصيل، إنّ التوجه إلى المادية ومجابهة المعتقدات الوحدانية والإيمان بالله، هي معضلة كبرى للاتحاد السوفياتي، مؤكداً على ضرورة تحرك ذلك البلد باتجاه المعتقد الروحي والإيمان بالباري تعالى، ولذا اقترح مطالعة كتب ومؤلفات الفارابي وابن سينا والسهروردي وصدر المتألهين ومحي الدين ابن عربي.
- من هم الذين أوصلوا الرسالة إلى غورباتشوف؟ ولماذا تمّ اختيارهم من قبل الإمام الراحل (قدس)؟
قام الإمام الراحل بنفسه باختيار شخصين ضمن الوفد، أي آية الله جوادي آملي والسيدة مرضية دباغ، أمّا أنا فقد شاركت بصفتي سفير إيران لدى الإتحاد السوفياتي السابق والسيد جواد لاريجاني بصفته مساعد شؤون أوروبا وأمريكا في وزارة الخارجية، لنُشكل وفداً من أربعة أعضاء.
تجدر الإشارة إلى أن الإمام الخميني(قدس)، ونظراً لأن مضامين رسالته مفصلة وذات أهمية عالية فلسفياً وعقائدياً ، فقد اختار آية الله جوادي آملي ليقدم ويعرض هذه الرسالة، كما اختار الإمام الراحل السيدة دباغ عضواً في الوفد ليُبيّن أنّ الإسلام يولي أهمية واحتراماً استثنائياً للمرأة، وعلى الجمهورية الإسلامية بدورها أن تولي هذا الاحترام والدور الرفيع للنساء.
- ما الذي حدث في الاجتماع مع غورباتشوف؟ وكيف كانت معاملته معكم كأعضاء للوفد؟
قبل اللقاء مع غورباتشوف، ونظراً لتأكيد الإمام الراحل على ضرورة تخلي الرئيس الروسي عن الشيوعية والتوجه نحو الإسلام، تصور الوفد أن غورباتشوف ستُثار حفيظته وسيتعامل بحدة مع رسالة الإمام لكنني كنت مخالفاً لهذا التصور وتكهنت بأنه سيتعاطى باحترام، وكان الأمر كذلك. علماً أن غورباتشوف بيّن أنه تفاجأ للغاية من محتويات الرسالة ولم يكن يتوقعها. وكان يوجه أنظاره تارةً إلى يساره حيث جلس رئيس لجنة العلاقات الخارجية للحزب الشيوعي، وتارةً إلى يمينه حيث كان وكيل وزارة الخارجية الروسية. وقام بإغلاق ملف موضوع على الطاولة أمامه، وقد دلت نظراته على أنّ ما من أحد من أعضاء حكومته توقع مثل هذه الرسالة. لكنه قال في نهاية الأمر إنّ الرسالة مفهومة تماماً وهي جديدة عليه ويتوجب مطالعتها وسيرسل في المستقبل في أقرب فرصة سانحة وزير خارجيته لمقابلة الإمام واطلاعه على الجواب.
- كيف تعاطى الاتحاد السوفياتي مع الرسالة؟
لم ينشر الروس نص الرسالة، بل اكتفوا بالتأكيد على مجملها وأعربوا عن الأمل في إحلال علاقات حسن الجوار بين البلدين. لكننا قمنا بنشر هذه الرسالة في إيران، والتي قام الروس بحذف أجزاء منها في الاتحاد السوفياتي، وبهذا لم يطلع عليها عامة الناس والمسلمين في ذلك البلد. لكن السفارة بذلت الجهود لنشرها وتناقلتها الأفواه، وبعد ستة أشهر وإثر رحيل الإمام، قمنا بفتح كتاب لتقديم التعازي، وكان المطر في ذلك اليوم ينزل بغزارة، جاءت شابة روسية مبللة تماماً بمياه الأمطار، إلى السفارة ورمت بنفسها على الأرض مقابل صورة الإمام الراحل وقالت والدموع تنهمر من عينيها إنّ الإمام الخميني الراحل(قدس) رجلٌ عظيم الشأن في عالمنا والذي تحلى بالشجاعة داعياً زعمائنا الشيوعيين للإيمان بالله، في حين لم يجرؤ قادتنا المسيحيون الى مثل هذا.
- تحقق ما قال الإمام الخميني(قدس) لغورباتشوف وانهار الإتحاد السوفياتي بعد مضي سنوات قليلة من توجيه الرسالة التحذيرية لغورباتشوف. برأيكم ما هو العامل الرئيسي لانهيار الاتحاد السوفياتي؟
ارتكب غورباتشوف خطأً استراتيجياً، وتوجه إلى ممارسة السياسة الخارجية والمفاوضات وإزالة التوتر مع أمريكا والغرب. من جانبهم ضغط الإصلاحيون بشكلٍ متواصل على الرئيس وتذكيره دائماً بأنّ الخطوات التي اتخذها نحو الغرب وخفض التوتر معه غير كافية ويتوجب عليه اتخاذ خطوات أكبر. عندما يواجه بلد استياءً وأزمة داخلية فالحل لن يكون في الخارج، أمّا ضغوط الإصلاحيين على الحكومة للتوجه نحو الخارج أثناء الأزمة الداخلية فتُعبر عن حماقة وخيانة بحق البلاد، أي بعبارةٍ أخرى كان الإصلاحيون يقولون : امنح الامتيازات للخارج لكي تتغلب على المشاكل الداخلية. هذا في حين أنّ الأزمة الداخلية تُحل بإعطاء الامتيازات للشعب في الداخل والتوجه يجب أن يكون للداخل للحل، وليس التوجه وإعطاء الامتيازات للأجنبي! فمن وجهة النظر الوطنية، عند بروز أزمات داخلية فإنّ التغلب على مشاكلها يجب أن يبدأ عبر حلها اعتماداً واتكالاً على الشعب ونيل ثقته.
فأمريكا سعت لسنوات عديدة أملاً بانهيار الاتحاد السوفياتي، فكيف يمكن توقع تقديمهم المساعدة لك وإنقاذك من الانهيار والتفكك. فكما ذكّر الإمام في رسالته إلى غورباتشوف، الغرب يُمني بالأمل لكنه لا يقدم العون في ساحة العمل. جاء الأمريكان إلى طاولة المباحثات واستغلوا الفرصة وحصلوا على امتيازات، لكنهم لم يقدموا ولا حتى أقل ما يمكن من المساعدة ولم يقدموا حتى أقل مقدار من القرض، بل رفضوا طلباً بذلك من غورباتشوف.
من جهةٍ أخرى أعتقد المحافظون والمتعصبون الإيديولوجيون إنّ أي شكل من أشكال التحول والتعديل البنيوي لمصلحة الشعب أو التعاطف معهم من قبل غورباتشوف سيؤدي إلى سلسلة تحولات، كقطع الدومينو، مؤدياً إلى انهيار النظام. هذا في حين أنّ العكس هو الصحيح، إذ أنّ عدم إحلال التحول الأساسي وفي الوقت المناسب لصالح الشعب سيحول الجماهير كالسيل العارم للقضاء على النظام بسرعة. كان المحافظون والدوغماتيون المتعصبون قد تمردوا وأقدموا على قمع الناس، منعاً منهم لأي تحول من قبل غورباتشوف.
من ناحيةٍ أخرى، فإنّ الإصلاحيين الذين اعتبروا خطوات غورباتشوف والتحولات التي قام بها غير كافية، عملوا على دعوة الشعب إلى الشوارع وأقدموا بدايةً على إنهاء التمرد ثم أسقطوا غورباتشوف وأسقطوا الاتحاد السوفياتي ونصبوا يلتسين حاكماً في روسيا المستقلة.
يُذكر أن يلتسين أبدى كل أشكال الميل نحو أمريكا والغرب، إلى حد انتشرت إشاعة بأنّ واشنطن تتدخل في شؤون روسيا إلى حدّ عينت “كوزيروف” وزيراً لخارجية لها، لكن أمريكا والغرب لم يقدموا أي عون ومساعدة فوصل الفقر والفاقة إلى أوجه وذلك خلال عقد من الزمن في روسيا، وعملت أمريكا على فصل جنوب البلاد وكذلك على انهيار روسيا الضعيفة تماماً . لكن بالنهاية استيقظ الشعب الروسي واستقال يلتسين من منصبه بعد تقديمه الاعتذار وإعرابه عن الندم لما جرى.
كما ذكرت آنفاً كانت هناك عوامل عديدة أدت لانهيار الاتحاد السوفياتي، لكن العامل الأساسي هم المحافظون المتعصبون الذين لم تسمح إيديولوجيتهم المتعصبة بإحداث تحولات واسعة وفي الوقت المناسب وإصلاحات بنيوية جدية، وأقدموا على قمع الشعب ما أدى إلى توجه الشعب بأعدادٍ هائلة إلى الشوارع وبالتالي إلى التداعي التام للنظام. علماً أنّ هذه التحولات والإصلاحات البنيوية أجرتها الصين الشيوعية، لتضحى وحزبها الشيوعي الآن إحدى القوتين العظميتين الدوليتين، في حين ذهب الإتحاد السوفياتي وحزبه الشيوعي أدراج الرياح.
ختاماً نستطيع القول لقد احتوت رسالة الإمام إلى غورباتشوف مجموعة قيمة من الدروس في السياسة والفلسفة، وحملت من التنبؤات ما جعلها فريدة في بابها. فقد حملت أفكاراً في الفلسفة ثمينة، من ذلك الصنف الذي تخلت عنه الإنسانية، التي انساقت في تيارات الثقافة الأميركية السطحية التي تخاطب الغرائز وتحارب كل ما هو أصيل لدى الإنسانية.
النص الكامل للرسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
السيد غورباتشوف رئيس المجلس الأعلى لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية ، بعد الإعراب عن الأماني بالتوفيق والسعادة لكم وللشعب السوفياتي، فقد رأيت من الضروري التذكير ببعض القضايا انطلاقا من أن تصديكم للقيادة قد ولد إحساسا بأنكم قد أصبحتم في حالة جديدة تتسم بإعادة النظر والتغيير والتعامل الجديد في تحليل الحوادث السياسية العالمية، لا سيما المرتبطة بالقضايا السوفياتية، عسى أن تكون جرأتكم وشجاعتكم في التعامل مع حقائق الواقع العالمي منبعا لإحداث تغييرات؛ وسببا لقلب المعادلات الحاكمة فعلا في العالم.
وعلى الرغم من أن تفكيركم وقراراتكم الجديدة قد تكون محصورة في إطار أسلوب جديد لحل المشكلات الحزبية؛ وإلى جانبها حل بعض أزمات شعبكم؛ إلا أن هذا المقدار بحد ذاته جدير بأن تقدر فيه شجاعتكم في إعادة النظر بالمذهب الفكري الذي سجن الثوريين في العالم بين أسواره الحديدية لسنين متمادية.
وإذا فكرتم بما فوق هذا المقدار، فإن القضية الأولى التي ستكون يقينا سببا لنجاحكم هي أن تعيدوا النظر في سياسة أسلافكم المتمحورة حول محاربة الله واستئصال الدين من المجتمع. فهذه السياسة بلا شك هي التي أنزلت أكبر وأهم ضربة على جسد الشعب السوفياتي؛ واعلموا أن التعامل مع القضايا العالمية لا يمكن أن يكتسب الصبغة الواقعية إلا من خلال هذا الطريق.
ومن الممكن أن يبدو العالم الغربي أمامكم وكأنه جنان خضر. فهذا نتيجة للأساليب الخاطئة والسياسات المنحرفة لأقطاب الشيوعية السابقين في المجال الاقتصادي؛ ولكن الحقيقة هي في مكان آخر.
إنكم إذا أردتم أن تحصروا جهودكم لحل العقد المستعصية في الاقتصاد الاشتراكي والشيوعية في هذه المرحلة باللجوء إلى مركز الرأسمالية الغربية، فاعلموا أن نتيجة ذلك لن تنحصر في العجز عن معالجة شيء من آلام شعبكم، بل ستتجاوز ذلك إلى إيجاد حالة تستلزم مجيئ من يعالج آثار أخطائكم، لأن العالم الغربي مبتل أيضاً بنفس ما ابتليت به الماركسية اليوم من وصول مناهج تعاملها مع القضايا الاقتصادية والاجتماعية إلى طريق مسدود، بل وهو مصاب بمشاكل أخرى أيضا، والفرق هو في الصور والظواهر.
السيد غورباتشوف...
الواجب هو التوجه نحو الحقيقة...
إن مشكلة بلدكم الأساسية لا تكمن في مشكلة الملكية والاقتصاد والحرية، بل إن مشكلتكم الأساسية هي فقدان الإيمان الحقيقي بالله، وهى نفس مشكلة العالم الغربي التي قادته إلى الانحطاط وإلى الطريق المسدود، أو ستجره إلى ذلك؛ إن أزمتكم الحقيقة تكمن في محاربتكم الطويلة والعقيمة لله مبدأ الوجود والخلق.
السيد غورباتشوف...
لقد اتضح للجميع أن البحث عن الشيوعية يجب أن يتوجه من الآن فصاعدا إلى متاحف التاريخ السياسي العالمي!! أما لماذا؟! فلأن الماركسية لا تلبي شيئا من احتياجات الإنسان الحقيقية، لماذا؟ لأنها مذهب مادي، ومحال إنقاذ البشرية بالمادية من الأزمة التي خلقها فقدان الإيمان بالمعنويات، وهو الذي يمثل العلة الأساسية لما تعانيه المجتمعات الإنسانية شرقية كانت أم غربية.
السيد غورباتشوف...
من المحتمل على نحو (الإثبات) ألا تكونوا معرضين عن بعض جوانب الماركسية، ومن المحتمل أن تظهروا عبر مقابلاتكم مستقبلا إيمانكم الكامل بها، ولكنكم أنفسكم تعلمون على نحو (الثبوت)حقيقة أن الواقع غير ذلك.
لقد وجّه الزعيم الصيني الضربة الأولى للشيوعية، وها أنتم تنزلون الثانية، ويبدو أنها القاضية؟ فلم يعد اليوم في عالمنا المعاصر شيء باسم (الشيوعية)، ولكني أطلب منكم بصورة مؤكدة أن تحذروا الوقوع في سجن الغرب والشيطان الأكبر وأنتم تحطمون جدران أوهام الماركسية.
آمل أن تنالوا الشرف الحقيقي لإنجاز مهمة استئصال آخر الأعشاش المهترئة لحقبة السبعين عاما من انحراف العالم الشيوعي، استئصالها من وجه التاريخ ومن بلدكم.
إن الحكومات الحليفة لكم والتي تخفق قلوبها لمصالح أوطانها وشعوبها، لن تكون على استعداد بعد الآن لهدر ثرواتها بكلا نوعيها الجوفي وغيره من أجل إثبات نجاح الشيوعية بعدما وصل صرير تهشم عظام الشيوعية إلى أسماع أبناء تلك البلدان.
غورباتشوف... عندما ارتفع نداء "الله اكبر" وإعلان الشهادة برسالة خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) من مآذن المساجد في بعض جمهورياتكم، فجر دموع الشوق في أعين أنصار الإسلام المحمدي الأصيل كافة، الأمر الذي ألزمني أن أذكركم بضرورة إعادة النظر في الفلسفتين المادية والإلهية.
لقد وضع الماديون في فلسفتهم تجاه قضايا الكون، "الحس" معيارا للمعرفة، فاعتبروا الشيء غير المحسوس خارجا عن دائرة العلم، واعتبروا الوجود قرين المادة الملازم لها، فما لا مادة له لا وجود له. وعليه، اعتبروا طبعا أن عالم الغيب كوجود الله تبارك وتعالى والوحي والنبوة والمعاد ضرب من الأساطير. في حين أن معيار المعرفة في الفلسفة الإلهية يشمل "الحس والعقل" فيدخل (المعقول ((المدرك بالعقل) دائرة العلم حتى لو انعدم إدراكه بالحس، لذا فإن الوجود يشمل عالمي الغيب والشهادة، فبالإمكان أن يكون (لما لا مادة له) وجود، وكما أن الوجود المادي يستند إلى "المجرد"، كذلك حال المعرفة الحسية فهي مستندة الى المعرفة العقلية.
والقرآن الكريم ينتقد أساس التفكير والفلسفة المادية ويرد على الذين يتوهمون عدم وجود الله استنادا الى أنه لو كان موجودا لشُوهد { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} (يرد عليهم قائلا (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير).
وحيث نمر على القرآن العزيز الكريم واستدلالاته فيما يرتبط بقضايا الوحي والنبوة والمعاد وهي من وجهة نظركم أول البحث فإني، لم أرغب في أن أزجّكم في تعقيدات مباحث الفلاسفة وتشعباتهم خاصة الإسلاميين، لذا فإني أكتفي بمثالين بسيطين اخترتهما بالإمكان إدراكهما فطريا ووجدانيا، ويستطيع السياسيون أيضاً الانتفاع منهما.
فمن البديهيات أن المادة والجسد مهما كانا، فهما جاهلان بذاتهما. فالتمثال الحجري والجسم المادي للإنسان لا يعلم أي من شطريه بحال الشطر الآخر. لكننا نشهد عيانا أن الإنسان وكذا الحيوان مطلع على ما حوله من كافة الجهات؛ فهو يعلم أين هو، وماذا يجري حوله، ويعلم أي ضجة تلف العالم. إذاً فهناك في الحيوان والإنسان شيء آخر فوق المادة ومن غير عالمها، وهو باق لا يموت بموتها.
وإن الإنسان بفطرته طالب لكل كمال بصورته المطلقة وأنتم تعرفون جيدا أن الإنسان ينزع إلى أن يكون القوة المطلقة، فلا يتعلق بأية قوة ناقصة محدودة؟ ولو أنه امتلك العالم وقيل له إن هناك عالما آخر، لمال فطرياً إلى إخضاع ذلك العالم أيضاً لسلطته.
ومهما بلغ الإنسان من العلم وقيل له: إن هناك علوما أخرى، لمال مدفوعا بفطرته إلى تعلمها؛ إذاً فلا بد أن تكون هناك قوة مطلقة وعلم مطلق ليتعلق الإنسان بهما؛ وهذا هو (الله) تبارك وتعالى؛ الذي نتوجه إليه جميعا حتى لو كنا أنفسنا نجهل ذلك.
الإنسان يريد الوصول إلى "الحق المطلق" ويفنى فيه. إن هذا الشوق إلى الحياة الخالدة المتأصل في فطرة كل إنسان هو في الأساس دليل وجود عالم الخلود المنزّه عن الموت.
وإذا رغبتم فخامتكم في التحقيق حول هذه الموارد فيمكنكم أن تأمروا المختصين في هذه العلوم بأن يراجعوا إضافة إلى كتب الفلاسفة الغربيين مؤلفات الفارابي وأبي علي ابن سينا رحمة الله عليهما في حكمة فلسفة المشائين ليتضح أن قانون "العلية والمعلولية" الذي تستند إليه كل معرفة هو معقول وليس محسوساً، وليتضح أيضاً أن إدراك المعاني والمفاهيم الكلية والقوانين العامة هو عقلي وليس حسّياً رغم أن جميع أشكال الاستدلال حسّياً كان أم عقلياً تعتمد عليه.
وكذلك يمكنهم الرجوع إلى كتب السهروردي رحمة الله عليه في حكمة فلسفة الإشراق لكي يشرحوا لكم كيف أن الجسم وكل موجود مادي مفتقر إلى النور المطلق المنزّه عن أن يدرك بالحس، وأن الإدراك الشهودي من نفس الإنسان لحقيقته منزّه أيضاً عن الظواهر الحسية.
واطلبوا من كبار الأساتذة أن يراجعوا أسفار الحكمة المتعالية لصدر المتألهين رضوان الله تعالى عليه وحشره مع النبيين والصالحين لكي يتضح أن حقيقة العلم هي ذلك الوجود المجرد عن المادة؛ وأن كل معرفة منزّهة عن المادة ولا تخضع لأحكامها.
ولا أتعبكم، فلا أتطرق إلى كتب العارفين لا سيما محي الدين بن عربي، فإذا أردتم الاطلاع على مباحث هذا العظيم فيمكنكم أن تختاروا عددا من خبرائكم من الأذكياء الذين لهم باع طويل في أمثال هذه المباحث وترسلوهم إلى قم ليتعرفوا بالتوكل على الله، وبعد عدة سنين على العمق الحساس والدقيق غاية الدقة لمنازل المعرفة، ومحال بدون هذا السفر الوصول إلى هذه المعرفة.
السيد غورباتشوف...
والآن وبعد ذكر هذه القضايا وتلك المقدمات أطلب منكم أن تحققوا بدقة وجدية حول الإسلام؛ ليس لأن الإسلام والمسلمين بحاجة إليكم؛ بل لما يتضمنه الإسلام من قيم سامية، ولما يمتاز به من شمولية بحيث يستطيع أن يكون وسيلة لراحة وإنقاذ الشعوب، وحل كافة الأزمات الأساسية التي تعاني منها البشرية.
إن التدبر والتوجه الجاد للإسلام يمكن أن ينقذكم من مشكلتكم في أفغانستان وأمثالها في العالم. إننا نعتبر مسلمي العالم كافة كمسلمي بلدنا؛ وعلى الدوام نرى أنفسنا شركاء مصيرهم.
لقد أثبتم عبر الحرية النسبية في أداء الشعائر الدينية التي سمحتم بها في بعض الجمهوريات السوفياتية أنكم لم تعودوا تفكرون بأن "الدين أفيون الشعوب". وكيف ذاك؟! فهل إن الدين الذي صمد في إيران كجبل أشم هو أفيون الشعوب؟! وهل أن الدين الذي يطالب بتحكيم العدالة في العالم وبتحرير الإنسان من كافة أشكال الأسر المادية والمعنوية هو أفيون الشعوب؟!
نعم... إن الدين الذي يحوّل إلى أداة من أجل نهب ثروات البلدان الإسلامية وغير الإسلامية وإمكاناتها المادية والمعنوية استجابة للقوى الكبرى السلطوية، والدين الذي يصم أسماع الجماهير بمقولة فصل الدين عن السياسة هو أفيون الشعوب. ولكن هذا ما هو بالدين الحقيقي؛ بل هو ما تسميه جماهيرنا بـ "الدين الأميركي".
وختاماً، فإنني أعلنها صراحة: إن الجمهورية الإسلامية في إيران وباعتبارها أكبر وأقوى قاعدة للعالم الإسلامي؛ تستطيع بيسر أن تسد الفراغ العقائدي في نظامكم.
وعلى أية حال فإن بلدنا وكما كان في السابق يؤمن بمبادئ حسن الجوار والعلاقات المتبادلة المتكافئة ويحترم هذه المبادئ.
والسلام على من اتبع الهدى