46 عاما على البيان الشهير.. جمال عبد الناصر يتنحى بخطاب كتبه "هيكل" على إثر نكسة حزيران
انفوبلس/ تقرير
في مثل هذا اليوم 8 يونيو/ حزيران 1967، تحدث جمال عبد الناصر ثاني رؤساء مصر (تولى السلطة من سنة 1956 إلى وفاته 1970)، تحدث مع الصحفي الشهير محمد حسنين هيكل وأخبره بتطورات أوضاع الحرب وأنه قد نوى تقديم استقالته، وكلّفه بكتابة الخطاب الذي سيُلقيه في اليوم التالي للجماهير مُعلناً تنحيه عن حكم مصر.
"نكسة حزيران"، الحرب التي نشبت بين "إسرائيل" وكل من العراق ومصر وسوريا والأردن بين 5 حزيران/ يونيو 1967 والعاشر من الشهر نفسه، وأدت إلى احتلال "إسرائيل" لسيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والجولان، وتعتبر ثالث حرب ضمن الصراع العربي الإسرائيلي.
"لقد تعودنا معاً في أوقات النصر وفي أوقات المحنة، في الساعات الحلوة وفي الساعات المرّة، أن نجلس معاً، وأن نتحدث بقلوب مفتوحة، وأن نتصارح بالحقائق، مؤمنين أنه من هذا الطريق وحده نستطيع دائماً أن نجد اتجاهنا السليم، مهما كانت الظروف عصيبة، ومهما كان الضوء خافتا...".
"نصل الآن إلى نقطة هامة في هذه المكاشفة بسؤال أنفسنا: هل معنى ذلك أننا لا نتحمل مسؤولية في تبعات هذه النكسة؟ وأقول لكم بصدق -وبرغم أي عوامل قد أكون بنيتُ عليها موقفي في الأزمة- فإنني على استعداد لتحمل المسؤولية كلها، ولقد اتخذت قراراً أريدكم جميعاً أن تساعدونني عليه: لقد قررتُ أن أتنحى تماماً ونهائياً عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي، وأن أعود إلى صفوف الجماهير، أؤدي واجبي معها كأي مواطن آخر".
كانت هذه السطور من خطاب الرئيس جمال عبد الناصر بمثابة صدمة هائلة للجماهير في مصر، وربما في دول عربية أخرى عديدة من المحيط إلى الخليج، بثّتها الإذاعة المصرية مساء 9 يونيو/ حزيران 1967، عقب أيام من هزيمة مصر ومعها جيوش عربية أمام جيش الاحتلال الإسرائيلي، وكانت مُصارَحة جاءت متأخرة لشعب مصر بعد خداعهم لأيام بأخبار انتصارات وهمية، وقبلها بسنوات من التصريحات الوردية.
كتب هذا الخطاب الصحفي الشهير محمد حسنين هيكل، الذي كان أحد أقرب أصدقاء عبد الناصر، وكان شاهدا مقرّباً على أحداث هذه الأيام التاريخية الحزينة، والتي رواها بعد ذلك بتفاصيلها الدقيقة في كتابه "الانفجار"، وحلقاته التلفزيونية وأشهرها برنامجه "مع هيكل.. تجربة حياة" الذي كانت تذيعه قناة الجزيرة.
*أقسى ما كتبه هيكل
يحكي هيكل أن الظروف قضت أن يكون هو الشخص الوحيد الذي قضى يوم الجمعة 9 يونيو/ حزيران مع ناصر، من السابعة صباحا حتى السادسة مساء، حيث توجه في الصباح الباكر إلى عبد الناصر، ومعه مسودة الخطاب الذي كلّفه به.
ويقول هيكل، إنه قضى أصعب ليلة في حياته يصوغ كلمات صعبة سيسمعها الملايين بعد ساعات، ووصف هيكل هذه الليلة: "كانت تلك تجربة في الكتابة من أقسى ما عانيتُ في حياتي، وقد ظللت معها ليلة كاملة دون نوم، تحت وطأة همِّ الكلمات، وقبلها هموم الحوادث".
ويضيف، إنه وجد الرئيس عبد الناصر في مكتبه، يتحدث هاتفيا مع المشير عبد الحكيم عامر، يناقشان معلومات عن محاولة لعبور القوات الإسرائيلية غرب القناة عبر جسور متصلة، استمع هيكل للمحادثة وبدا أنه يريد أن يُدلي برأيه، فاستوقف ناصر عامر وطلب أن يسمعه، فقال هيكل إنه يرى أن هذه المعلومات تبدو غير دقيقة، فقد حققت "إسرائيل" أكثر مما تريد بالفعل.
المشير محمد عبد الحكيم عامر، نائب القائد العام للقوات المسلحة في مصر والصديق المقرّب جداً من جمال عبد الناصر وأحد الضباط الأحرار الذين ثاروا ضد المَلَكِيّة.
قال له ناصر، إن عامر ضيّع أعصابه، وضيّع جيشه من قبلها، ثم استطرد: "ولكنني المسؤول لا أستطيع أن ألوم أحداً إلا نفسي، الواقع أنني غاضب من نفسي بأكثر مما يتصور أحد".
*بدران أم محيي الدين
اعترض هيكل على اقتراح ناصر أن يتولى وزير الحربية شمس بدران منصب رئيس الجمهورية المؤقت، لأن الناس فقدت الثقة في هذه المجموعة كلها، فإذا أصبح الرجل الذي كان وزيرا للحربية رئيسا فالصِّدام قادم لا محالة.
شمس الدين بدران، كان وزير الحربية في عهد جمال عبد الناصر، حوكم بتهمة تعذيب أفراد في جماعة الإخوان المسلمين. عاش في لندن بعد خروجه من مصر إلى وقت وفاته.
وبحسب روايته، يقول هيكل إنه أثنى على قرار استقالة ناصر، قال له بصراحة إن المنطق الطبيعي أن تعود الأمور للشعب، رئيس مؤقت، ثم استفتاء على دستور جديد وأساس جديد وبرنامج يلبّي مطالب مرحلة مختلفة.
سأله ناصر من يرشِّح لخلافته؟ فأجابه هيكل بسؤال: من الأقدم بين باقي أعضاء مجلس قيادة الثورة، فردّ: زكريا محيي الدين، واتفق معه هيكل أنه الأحق لخلافته المؤقتة.
زكريا محيي الدين، قائد عسكري وسياسي مصري. كان أحد أبرز الضباط الأحرار، وتولى عدة مناصب سياسية هي رئيس وزراء ونائب رئيس الجمهورية وأول رئيس للمخابرات العامة، فيما تولى منصب رئيس الجمهورية فترة يومين عندما تنحى الرئيس جمال عبد الناصر عن الحكم في أعقاب هزيمة 1967.
طلب الرئيس من هيكل أن يقرأ نص ما كتبه، ظل يُصغي صامتاً حتى وصل إلى جملة "أنا على استعداد أن أتحمل نصيبي من المسؤولية"، اعترض عبد الناصر لأنه يتحمل المسؤولية كاملة، ولا يرى مجالا لتجزئتها. أعاد هيكل صياغة الجملة على الفور، وعلّق ناصر: "تلك هي الحقيقة، وهذا أدقّ وأكرم"، والرواية أيضا لهيكل.
*ردود فعل "صادمة"
طلب ناصر أن يذهب هيكل بنصِّ الخطاب إلى سامي شرف سكرتير الرئيس، قرأ شرف الخطاب بسرعة حتى وصل لفقرة التنحي، انتابته الهيستريا، وراح يصرخ بصوت عال: "هذا مستحيل.. ثم أنه حرام.. وأنها مصيبة لا تقل عن المصيبة العسكرية".
قرأه الموظف المسؤول عن طباعة الخطاب على الآلة الكاتبة عبد الرحمن سالم، وعندما وصل لفقرة التنحي انفعل بالبكاء، وراحت دموعه تتساقط على الورق، ثم رفض كتابة الخطاب وغادر الغرفة.
تحدث هيكل لشرف أن عليهم أن يسهّلوا الأمر على ناصر، فالرجل في محنة وليس أمامه إلا ما اختاره، "إما أن نسهل له قراره، وإما أن ندفع بأعصابه إلى الانهيار".
تقديرات ما قبل الخطاب
عندما عاد هيكل بنص الخطاب، طلب منه أن يقرأ عليه الخطاب حتى يتعوّد عليه، وقدّر وقته بنحو ثلث الساعة، وقال لهيكل إن الناس لابد أن تعرف الحقيقة وما حدث، "الحقيقة لابد أن تكون واضحة للناس"، وخاصة زكريا محيي الدين الذي كُتِب عليه أن "يشيل العبء".
قدّر عبد الناصر أن عامر سيتفاجأ بقرار اختيار محيي الدين، وتمنى أن يتصرف عامر كرجل مسؤول، وألا يخلق المشاكل لزكريا بأي حماقات من شلّته، على حد وصف هيكل في كتابه "الانفجار".
وأضاف عبد الناصر لهيكل، أن المرحلة التالية تحتاج لمؤتمر قمة عربي، ولابد من موقف عربي موحد، "إما أننا أمة واحدة، أو أننا نتحدث عن وهم، إما أن تقدّر هذه الأمة على تحقيق ما تريد وإما أن تقبل بالاستسلام لإسرائيل ومن ورائها".
*اعتذار هيكل
عرض عبد الناصر على هيكل أن يذهب معه لقصر القبة كي يكون إلى جواره وقت إلقاء هذا البيان التاريخي، آخر خطابات عبد الناصر كما هو مفترض، لكن هيكل اعتذر وطلب من الرئيس أن يعفيه، فذلك أكثر مما يمكنه احتماله، على حد قوله، ففاضت مشاعر الرئيس وقال لهيكل، إنه كان معه أكثر من أخ، ولا يعرف ماذا سيحدث في الساعات التالية، وإذا كانا سيلتقيان ثانية أم أنه اللقاء الأخير.
ويصف هيكل آخر دقيقة من لقائهما في هذا الوقت العصيب، عندما تصافحا لمح هيكل في عيني ناصر دمعة لأول مرة في حياته، واستدار هيكل ليهرع مغادراً المكتب، فلم يكن يريد للرئيس أن يرى دمعة مماثلة في عينيه.
بعد إلقاء الخطاب، اشتعلت القاهرة بالمظاهرات، خرجت الجماهير في الشوارع ترفض تنحي عبد الناصر وتهتف باسمه، وتوالت الاتصالات بعبد الناصر ترفض استقالته، وهو رفض عربي شعبي خشية أن تتحول الهزيمة العسكرية إلى هزيمة سياسية شاملة تكسر إرادة العرب، ليتراجع عبد الناصر عن قراره في اليوم التالي، تاركاً المصريين بين فرح بعودته وبين من يعتقد أن الأمر ما هو إلا مجرد مسرحية من الزعيم ومساعديه من أجل البقاء في السلطة رغم الهزيمة التي قاد بلاده إليها.
* التخلص من صديق العمر المشير محمد عبد الحكيم عامر
جاءت الهزيمة "المدوّية"، التي مُني بها الجيش المصري في يونيو/ حزيران 1967، لتمثل فرصة سانحة أمام عبد الناصر للإطاحة بصديق العمر، الذي ينازعه في حكمه ونفوذه.
وألقى عبد الناصر خطاب التنحي في 9 يونيو/ حزيران 1967 بدون أن يأتي على ذكر استقالة عامر، وهو ما اعتبره الأخير لعبة من الرئيس ليعود وحده لاحقا، وتحميل المشير وحده مسؤولية الهزيمة، وهو ما حدث لاحقا بعد تراجع ناصر عن الاستقالة.
وسريعا بدأ عبد الناصر في الإطاحة برجال المشير، وفي 11 يونيو/ حزيران عيّن الفريق محمد فوزي قائدا عاما للقوات المسلحة، وقَبِل استقالات قادة أفرع القوات المسلحة، وأحال عددا كبيرا من العسكريين الموالين لعامر إلى المعاش، وعيّن بدلا منهم قيادات أخرى موالية له.
جيش عامر
كانت شعبية عامر الكبيرة بين ضباط الجيش تمثل هاجساً لدى عبد الناصر، ما دفعه إلى محاولة التفكير في تسوية تنهي خطر المشير، ولا تجلب عداوته في الوقت ذاته، فعرض عليه إعادته إلى منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية لكن بدون اختصاصات، لاسيما المتعلقة بالقوات المسلحة، وهو ما رفضه عامر متمسكا بسلطاته ومنصبه العسكري.
كان عامر يرى أنه رقم أساسي في معادلة السلطة، وطالما ظل عبد الناصر في السلطة، فهذا يعني أنه لابد أن يبقى شريكا أساسيا.
وعاد عامر من قريته أسطال التي احتجب بها عدة أيام إلى منزله بالجيزة، لتشتعل مرحلة جديدة من الصراع بين الجانبين، حيث وسّع عبد الناصر تصفية أنصار عامر في الجيش، وأطاح بمئات الضباط، وأمر برفع صور المشير من جميع الوحدات، ورفع الحراسة عن بيته.
وفي الجانب الآخر، دعا عامر أقرب أنصاره للجوء إلى بيته حتى لا يتم اعتقالهم، وتحول منزله إلى قلعة حصينة، ونشأت فكرة تكوين مليشيا خاصة تحمي المشير عُرِفت باسم "حرس الجلاليب" في إشارة إلى أبناء قريته، الذين تولوا حمايته بجانب العسكريين الموالين له.
قناع الديمقراطية
استغلّ المشير شعار الديمقراطية للضغط على الرئيس، ووفقا للرئيس الراحل أنور السادات، فإن عامر كان يعرف جيدا أن لا شيء يغيظ عبد الناصر مثل الحديث عن الديمقراطية، وأنه دكتاتور، فلجأ إلى طبع الاستقالة، التي قدّمها عام 1962، يعلن فيها أنها لا يؤمن بحكم الفرد، وأنه لابد من إعادة الأحزاب وتحقيق حرية الصحافة.
وفي الوقت ذاته، نشأت فكرة نقل المشير عامر إلى القيادة العامة بمنطقة القناة، والاستيلاء عليها، لتلتف حوله القوات المسلحة، ويستطيع من خلالها أن يمارس ضغطه على عبد الناصر ويُملي شروطه.
السقوط في الفخ
وقبل أيام قليلة من الموعد المحدد لتنفيذ هذه الخطة دعا عبد الناصر، عامر لزيارته في منزله يوم 25 أغسطس/ آب.
اعتقد المشير أن ضغوطه آتت ثمارها ليتراجع عبد الناصر عن سحب اختصاصاته، وأنه يدعوه لمصالحته، وربما دعوته للسفر معه إلى قمة الخرطوم، وفي الموعد المحدد ذهب عامر إلى منزل ناصر دون أن يدري أنه يدخل إلى فخ مُعَد بإحكام لن يخرج منه إلا وقد سُلِبت حريته، بعدما فقد سطوته وسلطانه في الأسابيع السابقة.
وواجه عامر في منزل عبد الناصر ما يشبه محاكمة استمرت نحو 5 ساعات بوجود زكريا محيي الدين ومحمد أنور السادات وحسين الشافعي، بينما كانت قوة عسكرية بقيادة الفريق فوزي في بيته لاعتقال المتحصنين به من مدنيين وعسكريين، ليعود وحيدا إلى منزله، وقد تحددت إقامته في انتظار مصيره الأخير.
لحظات النهاية
وفي 13 سبتمبر/ أيلول 1967 أصدر عبد الناصر قرارا بنقل المشير من منزله إلى استراحة في المريوطية، بحجّة استمراره في الاتصالات الخارجية سرّاً، وبثّ الشائعات وتأليب الرأي العام ضد الرئيس، ورغم محاولات عامر البقاء في منزله، اضطر في النهاية إلى الخروج.
وبعد يوم واحد من نقله إلى استراحة المريوطية كانت حياة المشير قد وصلت إلى نهايتها، حيث أعلنت السلطات الرسمية أنه انتحر باستخدام مادة الأكونتين السامة، فيما أصرّت أُسرته على أنه تم اغتياله، وهي الرواية، التي يؤيدها عدد من المختصين والمؤرخين بينما يرفضها آخرون.
وهكذا جاءت المحطة الأخيرة في الصراع المستعر بين فريقي السلطة باختفاء عامر من الحياة مقتولا أو منتحرا، وإذا كان هذا الأمر لم يُحسم بعد، فمن المؤكد أنه تجرّع سمّ صراع العسكر على السلطة.