إلغاء الخلافة العثمانية.. 100 عام على وفاة "الرجل المريض".. تعرف على الحركات التي حاولت إعادة ما ألغاه "أتاتورك"
انفوبلس/ تقارير
في مثل هذا اليوم قبل مئة عام، ألغى كمال أتاتورك منصب "الخلافة الإسلامية" في تركيا، بعد أربعة عشر شهراً على إلغاء السلطنة العثمانية التي حكمت البلاد ستة قرون ونيّف. وظن أتاتورك أنه قضى على السلطنة و"الخلافة" معاً، ولم يخطر في باله أن "الخلافة" المزعومة ستعود، بشكل مزوَّر ومشوَّه للغاية، بعد تسعين سنة من قراره. انفوبلس سلّطت الضوء على هذه الذكرى وتناولت أيضا أبرز الحركات والشخصيات الذين حاولوا إعادة الخلافة لكنهم فشلوا.
*مدخل
تشير بعض الكتابات التي تناولت السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، وهو الذي كان عاشقاً لفنون الأوبرا والمسرح، إلى روايات عن أنه كان يأمر الموسيقيين والكُتاب العثمانيين بتغيير النهايات الحزينة للأعمال الفنية لتحل محلها نهايات سعيدة.
وسواء صدَّقت تلك الرواية أم لا، فإن السلطان العثماني، الذي كان معارضوه يصفونه بـ"الطاغية"، لم يستطع رغم سلطاته الكبيرة أن يغير نهاية حكمه أو يجنّب السلطنة العثمانية أو مؤسسة الخلافة نهايتهما.
ففي عام 1909 خُلع السلطان، وبعد ذلك بـ15 عاما، أي قبل مائة عام من الآن، تُلغى الخلافة العثمانية بعد قرون من سيطرة العثمانيين على مناطق عدة في آسيا وأفريقيا وأوروبا.
وفي الثالث من مارس/ آذار 1924 وافق البرلمان التركي على إلغاء الخلافة الإسلامية ليضع نهاية للخلافة العثمانية.
*محاولات لملء الفراغ
نصَّ الدستور التركي الجديد على أن مصدر الشرعية في جمهورية أتاتورك هم الناس، وليس الدين الإسلامي، وهو ما أغضب مسلمين من العالم، وظهرت سلسلة من المبادرات لملء المنصب الشاغر، منها "حركة الخلافة" في الهند، و"جمعية الخلافة" في سوريا.
نادى رئيس الجمعية في دمشق الأمير سعيد الجزائري بضرورة العثور على "خليفة" صالح لتولي شؤون الأمة، عارضاً نفسه في مقدمة المرشحين، مع التحذير من ظهور شخص مُدَّعٍ أفّاك– وكأنه تنبّأ بظهور أبو بكر البغدادي– يقول في يوم من الأيام إنه "الخليفة" المنتظَر. أيَّده في مخاوفه كل من الشريف حسين بن علي، قائد الثورة العربية الكبرى، وفؤاد الأول ملك مصر، ولكن كل واحد منهما رأى أنه يصلح ليكون "الخليفة"، بدلاً من عبد المجيد الثاني.
*الحركات الأشخاص الذين حاولوا إعادة "الخلافة"
رأى الشريف حسين أنه يستوفي كل الشروط عند المسلمين، لأنه قرشيٌّ من آل البيت، وأعلن ترشحه لـ"الخلافة" في 11 مارس/ آذار 1924- بعد أسبوعين من إلغاء المنصب في تركيا- وفي غضون أربع وعشرين ساعة دعا الملك فؤاد لعقد مؤتمر لعلماء المسلمين في القاهرة لمناقشة مستقبل "الخلافة".
لم يُخفِ الملك المصري رغبته في تولي المنصب، بدعم كامل من علماء الأزهر، ولكن طموحاته وطموحات الشريف حسين أُجهضت من قبل الملك عبد العزيز آل سعود.
بقي الموضوع عالقاً لسنوات حتى مجيء حسن البنا، مؤسس جماعة "الإخوان المسلمين" في مصر، ليطرحه من جديد سنة 1928، وبعدها تبنّاه زعيم تنظيم "القاعدة" الإرهابي أسامة بن لادن، ونائبه أيمن الظواهري الذي بشَّر بقرب عودة "خلافتَين" سنة 1982، الأولى في أفغانستان، والثانية في الشيشان.
اتخذ صُنّاع القرار في الولايات المتحدة من هذه الأحاديث ذريعةً لحروبهم في عهد الرئيس جورج بوش الابن، الذي ذكر كلمة "الخلافة" أربع مرات في خطاب واحد له سنة 2006. وقال نائبه ديك تشيني إن "القاعدة" تريد "استعادة الخلافة القديمة" بينما حذر وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد من أن تنظيم "القاعدة" يسعى "إلى إقامة خلافة بدلاً من الأنظمة الإسلامية القائمة". بينما قال النائب الأميركي آلان ويست في أغسطس 2011: "ما يسمى بالربيع العربي لا علاقة له بالديمقراطية بل هو المرحلة الأولى من استعادة الخلافة الإسلامية".
ويبدو أن هذا الكلام جاء رداً على أمين عام حزب "النهضة الإسلامية" في تونس حمادي الجبالي قبل توليه رئاسة الحكومة في بلاده، يوم ظهر في مقطع مصور مخاطبا أنصاره في مدينة سوسة بالقول: "يا إخواني أنتم أمام لحظة تاريخية... في الخلافة الراشدة السادسة إن شاء الله". أثار كلامه يومها عاصفةً من الاستنكار، وكان الجبالي يُشير إلى الخلفاء الراشدين الأربعة، يضاف إليهم الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز. ورأى أن "الخلافة السادسة" ستظهر في تونس عن طريق السياسيين الإسلاميين الذين تولوا الحكم بعد الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي. وقد أثنى على كلامه كل من زعيم "حركة النهضة" التونسية راشد الغنوشي، ومرشد "الإخوان" في مصر محمد بديع.
لم يعارض أيٌّ من هؤلاء إعلانَ المقبور أبو بكر البغدادي نفسَهُ "خليفةً" مزعوماً سنة 2014، أولاً لأن الفكرة كانت تروق لهم جميعا، ولأن البغدادي نفسه كما تبين لاحقا كان عضواً في "الإخوان المسلمين". ولم يعترض "إخوان مصر" على قول الإرهابي أبو محمد العدناني، الناطق الرسمي باسم تنظيم "داعش": إن "الخلافة حلم في ضمير كل مسلم". اعتراضهم الوحيد كان على شخص البغدادي، وقولهم إنه لا يستوفي شروط البيعة.
*خلافة "البغدادي" المزعومة
ولكن علماء المسلمين كان لهم رأي آخر، فقد رفضوا بيعة البغدادي و"خلافته" المزعومة، ووقَّعوا بيانا مشتركا موجَّها له بالاسم، اتهموه فيه بتشويه الحديث الشريف، وتفسير القرآن الكريم. حتى في فرنسا خرج آلاف المسلمين الغاضبين يومها رافعين شعار: "ليس باسمنا"، ودعت دار الإفتاء المصرية إلى تسمية "داعش" بـ"الدولة اللا إسلامية". مع ذلك، انجرف عدد لا بأس به من الخبراء الأجانب، إما عن قصد أو بسبب جهلهم بتاريخ الإسلام، وعدّوا "خلافة داعش" المزعومة استمراراً لـ"الخلافة" الإسلامية القديمة التي بدأت مع أبو بكر الصديق، وآلت إلى أبو بكر البغدادي، دون التطرق إلى الفوارق الشاسعة بينهما.
*"رجل أوروبا المريض"
كان على الدولة العثمانية مجابهةَ أوروبا التي استفادت من منتجات التنوير والثورات العلمية في عدة مجالات، بينما لم يشهد العالم الإسلامي ثورات ثقافية مشابهة، كما يشير إينالجيك في كتابه عن تاريخ الدولة العثمانية.
فبينما بدأت الطباعة في أوروبا في منتصف القرن الخامس عشر، لم تسمح الدولة العثمانية إلا لأفراد محدودين من أقليات دينية بإنشاء عدد محدود من المطابع بينما استمرت عملية نسخ الكتب بالطريقة اليدوية.
ومما زاد من ارتباك المشهد السياسي في داخل الدولة العثمانية أن الدولتين الاستعماريتين الأكبر في العالم، بريطانيا وفرنسا، كانتا هما مَن دعمتا العثمانيين ضد الروس في أكثر من مرة، لعل أبرزها حرب القرم.
في المقابل فإن القوى الغربية كانت ترى في الدولة العثمانية "رجل أوروبا المريض"، وتباينت الآراء حيال الموقف منها بين فريق يدعو إلى القضاء عليها وتقسيم ممتلكاتها وفريق آخر يدعو إلى دعمها لمواجهة المطامع الروسية.
وفي ظل هذه التحديات يقرر عدد من السلاطين العثمانيين إدخال إصلاحات قانونية وإدارية، عُرِفت بالتنظيمات.
لكن تلك الإصلاحات لم تتمكن من إيقاف متاعب الدولة العثمانية المتواصلة لدرجة إعلان السلطات في إسطنبول عجز الدولة عن سداد ديونها الخارجية عام 1875.
وفي ظل هذا الأجواء يتولى عبد الحميد الثاني منصب السلطان العثماني عام 1876، ويدشن عهده بإقرار دستور ليبرالي وتشكيل برلمان.
لكن التجربة الدستورية العثمانية لم تستمر طويلا إذ يقرر عبد الحميد حل البرلمان وتعليق الدستور ونفي الزعماء الإصلاحيين بعد نحو عام فقط من بدء الحرب الروسية ضد الدولة العثمانية عام 1877.
صبَّت الانتصارات التركية في مصلحة سلطة أنقرة على حساب الحكومة في إسطنبول، ليدعو أتاتورك، الذي تولى رئاسة البرلمان، وأنصاره إلى توحيد القرار السياسي مطالباً بإلغاء السلطنة كسلطة سياسية مع الإبقاء على منصب الخليفة كرمز ديني.
وهكذا صوت البرلمان التركي في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني 1922 على إلغاء حكومة السلطان العثماني، على أن تكون الخلافة منوطة بالأُسرة العثمانية لكن يكون للبرلمان حق اختيار الخليفة، وهو قرار أحجم عدد من النواب عن تأييده.
وفي يوليو/ تموز عام 1923 تم إبرام معاهدة لوزان التي حددت شكل تركيا الحديثة.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول عام 1923 تم إعلان الجمهورية التركية وتولّي أتاتورك منصب الرئيس.
وهكذا استحوذ أتاتورك على المنصب السياسي الأهم في تركيا بينما بقى الخليفة عبد المجيد الثاني في قصره بإسطنبول من دون أي صلاحيات على الإطلاق.
لكن يبدو أن حتى هذه القسمة لم تعد تُرضي أتاتورك.
ففي ديسمبر / كانون أول 1923، تُسرِّبُ الصحف التركية رسالة وقَّعها زعماء مسلمون هنود يطالبون فيها الحكومة التركية بالحفاظ على منصب الخلافة، ليستغل أنصار أتاتورك الأمر ويصفون الخطاب بمحاولة التدخل في الأمور الداخلية لتركيا.
ويوجه أتاتورك سهام النقد لعبد المجيد الثاني قائلا إن الخليفة "يسير على خطى السلاطين السابقين، وإنه على اتصال بالسفراء الأجانب".
وفي الأول من مارس/ آذار عام 1924 تحدث أتاتورك أمام البرلمان عن أن "الدين الإسلامي سيسمو بالتوقف عن استخدامه كأداة سياسية".
وسرعان ما التقط البرلمان التلميح، حيث تقدم النواب الموالون لأتاتورك في الثالث من مارس/ آذار عام 1924 بثلاثة مشاريع لإلغاء وزارة الأوقاف وإنشاء نظام تعليم موحد وإلغاء الخلافة.
ووقف وزير العدل في الحكومة، سيد بك، ليقول إن "الخلافة مترادفة مع السلطة الزمنية. ولا أساس لبقائها بعد انفصالها عن السلطة".
وانتهت النقاشات بتصويت البرلمان بالموافقة على القوانين الثلاثة، ليُجبَر الخليفة عبد المجيد الثاني في الرابع من مارس/ آذار على مغادرة البلاد".