محادثات يرافقها تصعيد دبلوماسي.. كيف توازن طهران خطابها بين متطلبات الداخل وضرورات الخارج؟

انفوبلس..
في تصعيد جديد يبرز توتّر العلاقات بين طهران وواشنطن، شنّ الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان هجوماً لاذعاً على تصريحات دونالد ترامب، متهماً الغرب بازدواجية المعايير، بينما أكد وزير الخارجية عباس عراقجي استمرار المحادثات النووية رغم تعقيداتها، مشيراً إلى ضرورة مواقف "أكثر واقعية" من الجانب الأمريكي.
ويوم أمس، رد مسعود بزشكيان، على تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مشيراً إلى أن الغرب يتشدق بالسلام، لكنهم منذ 47 عاماً يبذلون كل ما في وسعهم لتركيع هذا الشعب ونظامه.
وأفادت وكالة تسنيم الدولية للأنباء بأن بزشكيان قال خلال لقائه مع النخب والمثقفين والناشطين الثقافيين في محافظة كرمانشاه: "ما قاله ترامب بالأمس يُظهر أنه لا يعرف الشعب الإيراني، ولا يدرك شيئاً عن غيرتهم وشهامتهم وتضحياتهم، ويطلق تهماً بأن إيران مصدر اضطراب وخطر".
وأضاف: "في الوقت الذي استُشهد فيه أكثر من 60 ألف مدني بريء في غزة، من نساء وأطفال، من الذي أغلق عليهم منافذ الغذاء والماء والدواء؟! يقولون إنهم يملكون قنابل لا يمكن تصورها، ثم يتهموننا نحن بأننا دعاة حرب وسفك دماء! من الذي يسلح دول المنطقة ويدفعها نحو الحرب؟ من الذي يزرع الفتنة؟".
وتابع الرئيس الإيراني: "الغرب يتشدق بالسلام، لكنهم منذ 47 عاماً يبذلون كل ما في وسعهم لتركيع هذا الشعب ونظامه، ولم ينجحوا، ولن ينجحوا أبداً".
كما أكد بزشكيان قائلاً: "يدّعون أنهم هزموا داعش، لكن من الذي اغتال الشهيد قاسم سليماني، الرجل الذي تصدى لداعش؟! أنتم من درّب وسلّح داعش، بينما سليماني ورفاقه هم من أزالوهم من المنطقة".
ووجّه كلامه إلى من وصفهم بأنهم يزعمون السعي للسلام في الشرق الأوسط: "أنتم لا تزالون تدعمون داعش، ثم تتهموننا بأننا نريد الحرب! هل نحن من نخرق القوانين الإنسانية؟ أم إسرائيل التي لا تقيم وزناً لأي مبدأ حقوقي، وتمارس أبشع الانتهاكات بحق الأطفال والنساء والمرضى والمسنين؟!".
وأكد رئيس الجمهورية موقف بلاده قائلا: "سواء أرادوا السلام أم لم يريدوه، سنبني هذا البلد ونطوره بقوة. نحن دعاة سلام ولسنا دعاة حرب، لكن كرامتنا وعزتنا ليستا للبيع، ولن ننحني لأي قوة ولن نستسلم".
وأكد رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية أن من يظن أنه يستطيع القدوم إلى منطقتنا وإرهابنا بشعاراته الواهية أو إغراءنا بوعوده، فهو واهم؛ فنحن لن نساوم على عزّة وكرامة وطننا مع أحد، وهذه العزّة متجذرة في وجدان كل إيراني.
وأضاف بزشكيان: "لست من هواة الشعارات، لكن بالنسبة لي، الشهادة أسمى وأحلى من الموت على فراش المرض، وهذا الشعور متأصل في نفوس الإيرانيين. إذا تضافرت جهود جميع أبناء الوطن، من علماء ونخب، باختلاف أعراقهم وقبائلهم ومذاهبهم ومعتقداتهم، فبإمكاننا أن نبني هذا البلد بكل قوة واقتدار".
وأشار الرئيس إلى أن جميع محاولات الأعداء تتركز على إثارة الفتنة بين أبناء الشعب الإيراني، وقال: "خطاب ترامب الأخير يهدف إلى زرع الشقاق، وبث الفوضى، ونشر بذور اليأس، لكنه واهم، فكل الإيرانيين حاضرون في الميدان من أجل وطنهم، ومن أجل رفعة هذا التراب".
وأضاف: "من يأتينا مهدِّدًا بالقنابل والصواريخ، يعيش أوهامًا لا أكثر. كل ما فعله الأعداء لتدمير إيران كان كفيلاً بإركاع أي دولة أخرى، لكننا نمتلك تاريخًا ضاربًا في أعماق هذه الأرض لآلاف السنين، ولا أحد يستطيع اقتلاع جذورنا."
وفي ختام كلمته، قال الرئيس: "لقد اغتالوا كبار علمائنا، لكن من رحم هذه الأرض، سينهض مئات النخب والعلماء، وسيساهمون في بناء هذا الوطن".
من جانبه أعلن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، أمس الأربعاء، في رد على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عن إجراء محادثات مع أطراف أوروبية بما يخص الاتفاق النووي، في حين وصف الجولة الرابعة من المفاوضات مع أمريكا بأنها كانت صعبة.
وقال عراقجي، إن إيران ستجري محادثات في إسطنبول الجمعة، مع أطراف أوروبية مشاركة في الاتفاق النووي المتعثر حاليا، وذلك بعد تأجيل اجتماع سابق كان مقررا في الثاني من أيار/مايو.
وصرح عراقجي أن الجولة الرابعة من المحادثات الإيرانية الأمريكية، التي عُقدت في 11 أيار/مايو، كانت "صعبة" لأنها ركزت على قضية تخصيب اليورانيوم المثيرة للجدل، مضيفا أنه يأمل في أن يبدي الطرف الآخر "مواقف أكثر واقعية" بعد أن اكتسب فهما أفضل لمواقف إيران الأساسية.
وأضاف عراقجي: "للأسف هذه وجهة نظر خادعة. الولايات المتحدة هي التي منعت تقدم إيران من خلال العقوبات".
وجاءت تصريحات بزشكيان وعراقجي، ردا على تعليقات للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أدلى بها الثلاثاء في الرياض، وصف فيها إيران بأنها "القوة الأكثر تدميرا" في الشرق الأوسط، في تناقض صارخ مع ما قال إنها "رؤية بناءة" تتبناها السعودية.
وذكرت وكالة "رويترز" في وقت سابق أن نائب وزير الخارجية الإيراني سيلتقي دبلوماسيين من فرنسا وبريطانيا وألمانيا لمواصلة الحوار، ومناقشة تصوراتهم بشأن معايير اتفاق نووي جديد محتمل يجري التفاوض عليه بين طهران وواشنطن.
وستعلن وزارة الخارجية العمانية، التي اضطلعت بدور الوساطة منذ انطلاق المحادثات في 12 نيسان/أبريل، عن الجولة الخامسة من المحادثات.
وتشكل تصريحات الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان ووزير خارجيته عباس عراقجي في هذا التوقيت الدقيق، مؤشراً على مرحلة جديدة من المواجهة السياسية والدبلوماسية بين طهران وواشنطن، خصوصاً بعد تصريحات ترامب التي وصفت إيران بـ"القوة الأكثر تدميراً في الشرق الأوسط". وجاء الرد الإيراني متشعباً، يمزج بين الخطاب القومي والمواقف الاستراتيجية، في محاولة لتأكيد الثوابت الإيرانية وإرسال رسائل حادة إلى الداخل والخارج.
في خطابه، وظّف بزشكيان لغة عاطفية ذات طابع مقاوم، مستدعياً صوراً تاريخية وثقافية من ذاكرة الشعب الإيراني، كمفهوم "الشهادة" و"العزة الوطنية"، مع تحميل الغرب، والولايات المتحدة تحديداً، مسؤولية الفوضى الإقليمية، بدءاً من دعم الجماعات الإرهابية وانتهاءً بالحصار الممنهج على غزة. يهدف هذا النوع من الخطاب إلى تعزيز التلاحم الشعبي الداخلي، وتثبيت سردية "المظلومية" مقابل "العدوان الغربي"، وهي رواية لطالما استخدمتها طهران لتبرير مواقفها الحادة إزاء الغرب، ولتعزيز صمود الداخل أمام الضغوط الاقتصادية والسياسية.
في موازاة الخطاب التصعيدي، جاءت تصريحات عراقجي لتضع الموقف الإيراني في سياقه الدبلوماسي، مشيراً إلى استمرار المحادثات النووية رغم صعوبتها، ومتهماً واشنطن بتعطيل التقدم من خلال العقوبات. هذه الازدواجية في النهج – خطابي صلب يقابله انفتاح تفاوضي – تكشف عن استراتيجية إيرانية تهدف إلى إدارة التوتر لا تفجيره، مع الحفاظ على الثوابت الأساسية المتعلقة بالملف النووي، وعلى رأسها مسألة تخصيب اليورانيوم.
الخطاب الإيراني موجَّه بعدة اتجاهات: أولها إلى الداخل، حيث يواجه النظام تحديات اقتصادية عميقة وضغوطاً معيشية متزايدة، ما يتطلب تعزيز الجبهة الوطنية وتثبيت مشروعية القيادة. ثانيها إلى دول الجوار، خصوصاً الخليجية منها، في ظل ما تعتبره طهران اصطفافاً إقليمياً ضدها. وثالثها إلى الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، ضمن محاولة لفرض شروطها التفاوضية، أو على الأقل، دفعهم إلى إعادة النظر في "مواقفهم غير الواقعية"، كما وصفها عراقجي.
رغم صعوبة المفاوضات النووية – كما صرح عراقجي – إلا أن استمرارها، وتحديد موعد للجولة القادمة في إسطنبول، يعكس إدراكاً إيرانياً لأهمية الحوار، خصوصاً في ظل الظروف الاقتصادية المتأزمة والانقسامات الدولية المتزايدة. لكن طهران، على ما يبدو، لن تتنازل بسهولة، وستستمر في استخدام أدوات الضغط المتاحة لها، سواء عبر الخطاب السياسي أو المواقف الميدانية في ملفات إقليمية كاليمن وسوريا ولبنان.
يبقى السؤال: إلى أي مدى يُترجم هذا الخطاب الحاد إلى واقع عملي؟ وهل ينجح في تحصين الداخل الإيراني وتعزيز أوراقه التفاوضية؟ من المؤكد أن طهران تتقن استخدام الخطاب كأداة سياسية، لكنها تدرك أيضاً حدود القوة الخطابية في مواجهة حقائق الجغرافيا السياسية، وتعقيدات الملف النووي، وضغوط الاقتصاد المعولم. من هنا، فإن نجاحها سيعتمد على قدرتها على الموازنة الدقيقة بين المبادئ المُعلنة وضرورات التكيّف مع المتغيرات الدولية.
ردّ بزشكيان وعراقجي على ترامب لم يكن مجرد رد فعل على اتهامات عابرة، بل جاء كجزء من استراتيجية متكاملة تستند إلى تصعيد مدروس، يراعي الداخل الإيراني ويستهدف التأثير في مسار المفاوضات الخارجية. وفي ظل هذا التوازن الهش بين التحدي والانفتاح، يبقى مستقبل العلاقة الإيرانية الأمريكية مرهوناً بمدى قدرة الطرفين على تليين مواقفهما والبحث عن أرضية مشتركة، في منطقة تعاني أصلاً من فائض الأزمات ونقص الثقة.