59 عاما على اعتقال إيلي كوهين في دمشق.. تعرف على أبرز الأكاذيب التي أشاعها الكيان عن دوره في سوريا
انفوبلس/..
وُلِد إيلي كوهين عام 1924 بالإسكندرية في مصر لأُسرة هاجرت إلى هناك من مدينة حلب السورية، وعمل جاسوسا للموساد في سوريا في الفترة بين 1961 و1965 منتحلا صفة رجل أعمال يُدعى كامل أمين ثابت، حيث أقام علاقات وثيقة مع عدد من السوريين قبل الكشف عنه وإصدار حكم الإعدام بحقه.
تم تدريب إيلي كوهين على استخدام اللاسلكي والحبر السري، وهكذا أصبح جاهزاً لمباشرة شخصيته الجديدة، ودوره التجسسي. غادر كوهين (إسرائيل) في 3 شباط من عام 1961، إلى زيورخ التي كانت محطته الأولى، ومنها توجه إلى العاصمة التشيلية سانتياغو، ومن ثم وصل أخيراً إلى بيونس آيريس في الأرجنتين، تحت اسم "كامل أمين ثابت".
كان في انتظاره في الأرجنتين بعض العملاء الإسرائيليين، الذين ساعدوه على أن يستقر فيها بشخصيته الجديدة، ونصحوه بأن يبدأ بتعلم اللغة الإسبانية فوراً، حتى لا ينكشف أمره. وخلال سنة واحدة كان قد بنى علاقات وطيدة، مع الجالية العربية في الارجنتين، وأصبح شخصية مرموقة بينهم، كما حرص على أن يشارك في التجمعات والمآدب، التي شارك فيها الدبلوماسيون السوريون على نحو خاص، واستغل الفرصة ليشيع بينهم رغبته بالعودة إلى مسقط رأسه، بسبب الحنين إلى وطن، فتوجه إلى دمشق في كانون ثاني من عام 1962، وبحوزته كل ما يلزم من معدات التجسس، ليبدأ على الفور بمهمته الأساسية.
أكاذيب إسرائيل وأسطورة الجاسوس
هناك العديد من الأكاذيب التي روّجت لها إسرائيل حول الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، والتي تهدف إلى تحسين صورته ودوره في تاريخ إسرائيل. من بين هذه الأكاذيب، أن كوهين كان بطلًا قوميًا إسرائيليًا، وفي الواقع كان كوهين جاسوسًا أُدين بالخيانة العظمى وتم إعدامه.
ومن الأمثلة المحددة لهذه الأكاذيب، هي زعم الكيان الإسرائيلي، أن كوهين كان مسؤولًا عن إحباط خطة سورية لشن هجوم على إسرائيل في عام 1967، ومع ذلك، لم يتم العثور على أي دليل على هذه الادعاءات. في الواقع، كان كوهين قد اعتُقل في عام 1965، قبل عامين من اندلاع حرب الأيام الستة.
كما زعمت إسرائيل أيضًا أن كوهين كان على وشك إفشال خطة سورية لشن هجوم على إسرائيل في عام 1969، ومع ذلك، لم يتم العثور على أي دليل على هذه الادعاءات أيضًا. في الواقع، تم إعدام كوهين في عام 1965، قبل أربع سنوات من اندلاع حرب الاستنزاف.
تشير هذه الأكاذيب إلى أن إسرائيل كانت حريصة على الترويج لصورة إيلي كوهين كبطل قومي، حتى لو كانت هذه الصورة غير صحيحة. يرجع ذلك جزئيًا إلى أن إسرائيل كانت تسعى إلى تعزيز صورتها كدولة قوية قادرة على حماية نفسها من أعدائها، كما يرجع ذلك جزئيًا إلى أن إسرائيل كانت تسعى إلى تعزيز مكانتها في العالم العربي.
في الواقع، كان إيلي كوهين جاسوسًا أُدين بالخيانة العظمى وتم إعدامه، فلم يكن بطلًا قوميًا، ولم يكن له أي تأثير ملموس على تاريخ إسرائيل.
كانت الغاية هي اختراع جاسوس خارق وأسْطَرَته واستخدام نتائج ذلك في الحرب النفسية ضد العرب، والمفاخرة أمام الغرب بقدرة الموساد على الاختراق والتسلل، والحقيقة العارية هي أن إيلي كوهين يمثل أحد الإخفاقات الشائنة للموساد، وهاكم التفصيل.
الحرب النفسية الإسرائيلية
بعد هزيمة الخامس من حزيران 1967، شرع باحثو قسم الحرب النفسية في هيئة الأركان الإسرائيلية في صوغ كتب شتى لتغزو مكتبات بعض الدول العربية، خصوصاً بيروت، ومن بيروت كانت تلك الكتب تسلك إلى دمشق وبغداد وعمان.
والمشهور أن الموساد يُفرج، بين الفينة والأخرى، عن بعض الحكايات الاستخبارية التي يُعاد صوغها بطريقة تتحول معها تلك الحكايات إلى روايات خارقة، وتُنشر في كتب دعائية بعد مراقبتها بدقة، وبعد إضافة ما لا يحصى من معلومات مخترعة، مثل كتاب "جواسيس جدعون" (غوردون توماس) الذي صدرت ترجمته عن "الدار العربية للعلوم" في بيروت سنة 2007، وقد حاولت المخابرات المصرية أن تحذوَ حذوَ إسرائيل في هذا الميدان، فمنحت الكاتب صالح مرسي ملف الجاسوس المصري جمعة الشوان، فحوّله إلى مسلسل تلفزيوني بعنوان "رأفت الهجّان".
وعلى هذا الغرار صدرت كتب، وأُنتجت أفلام، وأُخرجت مسلسلات عن الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين مثل "وحيد في دمشق" (شموئيل ريغف) و"إيلي كوهين محارب دمشق" (جاك مارسييه)، وكانت الغاية اختراع جاسوس خارق وأسْطَرَته واستخدام نتائج ذلك في الحرب النفسية ضد العرب، والمفاخرة أمام الغرب بقدرة الموساد على الاختراق والتسلل، والحقيقة العارية هي أن إيلي كوهين يمثل أحد الإخفاقات الشائنة للموساد.
افتضاح أمر الجاسوس الإسرائيلي "إيلي كوهين" بسرعة في دمشق يُعد إنجازاً للمخابرات العسكرية السورية وإخفاقاً للمخابرات الخارجية الإسرائيلية، فالجاسوس إيلي كوهين الذي عملت الإستخبارات الاسرائيلية على تدريبه سنتين متواصلتين، لم يصمد في دمشق غير سنتين ونصف السنة فقط، وسقط بين أيدي الاستخبارات السورية، فهو أقام في سوريا من عام 1962، أي في بداية عهد الانفصال، إلى أوائل عام 1965 (ثلاث سنوات) تخللتها ثلاث زيارات لإسرائيل، أي إنه مارس التجسس 30 شهراً فقط منها شهور ميتة أمضاها في تأثيث المنزل وتجهيزه وشراء المصنوعات الحرفية وغير ذلك من حاجات جاسوس شاب ثري وعازب.
ضحالة دوره
جعلت الدعاية الإسرائيلية، كوهين، أسطورة في عالم الاستخبارات مع أنه أقل من جاسوس عادي، وضباط الموساد الكبار كانوا يتندرون على رسائله وضحالة مضامينها، ففي إحدى المرات بعث إلى رؤسائه برسالة يعبر فيها عن غضبه لهزيمة فريق كرة القدم الإسرائيلي أمام فريق زائر، وختم رسالته بالجملة التالية: "أَلم يحن الوقت كي ننتصر في ملاعب كرة القدم؟ أبلغوا الفريق الخاسر أنهم جلبوا لنا الخزي والعار".
ولم يكن يتردد في إرسال رسائل إلى مشغّله في مقر الموساد يطلب فيها إبلاغ تحياته إلى زوجته في عيد ميلادها، وإلى أولاده في أعيادهم أيضاً، ولما كان شقيقه موريس يعمل بدوره لدى الموساد في أجهزة استقبال الرسائل المشفرة، لاحظ أن هذه الرسائل تطابق تواريخ ميلاد زوجة أخيه وأولاده، وأن تلك الرسائل الواردة من دمشق تتوقف تماماً حين يكون كوهين في إسرائيل.
وفي إحدى المرات سأل موريس أخاه إيلي كوهين عن حذاء اشتراه هدية لابنته، فأجابه أنه اشتراه من باريس، وكانت العلامة التجارية مكتوبة على الحذاء بالعربية، ولما نبّهه موريس إلى هذا الأمر، استشاط إيلي كوهين غضباً، والمعروف أن أخطر ما يمكن أن يعرّض الجاسوس للانكشاف هو معرفة عائلته ومحيطه العائلي بمهمته السرية.
ومؤخراً، وفي سياق تباهي الموساد باستعادة جثة الرقيب الأول في الجيش الاسرائيلي زكريا باوميل في 3 نيسان 2019، راح يتفاخر باستعادة ساعة اليد التي كان يضعها إيلي كوهين في معصمه الأيسر، وأنها صارت في حوزة عائلته في 5 تموز 2018. وتبين لاحقاً أن الساعة جرى شراؤها في مزاد علني بواسطة الإنترنت.
لم يمكث هذا الجاسوس طويلاً في دمشق، ومعلوماته كانت تأتي من مصدرين فقط: جورج سالم سيف، وهو موظف مدني في وزارة الإعلام السورية، والملازم الأول معزى زهر الدين ابن أخت قائد الجيش المتقاعد عبد الكريم زهر الدين. وكان جورج سيف يزود كوهين بملخص يومي للصحف العربية، فينتقي منه كوهين ما يلائمه ويُرسله إلى إسرائيل. وهذا مصدر فقير جداً، وهو منشور، في أي حال، في الصحف العربية. أما الملازم الأول معزى زهر الدين فهو ضابط صغير، ويكاد يعادل رتبة العريف في الجيش اللبناني مثلاً، لأن الكليات الحربية السورية كانت تخرّج سنوياً مئات الضباط من أمثاله، وهؤلاء الذين لا مناصب قيادية لهم بحكم رتبهم المتواضعة، كانوا يمضون أوقاتهم في الثرثرة السياسية، ومن أفواه هؤلاء كان كوهين يلتقط معلوماته في أثناء السهرات في منزله التي كانت تضم بعض النساء.
المعلومات بسيطة في العادة، وعلى سبيل المثال، استقال اللواء محمد عمران في سنة 1964 من منصبه (نائب رئيس مجلس الوزراء)، وأجّلت القيادة السورية إذاعة الخبر لترتيب المسألة داخلياً، فعلم إيلي كوهين من معزى زهرالدين بذلك، وأرسل الخبر إلى الموساد، فإذا بالإذاعة الإسرائيلية تذيع الخبر الذي فاجأ المسؤولين الحزبيين في سوريا، وهذا عمل غير محترف وخفيف جداً، والخبر كان سيُذاع في أي حال خلال أيام، لكن إذاعة الخبر في الإذاعة الاسرائيلية نبّه الجهات الأمنية السورية إلى أن هناك جاسوساً في دمشق، وهو الذي يزود إسرائيل بتلك الأخبار، وعلى هذا النحو أرسل كوهين خبراً عن تعيين الوليد طالب وزيراً للخارجية بالوكالة، فأذاع الموساد الخبر، ويا له من خبر أمني عظيم!.
كتب إيلي كوهين قبل إعدامه رسالة بالعربية إلى زوجته نادية، وبخط يده، يعرب فيها عن ندمه، ونادية ممرضة يهودية كانت تعمل في مستشفى هداسا في القدس، وهي شقيقة الأديب المشهور سامي ميخائيل الذي كشف بنفسه أن "أمان" حاولت تجنيده للعمل في دمشق منذ سنة 1960، لكنه رفض، فاختارت كوهين لهذه المهمة بدلاً منه. وتلك الرسالة التي كتبها كوهين إلى زوجته بحرية تامة، ليس فيها أي موقف بطولي كالذي يتخذه المحكومون بالإعدام في لحظاتهم الأخيرة حيث لا شيء يخسرونه البتة. ودُفن كوهين، في البداية، في كهف على طريق دمشق – الديماس (طريق لبنان)، ثم نُقلت جثته لاحقاً إلى مكان مجهول (صلاح الضّلي، مقابلة مع مجلة الوسط، 22 آذار/ مارس 2004)، وهذه هي حكاية إيلي كوهين الجاسوس الأقل من جاسوس عادي لكنه نال تمجيداً لا يستحقه على الإطلاق.
القبض عليه وإعدامه
خلال شهر كانون الثاني 1965، استخدمت المخابرات السورية، بمساعدة خبراء سوفييت، معدات سوفيتية مخصصة لكشف إرسالات الراديو بهدف الإطاحة بجواسيس إسرائيليين على الأراضي السورية، وبمحض الصدفة، لاحظ السوريون إشارات راديو صادرة من مكان إقامة إيلي كوهين. وعلى إثر ذلك، تمت الإطاحة بالأخير، الذي استعد للانتحار لحظة القبض عليه، تزامناً مع كشف هويته الحقيقية وطبيعة أنشطته.
وعلى الرغم من مناشدات تقدمت بها الفاتيكان وكندا وبلجيكا وفرنسا وعروض إسرائيلية بمقايضته مقابل مبالغ مالية هامة، أعدمت سوريا الجاسوس إيلي كوهين شنقاً يوم 18 أيار 1965 بساحة المرجة بدمشق، وقد ظلت جثته معلقة لساعات قبل دفنها تحت رقابة أمنية مشددة.
خلال العقود التالية، حاولت إسرائيل أكثر من مرة استعادة رفات إيلي كوهين، وفي الأثناء، تحدثت السلطات السورية عن نقل الرفات وإعادة دفنها مرات عدّة لتجنب استعادة الإسرائيليين لها بعملية خاصة.
أمين الحافظ شارك في التحقيق معه
الرئيس السوري الأسبق أمين الحافظ، كشف في حوار متلفز، أنه شارك في التحقيق مع إيلين كوهين، وذكر أنه "إيلي كوهين بقي في شقته لمدة 4 أيام دون اعتقاله او التحقيق معه، لمعرفة من يرتاد الشقة التي يسكن فيها، لغاية اعتقاله رسميا وإعلان اعتقاله في الإعلام السوري، ودعا الحافظ الجهات التحقيقية المسؤولة للتحقيق معه بعد شكوك كونه صهيونيا يهوديا وغير عربي.
ويروي أمين الحافظ، أنه تم إبلاغه بموجز عن إيلي كوهين بعد اعتقاله، تضمن الموجز تاريخ حياته في الارجنتين، والشكوك التي حوله، وذهب أمين الحافظ بنفسه للتحقيق مع الجاسوس، وسأله عن معارفه في الارجنتين وذكر أسماء يعرفها، وفي حديثه من الحافظ، ذكر إيلي كوهين أنه كان يصلي في جامع الإسلام في الارجنتين، واستدرك الحافظ خلالها أنه لا يوجد جامع في الارجنتين للمسلمين، فطلب الحافظ من كوهين أن يقرأ سورة الفاتحة فلم يستطيع، وطلب منه قراءة أي أية قرآنية وأيضا فشل كوهين في ذلك.
وبعد جملة من الأسئلة والتحقيقات، تأكد أمين الحافظ أن إيلي كوهين يهودي مئة بالمئة، ودعا ضباط التحقيق إلى إعادة التحقيق على هذا الأساس، وتم التيقن فعلا من شكوك الحافظ.