هل تتحول احتجاجات فرنسا إلى حرب أهلية؟.. تعرف على واقع الأزمة برأي طرفيها
انفوبلس/ تقرير
تواصلت الاحتجاجات في فرنسا لليوم الخامس على التوالي، بعد مقتل المراهق نائل برصاص شرطي فرنسي، بينما توسع الغضب والمواجهات بين المحتجين في مختلف أنحاء البلاد، ما دفع الرئيس إيمانويل ماكرون إلى لعقد اجتماع طارئ للحكومة وإلغاء زيارته إلى ألمانيا.
لم تعد "البؤساء" (لي ميزيرابل ـ 2019) للمخرج لادج لي، ولا "باك نور" (2020) للمخرج سيدريك خيمينيز، ولا "أتينا" (2022) للمخرج رومان غافراس، مجرد أفلام سينمائية بوليسية خيالية تدور أحداثها الثورية العنيفة في الضواحي الفرنسية، بل أصبحت واقعاً معيشاً مع الانتفاضة التي انطلقت بعد مقتل ناهل على يد شرطي مرور.
"لا سلام دون عدل!"، لا سلام اجتماعياً دون عدالة اجتماعية، لا احترام للسلطة عندما تصبح تسلّطاً متعجرفاً في خدمة مصالح فئات قليلة ميسورة ومميزة على حساب أكثرية الشعب، يلخص هذا الشعار، الذي ردده المشاركون في المسيرة التضامنية مع قضية المراهق ناهل، الذي أطلق شرطي مرور عليه النار من مسافة سنتيمترات قليلة وأرداه قتيلاً، روح الانتفاضة الجارية حالياً في فرنسا، هو ترجمة لشعور باختلال كبير في ميزان العدالة الاجتماعية الذي أصبح عابراً لأطياف المجتمع الفرنسي بأغلبيته في ظل حكم الرئيس إيمانويل ماكرون، والذي تفاقم بعد انتخابه لولاية ثانية في ربيع 2022.
*بداية شرارة الاحتجاجات
كان "نائل"، الذي يبلغ من العمر 17 عاماً فقط، قد تعرّض للقتل، يوم 27 يونيو/ حزيران 2023، برصاص عنصر شرطة بمدينة نانتير (بالضاحية الغربية لباريس) على خلفية عدم امتثال الضحية لتعليمات دورية مرورية بالتوقف.
وتسببت الجريمة في اندلاع احتجاجات غاضبة عمّت أنحاء فرنسا، ولا تزال مستمرة، بينما عقدت الحكومة الفرنسية اجتماعاً طارئاً لدراسة خيارات التعامل مع الأزمة وقطع الرئيس إيمانويل ماكرون زيارته لبروكسيل لحضور قمة الاتحاد الأوروبي وعاد إلى باريس الجمعة، 30 يونيو/ حزيران لدراسة الموقف.
كما أدت هذه الجريمة، التي هزّت الشارع الفرنسي، إلى تسليط الضوء على الأحياء الشعبية في الضواحي والظروف الصعبة التي تواجه ساكنيها، خاصة من الشباب.
وأسهمت سياسة الدولة الفرنسية، القائمة على التهميش والإقصاء وتجميع الأجانب في مناطق بعينها، في إنتاج جيل حاقد مستلب الهوية، يعتبر فرنسا عدواً أولاً له ويقتنص الفرص للانتقام منها.
وخرج المتظاهرون في أكبر المدن الفرنسية، وهي باريس وليون ومارسيليا، وهو ما دفع وزارة الداخلية لتعبئة 45 ألف عنصر من قوات الشرطة والدرك، بينهم 7 آلاف في باريس وضواحيها المجاورة فقط.
وأعربت والدة الفتى الفرنسي الخميس عن اعتقادها أن الحادث له دوافع عنصرية، وقالت لقناة "فرانس 5" في أول مقابلة إعلامية معها منذ إطلاق النار: "أنا لا ألوم الشرطة، أنا ألوم شخصاً واحداً: الشخص الذي قتل ابني. لدي أصدقاء شرطيون. إنهم يدعمونني تماماً… لا يتفقون مع ما حدث"، واعتبرت أن الشرطي "رأى وجهاً عربياً، طفلاً صغيراً، وأراد أن يقتله".
بينما شارك المئات في مراسم تشييع الفتى نائل السبت، من مسجد ابن باديس إلى مقبرة مونت فاليريان في ضاحية نانتير الباريسية، علماً أن العائلة طلبت عدم حضور الصحفيين لتغطية مراسم الوداع.
انتهى التشييع قرابة الساعة الخامسة والنصف بعد الظهر (15,30 ت غ) في "هدوء شديد، في خشوع وبدون تجاوزات"، بحسب ما أفاد شاهد عيان وكالة فرانس برس، مضيفاً أن عدداً كبيراً جداً من الشباب كانوا حاضرين في المقبرة.
فيما تسبب مقتل الفتى نائل بصدمة في فرنسا، وصل صداها إلى الجزائر التي تنحدر منها عائلته. وأعاد الحادث فتح النقاش بشأن تعامل الشرطة مع حالات مماثلة، وقتل 13 شخصاً فرنسياً عام 2022، بعد رفضهم الامتثال لعمليات تدقيق مرورية.
في ظل أعمال العنف، ألغى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون زيارة إلى ألمانيا، كان من المقرر أن تبدأ الأحد وتستمر ليومين، بعدما اختصر أيضاً مشاركته في قمة للاتحاد الأوروبي استضافتها بروكسل الجمعة.
يجد الرئيس الفرنسي نفسه أمام أزمة داخلية كبرى ثانيةً في غضون أشهر قليلة، بعد الاحتجاجات الواسعة على مشروعه لإصلاح قانون التقاعد. ودفعت تلك الأزمة العاهل البريطاني، الملك تشارلز الثالث، إلى إلغاء زيارة لفرنسا في مارس/ آذار.
*مواجهة الغاضبين من وفاة الفتى نائل
أعادت الموجة الحالية من أعمال الشغب التذكير بسلسلة مشابهة هزت فرنسا في العام 2015، بعد مقتل مراهقين صعقاً بمحوّل كهربائي أثناء محاولتهما الهرب من الشرطة.
في مرسيليا، التي شكلت ليل الجمعة السبت مسرحاً لحوادث كبرى وعمليات نهب، عمل جهاز أمني ضخم ليل السبت- الأحد على تفريق مجموعات من الشباب كان عددهم أقل من اليوم السابق.
كما نشرت أجهزة إنفاذ القانون عدداً من أفراد القوات الخاصة للشرطة والدرك. وقد قام هؤلاء بتفريق مجموعات من الشبان الذين أثاروا الفوضى في المدينة الجنوبية، وفق ما ذكرته وكالة الأنباء الفرنسية.
حيث قال متحدث باسم شرطة بوش-دو-رون "لا نرى على الإطلاق مشاهد النهب التي وقعت بالأمس"، مشيراً إلى توقيف 56 شخصاً بحلول منتصف الليل.
وفي العاصمة، نشرت قوة أمنية كبيرة على طول جادة الشانزليزيه، بعد انتشار دعوات للتجمع منذ الجمعة للاحتجاج على مقتل الفتى نائل، وجالت مجموعات من الشبان الذين ارتدوا ملابس سوداء على طول الجادة، تحت أعين عناصر الشرطة، في حين قامت العديد من المتاجر بتغطية واجهاتها الزجاجية بألواح من الخشب، خشية تعرضها للتكسير، كما حصل مع العديد من المحال على مدى الليالي الماضية.
كما سجّل عدد قليل من الحوادث في الضواحي الباريسية، حيث اندلعت شرارة الاحتجاجات. وتعرض عدد من عناصر الشرطة لإطلاق مفرقعات نارية من مجموعات شبابية في فينيو، قرب العاصمة. وحتى الساعة الثانية والنصف فجراً (00,30 ت غ)، أوقفت الشرطة 194 شخصاً في باريس وضواحيها، وفق وزارة الداخلية.
كان عدد الذين تمّ توقيفهم في عموم البلاد ليل الجمعة السبت تجاوز عتبة 1300 شخص، وهو رقم قياسي منذ اندلاع موجة أعمال الشغب الراهنة الثلاثاء بسبب قتل الفتى نائل على يد شرطي. وسعياً لضبط أعمال العنف قامت العديد من السلطات المحلية بفرض حظر تجول في فترات المساء، ووقف حركة النقل العام بحلول الساعة التاسعة.
بينما قررت السلطات الفرنسية، الجمعة، 30 يونيو/حزيران 2023، إلغاء رحلات الحافلات والترام في عموم البلاد، على خلفية الأحداث التي اندلعت إثر مقتل الفتى نائل على يد الشرطة، فيما حثت الأمم المتحدة فرنسا على معالجة "قضايا العنصرية العميقة" في البلاد.
ماذا يقول ماكرون وحكومته؟
وصل ماكرون الجمعة إلى باريس قادماً من بروكسيل، بعدما أنهى مشاركته في قمة الاتحاد الأوروبي مبكراً حتى يتمكن من حضور ثاني اجتماع طارئ للحكومة خلال يومين. وكتبت رئيسة الوزراء، إليزابيت بورن، في تغريدة على تويتر تقول إن الحكومة ستدرس "كل الخيارات" لاستعادة النظام، ووصفت العنف بأنه "غير مقبول ولا يمكن تبريره".
وقالت في وقت لاحق للصحفيين، خلال زيارة لإحدى ضواحي باريس "الأولوية هي ضمان الوحدة الوطنية، وطريقة (ضمانها) هي استعادة النظام".
وفي كلمة ألقاها خلال اجتماع أزمة لحكومته، أعلن ماكرون نشر تعزيزات إضافية للسيطرة على الاحتجاجات التي تشهدها البلاد، حسب موقع "فرانس 24" المحلي، داعياً منصات التواصل الاجتماعي إلى حذف مشاهد الشغب "الحساسة".
كان ماكرون قد استبعد فرض حالة الطوارئ في البلاد، ووجه انتقادات لمن قال إنهم "يستغلون الحادث"، دون أن يوضح مَن أو ماذا يقصد بتصريحاته.
وصرح وزير النقل كليمان بون لمحطة (آر.إم.سي) الإذاعية بأنه لا يستبعد إغلاق شبكة المواصلات العامة في العاصمة. وقال مصدر لرويترز، إن العديد من المتاجر تعرّضت للنهب في جميع أنحاء البلاد.
وذكرت وسائل إعلام فرنسية، بناءً على معلومات من وزارة الداخلية أن عدد الموقوفين خلال الاحتجاجات قد ارتفع إلى أكثر 1000 شخص، ولا يبدو حتى الآن وجود مؤشرات على كيف يمكن أن تنتهي هذه الموجة من الاحتجاجات وأعمال الشغب، في ظل إصرار الحكومة على التعامل الأمني مع الحادث دون التعامل مع أسبابه الحقيقية التي تبدو واضحة للجميع في الداخل والخارج.
ما تشهده فرنسا حالياً بسبب مقتل "نائل" يعيد إلى أذهان الكثيرين في فرنسا وخارجها أحداثاً مماثلة شهدتها البلاد في عام 2005، عندما تعرّض مراهقان (زياد بينا 17 عاماً، وبونا تراوري 15 عاماً) للصعق بالكهرباء في أثناء محاولتهما الهرب من الشرطة بعد نهاية مباراة كرة قدم، حيث لجأ المراهقان إلى محطة كهرباء فرعية في ضاحية كليشي سو بوا بباريس.
وبعد مقتل "نائل"، قال مراهق فرنسي يُدعى محمد من ضاحية كليشي لموقع ميديابارت الفرنسي: "كان يمكن أن أكون أنا، أو أخي الصغير، الضحية".
وفي هذا السياق، أعربت الأمم المتحدة، الجمعة، عن قلقها إزاء مقتل "نائل" على يد الشرطة الفرنسية، وحثت حكومة البلاد على معالجة "قضايا العنصرية العميقة" في أجهزة إنفاذ القانون.
وقالت رافينا شامداساني، الناطقة باسم مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، في مؤتمر صحفي عقدته بمدينة جنيف السويسرية: "حان الوقت لفرنسا التعامل بجدية مع قضايا العنصرية العميقة والتمييز في أجهزة إنفاذ القانون". وأضافت، إنه "يجب فتح تحقيق في أسرع وقت بجميع مزاعم استخدام القوة المفرطة خلال الاحتجاجات في فرنسا".
وشددت المسؤولة الأممية على أهمية التجمع السلمي على خلفية مقتل الشاب، كما دعت السلطات الفرنسية إلى ضمان أن استخدام القوة من قبل الشرطة "يحترم دائماً مبادئ الشرعية والضرورة والتناسب وعدم التمييز والمساءلة".
جماعات حقوقية كثيرة، داخل فرنسا وخارجها، تؤكد وجود "عنصرية ممنهجة" داخل أجهزة إنفاذ القانون في فرنسا، لكن الرئيس ماكرون ينفي ذلك، علماً بأن الحكومة الفرنسية كانت قد تعهّدت في عام 2020 "بعدم التهاون" مع العنصرية داخل أجهزة إنفاذ القانون.
والملاحظ في الأزمة الحالية هو التغيير الواضح في تصريحات وأداء ماكرون نفسه، من التنديد بجريمة مقتل "نائل" واعتبارها "جريمة لا تُغتفر، ولا يمكن تبريرها" في الساعات الأولى بعد وقوعها، إلى اعتبار الاحتجاجات "استغلال سياسي" للأزمة، ثم التركيز على "التنديد بأعمال العنف" واتخاذ موقف "صارم" لمواجهتها.
ويشير هذا التحول إلى النهج الذي تسير عليه الحكومة الفرنسية والرئيس ماكرون في التعامل مع جريمة مقتل "نائل"، وهو ما يراه كثير من المحللين قفزاً على السبب الحقيقي وراء تكرار تلك الجرائم، وهو العنصرية المتجذرة في تعامل الكثير من أفراد الشرطة الفرنسية مع المواطنين، وهو التعامل الذي يقوم بالأساس على اللون أو العرق.
جان لوك ميلنشون، زعيم حزب "فرنسا الأبية" وجّه انتقادات لاذعة لما وصفه بأنه "التصعيد الأمني" للحكومة، في إشارة إلى الوسائل الكبيرة التي اعتمدتها لإخماد أعمال الشغب، وقال ميلنشون إن "التصعيد الأمني يؤدي إلى الكارثة"، بحسب تقرير لموقع فرانس 24 الفرنسي.
خالد الغرابلي، المحلل السياسي في قناة فرانس 24، يرى أن أحد الأسباب وراء التصعيد الخطير الذي يشهده الموقف الحالي في فرنسا هو "عدم ثقة الشباب الغاضبين في تصريحات الحكومة"، مضيفا أن ما يعيشه "هؤلاء المراهقون والشباب على أرض الواقع يختلف تماما عن تصريحات ماكرون والحكومة".
وقارن الغرابلي بين ما حدث عام 2005 وما يحدث اليوم في 2023 موضحاً أن "الوضع اليوم أسوأ فيما يتعلق بالعلاقة بين الشرطة وأبناء الضواحي، حيث راح شاب عمره 17 عاماً ضحية لرصاص الشرطة"، مشيراً إلى أن التصريحات الأولى الصادرة عن المسؤولين سعت إلى "تبرئة الشرطي" لولا أن الواقعة كانت موثقة بالفيديو.
كانت الحكومة الفرنسية قد أدخلت، عام 2017، تعديلات على قانون المرور يسمح لرجال شرطة المرور بإطلاق النار. ومقتل "نائل" يعد ثالث حالة قتل على يد الشرطة خلال العام الجاري في حوادث توقيف مروري، بينما شهد عام 2022 حوالي 13 حالة قتل من هذا النوع، ومعظم ضحايا هذه الحوادث كانوا من أصول عربية أو سوداء.
الخلاصة.. أن العنصرية في تعامل الشرطة الفرنسية مع المواطنين على أساس اللون والعِرق هي السبب وراء ما تشهده فرنسا من احتجاجات غاضبة وأعمال شغب وحرق منشآت، لكن يبدو أن ماكرون وحكومته قرروا التعامل مع الموقف "أمنياً" عوضاً عن السعي إلى معالجة جذور المشكلة كما تطالب المنظمات الحقوقية.