تسريبات خطيرة: تحقيق يقلب المعادلة ويكشف أرقاما صادمة.. وثائق سرّية تكشف أن 83% من ضحايا حرب غزة مدنيون
انفوبلس/..
منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، والجدل مستمر حول حجم الخسائر البشرية التي يتكبدها الفلسطينيون، وما إذا كان جيش الاحتلال يستهدف المقاتلين أم المدنيين. لكن تحقيقاً صحفياً مشتركاً، نُشر في صحيفة ذا غارديان البريطانية بالتعاون مع مجلة “+972” الإسرائيلية وصحيفة “لوكال كول” العبرية، قلب المعادلة وكشف أرقاماً صادمة تؤكد أن غالبية من يسقطون في غزة هم من المدنيين العزّل.
التحقيق استند إلى بيانات استخباراتية إسرائيلية سرّية أظهرت أنّ نسبة المدنيين بين الشهداء بلغت 83% حتى مايو/أيار 2025، وهو معدل “غير مسبوق تقريباً في النزاعات المسلحة الحديثة”، بحسب خبراء حقوقيين ودوليين.
أرقام مفزعة من قلب الوثائق السرّية
تُظهر قاعدة البيانات التي سرّبتها مصادر استخباراتية إسرائيلية أنّه من بين نحو 53 ألف شهيد فلسطيني سقطوا خلال 19 شهراً من الحرب، لم يتجاوز عدد المقاتلين الموثّقين 8900 مقاتل ينتمون إلى حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي”. ما يعني أنّ خمسة من كل ستة شهداء هم مدنيون، معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن.
هذا الرقم يتناقض جذرياً مع الرواية الرسمية الإسرائيلية التي تروّج منذ بداية الحرب أن عملياتها “تستهدف البنية العسكرية للمقاومة”، بينما الحقائق تشير إلى أن المدنيين هم وقود هذه الحرب الدامية.
إبادة جماعية موثقة بالأرقام
وفقاً لخبراء الصراعات في جامعة أوبسالا السويدية (UCDP)، فإنّ النسبة المسجّلة في غزة تُصنَّف بين الأعلى في التاريخ الحديث، ولا تتفوّق عليها إلا حالات استثنائية مثل مجزرة سربرنيتسا في البوسنة والهرسك، والإبادة الجماعية في رواندا، وحصار ماريوبول الأوكرانية عام 2022.
هذا يعني أنّ ما يجري في غزة، ليس “أضراراً جانبية” كما يدّعي الاحتلال، بل نمط ممنهج من الاستهداف الجماعي للسكان، وهو ما يصفه باحثون في القانون الدولي بأنه إبادة جماعية مكتملة الأركان.
تيريز بيترسون، الباحثة في برنامج النزاعات بجامعة أوبسالا، أكدت أنّ “النسبة المرتفعة للمدنيين بين القتلى في غزة غير معتادة إطلاقاً، خصوصاً في نزاع طويل الأمد”، مشيرة إلى أن هذه الأرقام وحدها تكفي لاتهام إسرائيل بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
إسرائيل تعترف بالبيانات.. ثم تنكر!
اللافت أنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي لم ينكر وجود قاعدة البيانات عندما تواصلت معه جهات التحقيق الصحفية، لكنه تهرّب من الإجابة المباشرة. فقد أقرّ متحدث باسم الجيش بأن الأرقام الواردة “غير صحيحة”، لكنه لم يحدد بالضبط ما الذي ينفيه!
وفي المقابل، أقرّ ضباط ميدانيون ومصادر استخباراتية بأنّ الجيش يُدرج بشكل تلقائي معظم الضحايا كـ”إرهابيين” حتى دون التحقق من هويتهم. أحد المصادر قال: “لو اعتمدنا على أرقام الجيش لبلغ عدد قتلى حماس 200% من عناصرها الفعليين!”.
الجنرال المتقاعد إسحاق بريك، وهو مستشار سابق لنتنياهو، صرّح للغارديان: “لا علاقة بين الأرقام الرسمية وما يحدث على الأرض، إنها مجرّد خدعة ضخمة. معظم من يُقتلون في غزة هم مدنيون بحت.”
*حرب تستهدف المدنيين لا المقاتلين
تُظهر قاعدة البيانات السرّية أنّ إسرائيل تعتبر 47,653 فلسطينياً أعضاء في الجناحين العسكريين لحماس والجهاد الإسلامي، استناداً إلى وثائق قالت إنها عثرت عليها داخل غزة. لكن خبراء مستقلين يرون أنّ هذا الرقم “مبالغ فيه بشدة”، ويهدف إلى تبرير استهداف عشوائي للسكان.
المحلّل الفلسطيني محمد شحادة أكد أن إسرائيل “تعتمد سياسة توسّع تعريف المقاتل ليشمل أي شخص في غزة تقريباً”، مضيفاً أنّ المقاومة الفلسطينية نفسها قدّرت خسائرها حتى ديسمبر/كانون الأول 2024 بحوالي 6500 مقاتل فقط، وهو ما يتطابق مع أرقام وزارة الصحة الفلسطينية أكثر من الرواية الإسرائيلية.
المدنيون ضحايا التجويع والحرمان
الأوضاع الإنسانية في القطاع ساهمت في رفع معدلات القتل بين المدنيين. فبعد وقف عمل الأمم المتحدة والمنظمات الإغاثية، تفاقمت المجاعة بشكل غير مسبوق. عشرات المجازر ارتُكبت ضد الفلسطينيين الذين كانوا يصطفون للحصول على الطحين أو المساعدات الغذائية في مناطق حظر عسكرية.
التقديرات الأخيرة تشير إلى أنّ النسبة الكارثية للمدنيين بين الشهداء قد تكون ارتفعت بعد مايو/أيار 2025 نتيجة سياسة التجويع والقصف المستمر للمراكز الطبية والملاجئ والمدارس.
خبراء: ما يجري في غزة نسخة محدثة من “الحروب الجديدة”
الأستاذة ماري كالدور، الخبيرة في النزاعات ومديرة برنامج أبحاث الحروب في كلية لندن للاقتصاد، اعتبرت أنّ ما يجري في غزة ليس حرباً تقليدية، بل “حملة اغتيالات واسعة النطاق ضد المدنيين”. وأكدت أنّ إسرائيل تتعامل مع قطاع مكتظ بالسكان على أنه ساحة إعدام جماعي، لا ساحة معركة عسكرية.
أما نيتا كروفورد، أستاذة العلاقات الدولية في جامعة أكسفورد، فأكدت أنّ التكتيكات الإسرائيلية تمثل “تخلياً مقلقاً” عن قواعد الحرب الحديثة، موضحة: “يزعمون أنهم يقلصون الخسائر المدنية مثل الولايات المتحدة، لكن واقع غزة يُظهر العكس تماماً: قصف متواصل، بنية تحتية منهارة، ومدنيون يدفعون الثمن.”
ازدواجية خطاب الاحتلال
المفارقة أنّ السياسيين الإسرائيليين يعلنون أمام الإعلام أن معظم القتلى من “المسلحين”، بينما توثّق أجهزتهم الاستخباراتية عكس ذلك. بل إنّ قاعدة بيانات الجيش الإسرائيلي نفسها تعتمد بشكل رئيسي على إحصائيات وزارة الصحة في غزة التي لطالما شكك الاحتلال بمصداقيتها!
هذه الازدواجية تكشف بوضوح أنّ الهدف الحقيقي من الرواية الإسرائيلية ليس الحقيقة، بل إدارة الرأي العام الدولي، والظهور بمظهر “الجيش الأخلاقي”، فيما الوقائع تثبت أنه ينفّذ حرب إبادة.
نحو محكمة الجنايات الدولية؟
يرى مراقبون أنّ هذه التسريبات تمنح المدّعين في المحكمة الجنائية الدولية أدلة قوية وموثوقة يمكن البناء عليها لملاحقة قادة إسرائيل بتهم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب. فالأرقام لم تعد صادرة فقط عن وزارة الصحة الفلسطينية أو منظمات حقوقية، بل من قلب المؤسسة العسكرية الإسرائيلية نفسها.
بعد مرور أكثر من 22 شهراً على حرب الإبادة في غزة، لا يمكن تجاهل الحقيقة التي صارت أوضح من أي وقت مضى: إسرائيل تخوض حرباً ضد المدنيين، لا ضد المقاتلين. نسبة 83% من الضحايا مدنيون، وهذه النسبة وحدها تكفي لإدانة جيش الاحتلال بارتكاب واحدة من أبشع الجرائم في القرن الحادي والعشرين.
وإذا كان العالم قد وقف يوماً عند مجازر رواندا وسربرنيتسا وماريوبول، فإنّ غزة اليوم تُضاف إلى القائمة السوداء كدليل دامغ على أنّ الإبادة الجماعية لا تزال تُمارس في وضح النهار، أمام أعين العالم، وبغطاء من الصمت الدولي.
