عام على سقوط الأسد.. سوريا تغرق في الفوضى وانتهاكات الجماعات المتطرفة
انفوبلس..
عامٌ واحد فقط كان كافياً لكشف حجم الانهيار الذي انزلقت إليه سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، ليس نحو انتقال سياسي أو مصالحة وطنية، بل إلى فوضى عميقة فرضتها قوى خارجية وأطراف جهادية أصبحت صاحبة القرار. وبينما سوّقت واشنطن وأنقرة وتل أبيب هذا التحوّل بوصفه “مرحلة جديدة”، وجد السوريون أنفسهم أمام واقع أشد قسوة: دولة مفككة، سلطة جهادية متغوّلة، وفقدان غير مسبوق للسيادة والهوية.
سقوط النظام… وبداية الانحدار
في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، بدا وكأن سوريا تدخل منعطفاً يفتح باب التغيير السياسي المنتظر منذ سنوات. ظنّ كثيرون أن نهاية عهد الأسد ستتيح إعادة بناء الدولة المنهكة، إلا أن المشهد انقلب خلال أسابيع. فبدلاً من المؤسسات المدنية والدستورية، خرجت هيئة تحرير الشام إلى الواجهة كلاعب أساسي بدعم إقليمي ودولي، ليبدأ فصل جديد من السيطرة المسلحة والنفوذ الخارجي.
ومع مرور عام على السقوط، لم تجنِ البلاد سوى موجات جديدة من العنف والانقسامات، لتتحول الوعود بالانتقال السياسي إلى سراب، وتدخل سوريا مرحلة أكثر اضطراباً مما كانت عليه إبان الحرب.
رواية جديدة تُصنع على مقاس الخارج
لم يكن الدفع الأميركي ـ الإسرائيلي لهيئة تحرير الشام إلى صدارة المشهد خافياً. فقد عملت وسائل إعلام إقليمية على تلميع صورة قائدها أبو محمد الجولاني الذي أعيد طرحه باسم “أحمد الشرع”، في محاولة لتحويله إلى “رجل المرحلة”.
ورغم معرفة الجميع بتاريخ هذه الجماعة وأيديولوجيتها، تم تقديمها كقوة “تحرر” البلاد، بينما جرى تجاهل الاعتراض الشعبي الواسع على إعادة تدوير تنظيم جهادي سبق أن واجهه السوريون ورفضوه. هذا التلاعب لم يكن منعزلاً، بل جزءاً من إعادة هندسة الوعي العام عبر ضخ إعلامي مكثّف، وتعزيز “عقلية القطيع” التي تدفع الناس إلى قبول ما يُفرض عليهم خشية العزلة أو الاتهام بالخيانة.
إدلب نموذجاً للقمع قبل التمكين
ما شهدته إدلب خلال سنوات سيطرة الهيئة قبل سقوط النظام كان مؤشراً مبكراً على ما ستؤول إليه البلاد لاحقاً. فقد انتشرت الممارسات القمعية، والتمييز بحق النساء، والتضييق على الحريات، إضافة إلى تفشي الفساد المالي والإداري. ومع تفاقم الفقر والبطالة، تفجّرت احتجاجات شعبية متعددة، جرى التعامل معها بالقبضة الأمنية.
ولم ينسَ أهالي إدلب حادثة إعدام امرأتين عام 2015 دون أي مساءلة، وهي واقعة عكست بوضوح طبيعة السلطة التي كانت تتشكل. ومع ذلك، عاد عدد من المتورطين بتلك الانتهاكات إلى المشهد الجديد داخل ما يسمى "النظام المؤقت"، ما زاد الاحتقان الشعبي.
عام من الانتهاكات وفقدان الأمان
بعد سقوط النظام وانتقال السيطرة إلى هيئة تحرير الشام، تصاعدت أنماط العنف بشكل لافت. تقارير حقوقية عدة وثّقت انتهاكات واسعة ضد المدنيين من مختلف المكونات، بما في ذلك عمليات قتل خارج القانون، وخطف، واعتداءات ذات طابع مناطقي وطائفي، بالإضافة إلى تفجيرات وهجمات مسلحة في أنحاء البلاد.
ووفق المرصد السوري لحقوق الإنسان، فقد قُتل آلاف المدنيين خلال عام واحد، بينهم مئات النساء والأطفال، وسط غياب شبه كامل للمساءلة وضعف مؤسسات العدالة. ولم تقتصر التهديدات على الداخل، بل ازداد أيضاً عدد الهجمات التركية والإسرائيلية، في ظل عجز السلطة الجديدة عن حماية الحدود أو الردع.
أرقام تكشف عمق الانهيار
تُظهر الأرقام الشهرية لتوثيق الضحايا اتساع رقعة العنف وتنوع مصادره، إذ شهدت الأشهر الأولى بعد سيطرة هيئة تحرير الشام ارتفاعاً حاداً في أعداد النساء والأطفال المتضررين، بالتزامن مع هجمات مكثفة على مناطق الساحل والجنوب.
وخلال الشهر الأول من سيطرة جهاديي هيئة تحرير الشام قتلت 21 امرأة و34 طفلاً، وفي الشهر الأول من العام 2025 قتلت 146 امرأة و53 طفلاً، وفي شباط/فبراير قتلت 46 امرأة و42 طفلاً، وفي شهر آذار/مارس قتلت 144 امرأة و97 طفلاً، وهو الشهر التي بدأ فيه جهاديي هيئة تحرير الشام هجماتهم على الساحل السوري وعمليات الانتقام من المكون العلوي.
وفي نيسان/أبريل قتلت 40 امرأة و25 طفلاً، وفي أيار/مايو قتلت 19 امرأة و49 طفلاً، وفي حزيران قتلت 31 امرأة و25 طفلاً، وفي تموز/يوليو قتلت 89 امرأة و60 طفلاً، وكانت قد بدأت في هذا الشهر الهجمات على مدينة السويداء جنوب سوريا، وارتكب الجهاديون مجازر لا تقل إجراماً عما ارتكبوه في الساحل.
في آب/أغسطس قتلت 80 امرأة و44 طفلاً، وفي أيلول/سبتمبر قتلت 20 امرأة و32 طفلاً، وفي تشرين الأول/أكتوبر قتلت 18 امرأة و18 طفلاً، وفي تشرين الثاني/نوفمبر قتلت 20 امرأة و31 طفلاً، وحتى 5 كانون الأول/ديسمبر قتلت امرأتين وطفلين.
لقد قتل سوريين وسوريات بمجازر الإعدام الميداني، هناك حسب تقرير المرصد 3071 حالة قتل على الهوية والانتماء، من هذا العدد 296 امرأة و48 طفلاً، معظمها خلال أحداث الساحل.
كما كشف تقرير لرويترز صدر في حزيران/يونيو 2025 أن ما لا يقل عن 33 امرأة من الطائفة العلوية من حماة، وحمص، واللاذقية، وطرطوس تتراوح أعمارهن بين (16 ـ 39) عاماً تعرضن للاختطاف خلال الهجوم، منهن نقلن إلى إدلب، وأخريات إلى خارج سوريا.
وتم توثيق حالات اغتصاب لنساء، وقاصرات من قبل عناصر هيئة تحرير الشام، واختطف ما لا يقل عن 105 نساء من المكون الدرزي، ولا يزال 80 منهن في عداد المفقودين، وعدد من اللواتي أُطلق سراحهن غير قادرات على العودة إلى منازلهن خوفاً على سلامتهن، وفيما لا يقل عن ثلاث حالات درزيات تعرضن للاغتصاب قبل أن يتم إعدامهن، كما لا يزال 763 شخصاً، من بينهم نساء، في عداد المفقودين.
استهداف التنوع السوري
لم يقتصر العنف على الأفراد، بل طال أيضاً الرموز الدينية والمناطق ذات الحساسية التاريخية. فقد تعرضت دور عبادة متعددة الطوائف لهجمات، بينها كنائس ومساجد ومزارات، كان أبرزها الهجوم على كنيسة مار إلياس في دمشق الذي خلف ضحايا وجرحى.
ومع تكرار الاعتداءات، بدا واضحاً أن الهدف يتجاوز السيطرة العسكرية إلى محاولة إعادة تشكيل الخريطة الدينية ـ الاجتماعية للبلاد، بما يهدد ما تبقى من الهوية السورية الجامعة.
لجنة تقصي الحقائق التي شُكلت بعد سقوط النظام لم تحقق أي اختراق حقيقي. فارتباطها بالسلطة الجديدة وغياب الشفافية جعلاها عاجزة عن تمثيل الضحايا. تزامن ذلك مع حملات إعلامية منظمة تُشيطن كل من ينتقد تصرفات الهيئة، فيُتهم بالعمالة أو الانفصال أو “الحنين للنظام السابق”.
ومع تصاعد هذا النهج، اتسعت الهوة بين مكوّنات المجتمع السوري، بينما بدا أن الجهات الخارجية المستفيدة تفضّل استمرار الانقسام لضمان بقاء البلاد في وضع هش يسهل التحكم به.
النساء.. بين القمع والمقاومة
رغم القيود المتزايدة على النساء في التعليم والعمل وحرية الحركة، لعبت السوريات دوراً لافتاً في مواجهة السلطة الجديدة. فقد خرجت مظاهرات في دمشق للمطالبة بنظام مدني يُشرك جميع المكونات، ويضمن حقوق المرأة، في رسالة قوية بأن المجتمع لن يقبل بالتراجع عن مكتسباته.
غير أن الخطاب الرسمي للسلطة الجديدة زاد الاحتقان، خصوصاً مع تصريحات بعض مسؤوليها الذين حاولوا حصر دور المرأة في المجال المنزلي، واعتبار المناصب القيادية خارج “طبيعتها”. هذا الخطاب أشعل غضباً واسعاً بين السوريات، وفتح الباب أمام حركة مقاومة مدنية متنامية.
العام 2025 لم يكن بداية الحل السوري، بل بداية مرحلة أشد تعقيداً. فقد تحولت البلاد إلى ساحة مفتوحة للنفوذ التركي والأميركي والإسرائيلي، بينما غابت القوى المحلية عن أي دور مؤثر في صياغة مستقبلها. وبدا أن واشنطن تتعامل مع سوريا باعتبارها ملفاً يمكن إعادة تشكيله وفق أولوياتها، لا باعتبارها دولة تستحق السيادة.
الجولاني ـ أو “أحمد الشرع” كما يُقدّم اليوم ـ أصبح رئيساً مؤقتاً بحكم الأمر الواقع، رغم أنه كان قبل أشهر على قوائم المطلوبين دولياً. هذه المفارقة كشفت أن السقوط لم يكن انتصاراً للشعب، بل لإرادة القوى التي أعادت رسم المشهد بما يخدم مصالحها.
مستقبل سوريا.. أسئلة مفتوحة
تبدو سوريا اليوم بلداً يحتاج إلى مشروع وطني حقيقي، يُعيد الاعتبار لوحدة الأرض والشعب، ويواجه محاولات تفكيك الهوية، ويضع حدّاً لتداخل النفوذ الخارجي. فالدول التي تفقد سيادتها لا تستعيدها بسهولة، وما لم يظهر إطار جامع يلتف حوله السوريون، سيظل المشهد مفتوحاً على مزيد من الفوضى.
ورغم قتامة الحاضر، يبقى الأمل معقوداً على قدرة السوريين على مقاومة محاولات إعادة تشكيل بلدهم من الخارج، وإحياء مشروع وطني لا مكان فيه لسلطة السلاح ولا لهيمنة القوى الخارجية.
