من أفراد مهزوزين نفسياً إلى أدوات قتل.. مَن هم "الجنود الوحيدون" في جيش الاحتلال؟

انفوبلس/ تقرير
تكشفت، اليوم السبت 17 مايو/ أيار 2025، معلومات جديدة عن أكثر من ألف مهاجر جديد انضموا لجيش الاحتلال الصهيوني خلال مارس/آذار وأبريل/نيسان 2025 – 674 رجلاً و459 امرأة، في خضمّ الإبادة الجماعية التي يشنّها جيش الاحتلال على غزة، فماذا تعرف عن هؤلاء المرتزقة الذين يطلق عليهم الاحتلال اسم "الجنود الوحيدون"؟
منذ نشأته، يلطّخ الاحتلال يد العالم بدماء الفلسطينيين، فيستجلب مرتزقة من مدن بعيدة، مدفوعون إما بوَهَم البطولة، أو برغبة في الهروب من واقعهم، أو بوعود الامتيازات، أو ببساطة لأنهم لم يجدوا مكاناً ينتمون إليه. فيُعاد تشكيلهم داخل منظومة الاحتلال لخدمة مشروعه الاستعماري.
"الجنود الوحيدون"
نشرت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" في تقرير حديث أن أكثر من ألف مهاجر جديد انضموا لجيش الاحتلال خلال مارس/آذار وأبريل/نيسان 2025 – 674 رجلاً و459 امرأة. بعضهم جاء مع عائلاتهم، لكن كثيرين جاؤوا وحدهم.
وفي أعقاب نكبة 1948 واحتلال أراضٍ جديدة عام 1967، لم يتوقف "الاحتلال" عن استدعاء المرتزقة، بل مأسست وجودهم في مشاريع مثل "الجنود الوحيدون" و"مزدوجو الجنسية"، وقدّمتهم دائماً بوجه ناعم لمستوطنيها: متطوعون، مؤمنون، عائدون إلى "أرض الميعاد" والفرص. في حين أن الواقع أكثر فجاجة: إذ يستورد الاحتلال قتلة مدفوعين، جاؤوا ليشاركوا في تنفيذ مشروع استيطاني قائم على الإبادة والطرد، وعلى دم شعب لم يكن يوماً عدوهم.
وقد أخذ البرنامج طابعه المؤسساتي الحديث عام 1991 بتأسيس برنامج "غارين تسابار" بدعم حركة الكشافة الإسرائيلية، والوكالة اليهودية، ووزارة الاستيعاب الإسرائيلية. ومنذ ذلك الحين التحق آلاف من الشبان والشابات (من أمريكا الشمالية وأوروبا وأميركا اللاتينية وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق وغيرها) بالجيش الإسرائيلي كـ"جنود وحيدون"، بحيث يُشكّلون وحدات اندماج خاصة، ويقيمون في تجمعات (عادةً في كيبوتسات)، حيث يُعاد تشكيلهم نفسياً واجتماعياً، ويجهّزهم "الاحتلال" ليكونوا جزءاً من أدواتها العسكرية المباشرة.
صحيح أن البرنامج يُفضّل أن يكون المجندون من أصول يهودية، لكن هذا ليس شرطاً ملزماً. وينقسم هؤلاء الجنود إلى فئتين:
*مجندون من داخل "الاحتلال"، ينحدرون من عائلات مفككة أو لا عائلات لهم أصلاً، مثل الأيتام أو من تربّوا في مؤسسات الرعاية.
*مجندون من خارج البلاد، لهم عائلات في أوطانهم، لكنهم اختاروا الانفصال والانخراط في جيش احتلال لا يمثّلهم حتى دينياً في بعض الأحيان.
ويُقدّم جيش الاحتلال للجنود الوحيدين أجوراً عالية مقارنةً بالجنود العاديين، ومزايا مادية متنوعة، مثل: منحة الزواج، ومنح الطرود الغذائية، وتمويل زيارة العائلة بالخارج، والمساعدة في الإيجار وصيانة الشقة، والإعفاء من الضرائب، إضافةً إلى السماح لهم بممارسة أعمال خاصة، وتوفير بيئة اجتماعية داعمة بديلاً عن العائلة.
ويتلقى الجنود الوحيدين تدريبات عسكرية، وبحسب معظم الروايات الإسرائيلية، فإن الغالبية العظمى من "الجنود الوحيدين" يكونون الأكثر حماساً، ويظهرون اندفاعاً أعلى في تنفيذ المهام القتالية، بل ويُلاحظ أن نسبة كبيرة منهم متورط في حالات عنف مفرط وجرائم حرب ضد المدنيين الفلسطينيين.
يمكن للجنود القادمين من الخارج الاختيار بين خيارين للخدمة في الجيش: خدمة تطوعية أقصر (ماحال)، والتي يتعين عليهم بعدها المغادرة، أو خدمة مطوّلة تتطلب الهجرة والحصول على الجنسية الإسرائيلية. ويأتي العديد ممن يختارون الخيار الثاني عبر "غارين تزابار".
جنود مُجمَّلون للكاميرا، محطمون خلف الستار
في مواجهة الانتقادات الدولية، لا ينكر الاحتلال وجود هؤلاء المرتزقة في جيشه، بل يحتفي بهم. لكنه يفعل ذلك بطريقة يخلط فيها بين الأساطير الدينية والدعاية الحديثة، ليخرج للعالم صورة لجنديٍ وافد من الخارج، يتحدث الإنجليزية بلكنة أمريكية، لكنه مع ذلك يخدم الاحتلال، يرتدي الزي العسكري بإتقان، ويظهر في لقطات احترافية على خلفية صحراء أو موقع عسكري، وهو يبتسم للكاميرا كأنه في مهمة سلام.
داخل المجتمع الإسرائيلي، تحظى ظاهرة "الجنود الوحيدون" بتمجيد واسع. الإعلام الرسمي والخطاب الحكومي يتبنيان نبرة احتفالية، تُقدّمهم كأبطال خارقين، شباب تركوا حياة مريحة في نيوجيرسي أو برلين أو تورونتو، ليقاتلوا من أجل "دولة اليهود" الوحيدة.
فعلى سبيل المثال، تصف صحيفة تايمز أوف إسرائيل الجندي الوحيد بـ"النجم" الاجتماعي، وتؤكد أنه يحظى باستقبال الأبطال عند قدومه، لأنه "اختار" القتال دون أن يُجبر عليه كما هو حال المجندين المحليين.
إذ يحاول الاحتلال ترويج هذه الصورة كنوع من الربط العاطفي بين المرتزقة والاحتلال، حيث يُقدَّم المجند الأجنبي على أنه لا يلتحق بجيش احتلال، بل "يعود إلى جذوره"، ويُعيد توحيد "الشعب اليهودي" بدمه وخدمته.
في إحدى التغطيات، كتبت يديعوت أحرونوت عن خمسة عشر شاباً قدموا من الخارج للانضمام إلى جيش الاحتلال، من بينهم عيدان ألكسندر من نيوجيرسي، الذي أُسر على يد المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وصفته الصحيفة بأنه "رغب في خدمة هذا البلد أكثر من أي شخص آخر"، وأنه فخور بانتمائه للواء "غولاني" سيّئ السمعة، المعروف ببطشه وعدوانيته ضد الفلسطينيين. وبعد الإفراج عنه في صفقة عام 2025، حاولت الصحيفة أن تُظهر أنه تلقى مديحاً حاراً من زملائه الذين أشادوا ببسالته، بينما كان الكثير من الإسرائيليين غاضبين لأنه خرج باتفاق منفرد بين المقاومة وواشنطن لأنه يحمل الجنسية الأمريكية.
هذه السرديات الدعائية لا تُبنى فقط بالكلمات، بل بالمشاهد: الجنود الوحيدون يُستقبلون ويزفّون إلى قواعدهم بالاحتفالات، والرقصات، والأهازيج، وخطابات القادة، وتحفيزهم، وعشاءات السبت العائلية.
لتكون الرسالة: قد تكون بلا عائلة، لكن الجيش والمجتمع الاستيطاني الإسرائيلي سيمنحانك "حضناً بديلاً"، يُغذي ولاءك ويُعيد تشكيلك عاطفياً، ليكتمل دورك كأداة فعّالة في القتل.
لكن تحت هذا الغلاف، تظهر الأرقام وحياة الجنود المنفردين، لتكشف هشاشة عميقة. فرغم أن الجنود المنفردين لا يُشكّلون سوى 2% من قوام "الجيش الإسرائيلي"، إلا أن معدلات الانتحار والانهيار النفسي بينهم مرتفعة بشكل غير متناسب.
في تحقيق لصحيفة هآرتس الإسرائيلية، تمت الإشارة إلى أن نسبة كبيرة من هؤلاء الجنود يُسرَّحون سنوياً بعد ثبوت عدم أهليتهم النفسية، أو يُودَعون مؤسسات علاجية إثر انهيارات عصبية. بل إن كثيرين منهم لا يعودون أصلاً من الإجازة السنوية المخصصة لهم خارج البلاد، والمقدّرة بـ30 يوماً، وذكر التحقيق أن في المتوسط، 14% من الجنود المنفردين يتركون الجيش سنوياً.
والسبب، بحسب شيفرا شاهار، الرئيسة التنفيذية لمنظمة "بيت دافئ لكل جندي" الإسرائيلية، هو أن العديد من المجندين الشباب لا يدركون تماماً ما تنطوي عليه الحياة العسكرية في الأراضي المحتلة، وأن أعداداً كبيرة منهم تفتقر إلى الكفاءة في اللغة العبرية والإلمام بثقافة الاحتلال، وأن الكثيرين منهم بائسون جاؤوا فقط "هرباً من مشاكل وطنهم. لا يجدون عملاً، وليس لديهم رغبة في الدراسة، وهم أشخاص غير مرغوبٍ بهم في عائلاتهم. كثير منهم ينحدرون من أسرٍ مُفككة، بل إن بعضهم لديه سجلات جنائية. وقد نجح أحدهم بطريقة ما في إقناعهم أو إقناع آبائهم بأن "الجيش الإسرائيلي" سيُصلحهم. للأسف، في معظم الحالات، يُفاقم الجيش مشاكلهم القائمة".
بينما تشير مصادر أخرى إلى غياب الحد الأدنى من التحريات عند التجنيد. فالاحتلال، في سعيه لاستقطاب أي جسد قابل للارتداء بالزي العسكري لقتل الفلسطينيين، يتجاهل الخلفيات النفسية والاجتماعية لهؤلاء المجندين، إذ يراهم الاحتلال كمرتزقة.
روى جندي كندي سابق، خدم في وحدة كوماندوز نخبوية تابعة لجيش الاحتلال، لصحيفة هآرتس كيف تم التغاضي عن تفاصيل جوهرية في مسيرته الشخصية. قال إنه كذب بشأن تاريخه مع تعاطي المخدرات. لم يُطلب منه أي تقرير طبي، ولا خضع لأي فحص. بل كل ما وُجّه إليه كان سؤالاً مباشراً: "هل سبق أن تعاطيت المخدرات؟"، فأجاب بالنفي. وكان ذلك كافياً.
في المقابل، المجندون من أبناء الاحتلال يخضعون لما يُعرف بـ"تساف ريشون"، وهو استدعاء أولي يتطلب تقديم ملفات طبية ونفسية مفصّلة، بل ويُجري الجيش تواصلاً مباشراً مع أولياء الأمور، خاصةً إذا كان المجند قاصراً أو ابناً وحيداً.
لكن هذه الإجراءات، بكل ما تحمله من صرامة، تسقط عندما يتعلق الأمر بالجنود المنفردين – أولئك الذين يُستقدمون من الخارج لخدمة هذا الجيش. إذ يقول نفس الجندي الكندي: "لم يسأل أحد عن والديّ. لم يُطلب مني إلا ورقة تثبت أنني لست وحيداً في العائلة – مجرد إجراء شكلي".
يلتحق شباب يهود في الخارج بالجيش منذ قيام الاحتلال في فلسطين، لكن مكانتهم الاجتماعية تغيّرت على مر السنين. ومع ذلك، ما زال استجلاب المرتزقة من الخارج يحظى بدعم كبير من الاحتلال. فعلى سبيل المثال، منذ أن أُطلقت مبادرة "غارين تزابار" عام 1991 لاستجلاب أبناء الإسرائيليين المقيمين في الولايات المتحدة للخدمة في جيش الاحتلال، كان معظم المشاركين الأوائل من الناطقين بالعبرية، والذين تربطهم صلة وثيقة بالاحتلال.
في بداياتها، كانت منظمة "غارين تزابار" ترسل نحو عشرين مجنداً سنوياً إلى جيش الاحتلال. لكن خلال الخمسة عشر عاماً الأخيرة، ارتفعت الأعداد بشكل ملحوظ. ووفقاً لمديرها ألون كوبا، باتت المنظمة تجلب ما يصل إلى 400 جندي منفرد سنوياً إلى الأراضي المحتلة.
ميزانية "غارين تزابار" التشغيلية تُقدَّر بحوالي 13 مليون شيكل سنوياً (نحو 3.7 مليون دولار)، بحسب تصريحات أحد المتحدثين باسمها. تُموَّل هذه الميزانية بنسبة 70% من قبل الحكومة الإسرائيلية والوكالة اليهودية، بينما يُستكمل الباقي عبر تبرعات من القطاع الخاص.
المنظمة لا تعمل في فراغ. فهي تحظى بدعم سياسي وإعلامي بارز، يعود في جزء كبير منه إلى وجود شخصيتين نافذتين على رأسها. الأولى هي المليارديرة الأمريكية الإسرائيلية ميريام أديلسون، التي تُعرف بأنها أحد أكبر ممولي حملات دونالد ترامب، ويُنسب لها الدور الأساسي في دفعه للاعتراف بالقدس عاصمةً للاحتلال.
كما تُعد من أبرز الممولين للمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وتستخدم نفوذها المالي لتمويل حملات ملاحقة الطلبة والنشطاء المناهضين لجرائم الحرب في غزة. أديلسون تشغل منصب الرئيسة الفخرية للفرع الأمريكي للمنظمة، وقد تبرعت مع زوجها الراحل بحوالي نصف مليار دولار لمؤسسة Birthright Foundation، التي تُنظّم رحلات مجانية إلى إسرائيل لليهود من مختلف أنحاء العالم، بهدف زيادة الاستيطان.
أما الشخصية الثانية فهي سارة نتنياهو، زوجة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، التي تشغل بدورها المنصب الفخري في الفرع الإسرائيلي للمنظمة.
إلى جانب "غارين تزابار"، تنشط منظمات أخرى في استقدام الجنود الوحيدون من الخارج، وتجمع من خلالها ملايين الدولارات من التبرعات. ورغم ضخامة هذه الميزانيات، لا يصل إلى الجنود أنفسهم سوى جزء ضئيل من تلك الأموال. لكن مع ذلك، تُوظّفهم تلك المنظمات بكثافة في حملاتها الدعائية، وتُسلّط الضوء على قصصهم الشخصية لتوليد التعاطف والدعم المالي.
وعادةً ما تُنقَل هذه النماذج من الجنود الوحيدون جواً إلى الولايات المتحدة، للمشاركة في فعاليات جمع التبرعات. هناك يُطلَب منهم الصعود إلى المنصات، الحديث عن تجربتهم في الجيش، والتلويح بعلم الاحتلال أمام جمهور مموِّل سخي.
في أعقاب بدء حرب الإبادة في غزة، نشرت صحيفة تايمز أوف إسرائيل تقريراً يزعم ازدياد عدد الجنود الوحيدون من الشباب والفتيات الذين يخدمون في جيش الاحتلال للمشاركة في الإبادة، إذ أشارت الصحيفة إلى بيانات جيش الاحتلال الإسرائيلي لفترة التجنيد في مارس/آذار وأبريل/نيسان 2025، وكان من المقرر انضمام 1113 مهاجراً جديداً – 674 رجلاً و459 امرأة (ليس جميعهم جنوداً منفردين، إذ يصل بعضهم مع عائلاتهم). ويمثل هذا ارتفاعاً ملحوظاً عن السنوات السابقة؛ حيث تم تجنيد 883 مهاجراً جديداً خلال الفترة نفسها في عام 2024، و799 في عام 2023، وفقاً لصحيفة.