أنصار الله في اليمن.. ظاهرة مُلهمة تخلق نموذجاً مقاوماً قادراً على الانتصار بأقل الإمكانات

انفوبلس..
في واحدة من أكثر الحملات البحرية تأثيراً في القرن الحادي والعشرين، نجحت جماعة "أنصار الله" في تحويل البحر الأحمر إلى ساحة مواجهة عالمية، هزّت الاقتصاد الدولي، وأجبرت الولايات المتحدة على التفاوض، وسط تصاعد نفوذهم الإقليمي، ورفضهم التراجع عن دعم غزة في وجه العدوان الصهيوني.
في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وبعد شهر من بدء حرب الإبادة الجماعية التي شنها الكيان الصهيوني على غزة، بدأت جماعة "أنصار الله" في اليمن حملة هجومية بطائرات بدون طيار وصواريخ تستهدف سفناً مرتبطة بالكيان في البحر الأحمر أو تتجه إليه، وأدى هذا التحرك، الذي تم إطلاقه تضامناً مع الفلسطينيين وللضغط على الاحتلال لوقف الحرب على غزة، إلى أكبر اضطراب في التجارة العالمية منذ جائحة كورونا.
وبسبب الخوف من الهجمات الحوثية٬ تجنبت السفن المسافرة من أوروبا إلى آسيا عن طريق قناة السويس التقليدي المؤدي إلى البحر الأحمر وخليج عدن. وبدلاً من ذلك، اختاروا الطريق الأطول والأكثر تكلفةً حول رأس الرجاء الصالح في الطرف الجنوبي لأفريقيا. ونتيجةً لذلك، انخفضت حركة الملاحة البحرية في خليج عدن بنسبة 70% خلال عامين.
استدعت تلك الهجمات شن الولايات المتحدة -وبعض حلفائها- هجمات على اليمن لردع الحوثيين، استمرت تلك الحملات حتى نهاية عهد إدارة جو بايدن٬ وخلال فترة الهدنة بين الكيان الصهيوني والمقاومة الفلسطينية في غزة ما بين يناير ومارس 2025 توقفت تلك الهجمات، لكن مع عودة الحرب على غزة عاد الحوثيون لضرب الكيان وكذلك السفن المتوجهة له، فيما ردت الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة ترامب بحملة قصف عنيفة وغير مسبوقة على اليمن لردع أنصار الله عن تهديد الكيان الصهيوني أو السفن الأمريكية وحاملات الطائرات في المنطقة.
وبعد سبعة أسابيع ونصف من الغارات الجوية المكثفة على أكثر من 1000 هدف منفصل، انتهت حملة القصف التي شنتها إدارة ترامب ضد الحوثيين في اليمن فجأة كما بدأت، حيث توصل الطرفان لاتفاق بواسطة عُمانية في 7 مايو/أيار 2025 بموجبه وافق أنصار الله على وقف مهاجمة السفن التجارية والأهداف الأمريكية (باستثناء الهجمات على السفن والمدن الصهيونية التي استمرت)، فيما وافقت الولايات المتحدة بالمقابل على وقف الضربات الجوية على اليمن.
شعبية كبيرة وإنجازات مهمة
وبفتح جبهة حرب بحرية على مدار عام ونصف٬ اكتسب أنصار الله شعبية محلية وعربية وسمعة دولية مخيفة، حيث عززت الحملة البحرية التي شنتها النفوذ العسكري لها في المنطقة، على الرغم من الثمن الباهظ الذي دفعته الجماعة واليمن في هذه الحرب، حيث شنت الولايات المتحدة والكيان الصهيوني أعنف غارات على المدن والمراكز الحيوية والموانئ اليمنية لردع الحوثيين الذين رفضوا التراجع للخلف.
على مدى 18 شهراً من الحرب، نفذ أنصار الله هجمات على أكثر من 250 سفينة عسكرية وتجارية، ناهيك عن قصفهم الذي لم يتوقف لمدن ومواقع إسرائيلية بالطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية.
ويقول موقع MEE البريطاني، إن الاضطراب التجاري الهائل في البحر الأحمر الناتج عن هذه الهجمات منح أنصار الله نفوذاً على الساحة الدولية حتى أجبروا الولايات المتحدة على التفاوض معهم في النهاية.
كان العمل العسكري تضامناً مع الفلسطينيين، سواء في المياه الدولية أو عبر الضربات الصاروخية بعيدة المدى على إسرائيل، أداة دعائية محلية رئيسية أنصار الله الذين "انتصروا لغزة ووقفوا على الجانب الصحيح من التاريخ" كما يقول مواطنون يمنيون.
أدت هذه الشعبية إلى حملة فعالة للغاية لتجنيد العسكريين٬ حيث تقول إليونورا أرديماجني، الباحثة البارزة في المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية: "استثمر أنصار الله الهجمات على السفن وعلى الكيان الصهيوني لزيادة التجنيد في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، مستغلين رواية القتال ضد الكيان الصهيوني والولايات المتحدة".
وارتفع عدد مقاتلي أنصار الله من 220 ألفاً في عام 2022 إلى 350 ألفاً في عام 2024، بحسب خبراء الأمم المتحدة.
كما منحت الحملة الجماعة، التي لا تعاني من نقص في الأعداء على الصعيدَين المحلي والدولي، فرصاً لنشر أسلحة جديدة وتعزيز جاهزيتها العملياتية.
واختبر أنصار الله استخدام الصواريخ الباليستية والصواريخ المجنحة على مدى العام والنصف الماضيين، بالإضافة إلى الطائرات والقوارب بدون طيار.
باستخدام مزيج من الأسلحة الإيرانية والطائرات بدون طيار والصواريخ المنتجة محليا، نجح أنصار الله في تقديم مقاومة جدية ضد أنظمة الصواريخ الأميركية الأكثر تكلفة بكثير.
وبالإضافة إلى الفوائد المتعلقة بالسمعة، ساعدت الحملة البحرية أنصار الله على بناء روابط عسكرية ومالية ملموسة مع الشركاء المجاورين.
وأضافت أرديماني: "بسبب هجمات البحر الأحمر، قاموا أيضًا بتوسيع شبكة شركائهم في العراق، والأهم من ذلك، في منطقة القرن الأفريقي – وبالتالي تشكيل علاقات مدفوعة بالأسلحة مع الجهات الفاعلة القريبة جغرافيًا، على التوالي، من البحر الأبيض المتوسط وبحر العرب".
ولم يقتصر التعاون على الجهات الشيعية، بل شمل أيضا العديد من الجماعات السنية المسلحة المقاومة للكيان الصهيوني.
وأضافت أرديماني، أن "روسيا كثفت أيضًا اتصالاتها السياسية والعسكرية مع أنصار الله بعد أواخر عام 2023". وتضمنت تلك الأنشطة زيارات وفود بين الجانبين، وتواجد استخباراتي روسي في المناطق التي يسيطر عليها أنصار الله في اليمن، فضلاً عن تبادل بيانات الأقمار الصناعية الروسية فيما يتعلق بالشحن.
كيف حدث التفوق؟
يعتقد علي، وهو قائد ميداني عسكري حوثي في منطقة الجوف الشمالية، أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تلقى درسا كبيرا منذ شن الهجوم على اليمن في مارس/آذار الماضي.
وقال: "عندما بدأ ترامب الحملة الجوية، قال إنه سيُبيدنا. والآن أمر الجيش بوقف الغارات الجوية. إن القتال ضد اليمن ليس مغامرة سهلة".
وأشار علي إلى أن أنصار الله أسقطوا منذ منتصف مارس/آذار الماضي سبع طائرات مسيرة أميركية من طراز "إم كيو-9 ريبر" وطائرتين مقاتلتين إف-18 بعد استهداف حاملة الطائرات هاري ترومان. وقال: "لم يكن من المتوقع أن تحدث مثل هذه الخسارة في واشنطن".
من جهته٬ قال محمد السامعي، وهو باحث وصحفي مقيم في تعز، إن "هجمات البحر الأحمر عززت مكانة أنصار الله كلاعب إقليمي رئيسي".
وبعد الاتفاق بين الأمريكيين وأنصار الله وعلى نحو غير متوقع من شخصية بحجم رئيس الولايات المتحدة٬ أشاد ترامب بصمود أنصار الله٬ وقال في المكتب البيضاوي للصحفيين: "لقد تحملوا الضربات القاسية التي وجهناها لهم وأظهروا شجاعة غير متوقعة".
وتعلق مجلة "ذي أتلانتيك" الأمريكية على ذلك بالقول، إن الولايات المتحدة انسحبت من الصراع مع أنصار الله حتى الآن وتركت الكيان الصهيوني وحده، ولا يوجد ما يشير إلى أن أنصار الله سيُنهون حربهم مع الكيان الصهيوني٬ حيث أصدرت الجماعة بياناً مُتحدّياً وواصلت هجماتها، مُؤكدة أن الهجمات الصهيونية الأخيرة "لن تمر دون رد"، وأن "اليمن لن يتخلى عن موقفه تجاه غزة".
أما مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية فقد كتبت في مقال حمل عنوان "كيف تفوّق الحوثيون على أمريكا"٬ أنه بالنسبة لإدارة ترامب، وفّر وقف إطلاق النار نهاية سريعة لحملةٍ عسكرية كانت تزداد صعوبةً.
"لم يكن القصف باهظ التكلفة فحسب، بل أثار أيضًا مخاوفَ لدى صانعي السياسات في واشنطن من احتمال انزلاق الولايات المتحدة إلى حربٍ أخرى لا تنتهي في الشرق الأوسط. لا شك أن هذا السيناريو كان مدعومًا من نائب الرئيس جيه دي فانس وأعضاء الإدارة الأكثر ميلًا إلى الانعزالية الجديدة، والذين كانوا متشككين في المغامرة العسكرية الأمريكية منذ البداية".
وتضيف المجلة الأمريكية، أنه "لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت هذه الخاتمة ستُحدث استراحةً كافيةً تُمكّن إدارة ترامب من التبرّؤ من مشكلة أنصار الله. ولكن إذا تجاهل ترامب هجماتهم المستمرة على الكيان، فهناك ما يدعو للاعتقاد بأن أنصار الله سيتجنبون، في الوقت الحالي، مهاجمة الأصول الأمريكية".
"وكان أنصار الله سيصمدون على الأرجح، حتى لو استمرت حملة القصف الأمريكية، لكن إنهائها يحمل في طياته العديد من المزايا لهم"، وفقا للصحيفة.
وتقول "فورين أفيرز": "يستطيع قادة الجماعة الآن القول بأنهم خاضوا مواجهةً مباشرة مع قوة عظمى وانتصروا، وأنهم سيتخلصون من الضغط الذي فرضه عليهم القصف الأمريكي. يمكنهم أيضاً التركيز على إسرائيل، التي تشن حملتها الجوية العقابية على اليمن، بما في ذلك شن هجوم صاروخي باليستي على مطار بن غوريون الذي هز تل أبيب. والأهم من ذلك، أن الاتفاق مع الولايات المتحدة يجعل من المستبعد جداً أن تدعم واشنطن هجوماً برياً ضد أنصار الله من قِبل الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، وهي تحالف منقسم داخلياً من الفصائل المناهضة للحوثيين، ويسيطر على الأجزاء الجنوبية والشرقية من البلاد".
فيما تقول مجلة "الإيكونومست" البريطانية إن اتفاق الأمريكيين أشعر خصوم أنصار الله في اليمن بالغضب أيضاً٬ حيث كان البعض يأمل أن يرضخ أنصار الله بضغط أمريكي على اتفاق لتقاسم السلطة والسماح للحكومة المعترف بها دولياً بالعودة إلى العاصمة صنعاء. بينما أمل آخرون في استغلال توسع المهمة الأمريكية وإعادة شن هجوم بري على أنصار الله. والآن يخشون أن يكون أنصار الله هم من يتقدم بعد تحقيق كل هذه المكاسب٬ حيث لا يمكن لأي من القوات اليمنية الأخرى أن تضاهي قوة أنصار الله اليوم. فقد تضاعف عددهم 12 مرة ليصل إلى 350 ألف جندي منذ عام 2015، وفقًا للأمم المتحدة. وعلى عكس خصومهم اليمنيين، فهم منضبطون وجاهزون للمعركة.
وتقول المجلة البريطانية إن الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو تخلي ترامب عن الكيان الصهيوني في هذه المعركة٬ فقد أطلق حملته في مارس/آذار عندما استأنف أنصار الله هجماتهم على الكيان٬ لكن الاتفاق لا يُقيّد هجمات أنصار الله ضد حليف أمريكا.
ويؤكد الحوثيون أنهم سيواصلون الهجوم على إسرائيل ما دامت إسرائيل تُواصل حصارها لغزة. وقد يكون هذا مؤشراً على إحباط ترامب من نتنياهو، أو على عزمه على إبرام اتفاق مع إيران. وفي كلتا الحالتين، تبدو إسرائيل خارج الدائرة بالنسبة لترامب.