الإعلام يتجاهل التجنيد الأوكراني المعلن ويطارد وهم المقاتلين مع روسيا
عراقيون في حرب أوكرانيا
انفوبلس..
في خضمّ الحرب الروسية – الأوكرانية، برزت ظاهرة لافتة في التغطيات الإعلامية الغربية والإقليمية، تتمثل في التركيز المكثّف على إشاعات وأخبار غير مؤكدة تتحدث عن سفر عراقيين للقتال إلى جانب الجيش الروسي، مقابل تجاهل أو تهميش معطيات موثقة وعلنية تؤكد انخراط عراقيين وأجانب آخرين في القتال إلى جانب أوكرانيا عبر مسارات رسمية ومعلنة.
هذا التفاوت في المعالجة الإعلامية يثير تساؤلات جدية حول معايير الانتقاء، وحدود المهنية، وأهداف السرديات المتداولة عن دور “المقاتلين الأجانب” في هذه الحرب.
سردية غير مثبتة عن “الروس”
منذ الأسابيع الأولى للحرب، تداولت وسائل إعلام وتقارير متعددة روايات تتحدث عن قيام روسيا باستقطاب مقاتلين أجانب، من بينهم عراقيون، للقتال في صفوفها، غير أن هذه الروايات بقيت، حتى اليوم، دون أدلة دامغة أو مسارات واضحة يمكن تتبعها.
ولا توجد منصات رسمية روسية أعلنت فتح باب التطوع للأجانب على غرار ما فعلته أوكرانيا، ولا بيانات موثوقة تؤكد وجود آليات تجنيد منظمة أو ممرات سفر معروفة. ومع ذلك، استمر تضخيم هذه الأخبار، غالباً بصيغة “مصادر مطلعة” أو “تقارير غربية”، دون تقديم تفاصيل تحقق الحد الأدنى من التحقق الصحفي.
هذا التركيز الإعلامي على الجانب الروسي، رغم هشاشة معطياته، أسهم في ترسيخ انطباع عام بأن موسكو تعتمد بشكل واسع على “مرتزقة أجانب”، ومنهم عراقيون، وهو انطباع لا تدعمه الوقائع المعلنة حتى الآن، والمفارقة أن هذا الخطاب يُعاد إنتاجه باستمرار، في حين لا يحظى الجانب الآخر من الصورة بالاهتمام ذاته.
أوكرانيا والمسارات المعلنة
في المقابل، أعلنت أوكرانيا بشكل صريح وواضح منذ الأيام الأولى للحرب عن تشكيل ما سمته “الفيلق الدولي للدفاع عن أوكرانيا”، وفتحت باب التطوع للأجانب عبر موقع إلكتروني رسمي، وإجراءات رقمية مركزية.
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي تحدث علناً عن هذا الفيلق، واعتبره دليلاً على الدعم الدولي لبلاده، فيما أكدت وزارة الدفاع الأوكرانية تلقيها آلاف الطلبات من متطوعين أجانب من مختلف الجنسيات.
ضمن هذا السياق، ظهر العراقيون كجزء من هذا التدفق، خصوصاً من فئات تمتلك خبرة سابقة في التعامل مع السلاح، أو تبحث عن مسارات جديدة خارج الإطار المحلي.
دوافع هؤلاء لا تُختزل في عامل واحد؛ فهي تتراوح بين السعي إلى تجربة مختلفة، والانجذاب إلى فكرة القتال ضمن وحدات دولية، وصولاً إلى الطموح بالوصول إلى الفضاء الأوروبي، سواء عبر الإقامة أو الجنسية لاحقاً.
دوافع معقدة ومسارات واضحة
تُظهر المعطيات أن تطوع العراقيين للقتال إلى جانب أوكرانيا يمر بمراحل واضحة: تقديم عبر الموقع الرسمي، فرز أولي، مقابلات عبر تطبيقات مشفرة، ثم السفر غالباً إلى تركيا كنقطة انطلاق، قبل الوصول إلى المعابر الحدودية مع أوكرانيا، مثل معبر “ميديكا – شيهيني” مع بولندا، وبعد ذلك، يُنقل المتطوعون إلى مراكز تدريب معروفة في غرب أوكرانيا، قبل توزيعهم على جبهات القتال.
هذه المسارات المعلنة، بتفاصيلها الجغرافية والتنظيمية، تكشف تناقضاً صارخاً مع السردية الإعلامية التي تفضّل التركيز على “تجنيد روسي غامض”، وتتجاهل حقيقة أن أوكرانيا نفسها تدير عملية استقطاب دولية مفتوحة، وبشروط واضحة، ورواتب مُعلنة قد تصل إلى ثلاثة آلاف دولار شهرياً، مع وعود بالإقامة أو الجنسية.
البيئة القتالية والواقع الصادم
بالنسبة للعراقيين الذين وصلوا إلى الجبهات الأوكرانية، سرعان ما يتبدد البعد الرومانسي أو “المغامراتي” للحرب. فبيئة القتال هناك تختلف جذرياً عن تجارب سابقة في حروب غير نظامية. إنها حرب مدفعية ثقيلة، وطائرات مسيّرة، وخنادق ثابتة، حيث يتحول الحلم بتغيير المسار إلى صراع يومي من أجل البقاء.
ويتوزع العراقيون على تشكيلات متعددة، من وحدات دولية مختلطة، إلى كتائب ذات طابع عقائدي أو ديني، وصولاً إلى وحدات مستقلة تضم مقاتلين من جنسيات مختلفة.
صمت إعلامي انتقائي
رغم وضوح هذه الصورة، يلاحظ أن كثيراً من وسائل الإعلام الغربية والإقليمية لا تمنح هذا الملف حقه من التغطية التحليلية المتوازنة، فالإعلان الأوكراني عن آلاف الطلبات الأجنبية، والتصريحات الرسمية عن الحاجة لمقاتلين، ومسارات العبور والتدريب، كلها عناصر غالباً ما تُذكر عرضاً، أو تُترك في الهامش، مقابل تضخيم أخبار غير مؤكدة عن الطرف الروسي.
هذا الصمت الانتقائي يطرح تساؤلات حول ما إذا كانت التغطية الإعلامية محكومة بالاصطفافات السياسية الدولية أكثر من التزامها بتقديم صورة شاملة ومعقدة للواقع. فالتركيز على إشاعات غير مثبتة، وتجاهل وقائع معلنة، لا يخدم فهم الجمهور للحرب، بقدر ما يعزز سرديات أحادية الاتجاه.
الموقف العراقي
من زاوية قانونية وسياسية، لا يملك العراق إطاراً تشريعياً واضحاً ينظم مسألة قتال مواطنيه في حروب دول أخرى، خصوصاً تلك التي لا ترتبط بمواقف رسمية أو قومية.
ويؤكد مختصون أن انخراط أفراد في هذه الصراعات لا يمثل موقفاً عراقياً، ولا ينبغي أن يُستخدم لإقحام البلاد في اصطفافات دولية حادة.
في ظل هذا المشهد، تبدو الحاجة ملحّة لإعلام أكثر توازناً، يميز بين ما هو مثبت وما هو إشاعة، ويعرض الوقائع كما هي، لا كما تُملى عليه من خرائط السياسة الدولية. فالحرب الأوكرانية، بما تحمله من تعقيدات، تستحق معالجة تتجاوز الانتقائية، وتضع الحقائق المعلنة جنباً إلى جنب مع الأسئلة الصعبة التي تفرضها.