من التمكين إلى التلاشي.. الجغرافيا الصعبة بدلاً من الحواضر الكبرى.. كيف تغيرت ملامح "دولة الخلافة" خلال 11 عاما؟
انفوبلس..
بعد أكثر من عقد على ظهور عصابات "داعش" في العراق، واحتلالها الواسع لمناطق استراتيجية، عاد المشهد الأمني ليسجل تحولاً واضحاً في طبيعة الخطر. فالتنظيم الذي كان يسيطر على ثلث البلاد، تفتّت اليوم إلى خلايا معزولة تلاحقها القوات العراقية باستراتيجية أكثر مرونة وتطوراً، فما هي خريطة تواجد المتطرفين اليوم؟
قبل أكثر من 11 عاماً ظهر إبراهيم عواد البدري، المعروف باسم "أبو بكر البغدادي"، في مدينة الموصل وألقى خطبته الشهيرة، نهاية يونيو/حزيران 2014، التي أعلن فيها قيام "دولة الخلافة" في العراق وسوريا، بعد أيام من سيطرته على الموصل، مركز محافظة نينوى.
وسيطر مسلحو التنظيم الارهابي، الذي مارس أقصى درجات التوحش بما فيها تنفيذ جرائم واسعة بحق المدنيين من المسلمين والأقليات على حد سواء، سيطر على مساحات كبيرة في العراق وسوريا، وقام بإلغاء الحدود الدولية بين الدولتين.
تمكن تنظيم "داعش" الإرهابي من السيطرة على نحو ثلث مساحة العراق في تلك الفترة، لكنه سرعان ما بدأ بالتراجع والانحسار مع صدور فتوى المرجعية العليا في النجف الأشرف وتشكيل الحشد الشعبي، وبدء العراق "معارك التحرير"، التي أعلنتها حكومة حيدر العبادي (2014 ـ 2018)، لينتهي فصل السيطرة الجغرافية لتنظيم "داعش" الإرهابي في العراق وسوريا، وتحول التنظيم إلى خلايا مبعثرة في أراضي البلدين.
وتوزّع من بقي من مسلحي "داعش" بالعراق في مناطق متفرقة وتقوم الأجهزة الأمنية بملاحقتهم ورصدهم. وتنتشر بقايا التنظيم في المناطق الوعرة بين المحافظات وعلى الحدود مع إقليم كردستان، وتتمركز في خمس محافظات هي: نينوى، ديالى، كركوك، صلاح الدين والأنبار، بالإضافة لمناطق تقع على حدود محافظتي كركوك والسليمانية، مثل وداي زغيتون، ووادي الشاي، وجبال الشيخ يونس، ووادي حوران.
ويقوم من تبقى من التنظيم بين فترة وأخرى بتهديد الأهالي والمزارعين وتنفيذ كمائن على الطرق النائية والبعيدة، لتسجيل عمليات يُراد منها خلق حالة ذعر لدى الأمن والأهالي، بالإضافة إلى الحصول على الدعم المالي والاستيلاء على السيارات والمواد الغذائية، مع تراجع في الإصدارات بالإنتاج الإعلامي والمرئي.
وعادةً ما تستبق القوات العراقية احتمالات قيام بقايا عناصر تنظيم "داعش" بهجمات أو كمائن ضد القوى الأمنية والقرى في أطراف المدن، من خلال سلسلة من الضربات الجوية على معاقل التنظيم ومخابئه بين وقت وآخر، بالإضافة إلى مداهمات وحملات تفتيش متواصلة في مناطق تُعتبر وعرة وصعبة ونائية في محافظات متفرقة، لكنها تحت أنظار السلطة الأمنية العراقية، وفقاً لتعليقات مسؤولين وجنرالات فيها.
وقال رئيس أركان الجيش، الفريق عبد الأمير يار الله، إن "عصابات داعش انتهت عسكرياً بعد تحرير جميع الأراضي التي سيطرت عليها وهي موجودة في مناطق من الصعب الوصول إليها، وتقوم طائرات F 16 بواجباتها تجاه تلك العصابات"، موضحاً أن "بقايا التنظيم تعمل في أماكن محددة حُددت في المثلث (كركوك وصلاح الدين وديالى) وجرى تشخيصها، ونقوم بالواجبات تجاه تلك المناطق لكي نمنع أي تسلل أو تقدم لهذه البقايا تجاه الأهداف، سواء كانت مدنية أو عسكرية".
كما أكد العديد من ضباط من قيادة العمليات المشتركة ووزارة الداخلية والدفاع، أن هناك تراجعاً كبيراً في عدد المسلحين الذين يتبعون التنظيم "وأغلبيتهم جرى التعرف عليهم من خلال الاعترافات والملاحقات والمعلومات الاستخباراتية الأمنية، وهم محاصرون في المناطق الوعرة التي يعيشون فيها".
وأشاروا إلى ورود معلومات عن وجود "خلافات بين المسلحين أدت لاشتباكات فيما بينهم، كما ترددت معلومات عن قيام بعضهم بالانتحار بسبب تأزم أوضاعهم اليومية وصعوبة الحصول على مقومات الحياة".
ولفت الضباط إلى أن غياب القيادة الموحدة أدى لتحول من بقي من عناصر "داعش" من "تنظيم إلى عصابات تهدف إلى التربح والبقاء على قيد الحياة".
وقال ضابط من قيادة العملية العسكرية المشتركة في محافظة كركوك، إن "المحافظة كما بقية المحافظات المجاورة تستشعر دائماً خطر الإرهابيين المنتمين إلى تنظيم داعش، لكن من غير المنصف عدم الاعتراف بأن الخطورة تتراجع بشكلٍ مستمر"، مؤكداً، أن "أطراف المحافظة، بالإضافة إلى المناطق النائية والوعرة تحوي بعض المخابئ التي تضم بعضاً من هؤلاء، وهناك حالات استدراج كثيرة تحدث، كما أن المراقبة المعلوماتية والجوية على هذه المناطق تمنعهم من التحرك بصورة طبيعية، ونعتقد أن خلافة التنظيم انتهت، وما تبقى من أعداد مسلحة لا يشكل أي خطورة، غير خطورة ما يمكن تصنيفه على أنه خطر قطاع الطرق وعصابات التسليب".
من جانبه، أشار رئيس لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي، كريم المحمداوي، إلى أن "التنظيمات الإرهابية صارت تعرف أن أكبر مقبرة لها تكون في العراق، وبفضل التقدم الكبير للقوات العراقية في القضاء على ما تبقى من عناصر تنظيم داعش، فإن الأمور تتجه إلى الهدوء، وأن قواتنا تعلن أسبوعياً وشهرياً التمكن من قتل أعداد من فواعل التنظيم وتدمير مخابئ مهمة للإرهابيين في مناطق مختلفة خلال عمليات نوعية جوية وبرية".
ولفت الباحث في الشأن العراقي، عبد الله الركابي، إلى أن "مفهوم الخلافة الذي جسده تنظيم داعش، انتهى تماماً، لأسباب تتعلق بقوة التنظيم وتوزيع أدواره وغياب القيادة والسيطرة على الولايات وفق مفهوم التنظيم، بالتالي فإن الخلافة لم يعد لديها أرض لتمارس دورها، وطالما أنها انتهت إلى هذه الطريقة فإن نهاية دولة التمكين أدت بالضرورة إلى انتهاء الخلافة"، مؤكداً أن "نهاية داعش لا يعني أن التهديد الأمني انتهى، وعلى الحكومات سواء الحالية أو في المستقبل أن تمنع أن تُضطهد أي جماعة أو شريحة أو مكون عراقي، لأن في الاضطهاد ظهور حتمي وأزلي لجماعات تريد الانتقام، لذلك لا بد من مواجهة الأسباب قبل مواجهة النتائج".
وكان رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، قد أصدر توجيهات للقيادات الأمنية، مطلع العام الحالي، بالتأهب وإجراء مراجعات شاملة للخطط العسكرية، وشدد على تغيير التكتيكات العسكرية المتبعة في المناطق التي تشهد نشاطاً لـ"داعش"، واتباع أساليب غير تقليدية للمواجهة بهدف إضعاف قدرات عناصر التنظيم، والحدّ من حركاتهم. عقب ذلك، كثفت القوات العراقية عملياتها الأمنية لمنع تحركات عناصر تنظيم داعش، خاصة بالمحافظات المحررة، وأعلنت قيادة الجيش أخيراً أن أعداد "الإرهابيين" الموجودين بالعراق حالياً لا تزيد عن 400.
ورغم مرور أكثر من عقد على لحظة إعلان ما يسمى بـ"الخلافة" في الموصل، فإن إرث تنظيم "داعش" الارهابي لا يزال يفرض ظلاله على المشهد الأمني العراقي، ولكن بصيغة جديدة تتسم بالهشاشة والتبعثر. فقد انتهت مرحلة التمدد الجغرافي، ونحن الآن في مرحلة المطاردة والتفكيك، لتتحول "دولة التمكين" إلى مجرد عصابات صغيرة تبحث عن البقاء.
تُظهر المعطيات الأمنية أن فلول "داعش" لم تعد تمتلك بنية تنظيمية مركزية أو سيطرة على مناطق مأهولة، بل باتت تنشط ضمن جيوب وعرة ونائية تقع على تخوم المحافظات الخمس (ديالى، كركوك، نينوى، الأنبار، وصلاح الدين)، مستفيدة من تضاريس طبيعية كوديان الشاي وزغيتون ووادي حوران، وجبال الشيخ يونس.
هذا التمركز الجغرافي لم يعد يشكل تهديداً وجودياً للدولة، بقدر ما أصبح مصدراً لمخاطر محدودة ذات طابع عصاباتي، مثل الكمائن على الطرق الخارجية أو الابتزاز للمزارعين بحثاً عن الطعام أو المال.
المعطيات الميدانية والاستخباراتية تؤكد غياب قيادة موحدة للتنظيم، وتحوله من كيان عسكري/إداري إلى جماعات مشتتة بأجندات متفاوتة، وأحياناً متضاربة.
فظهرت الخلافات والانشقاقات، وحتى حالات الانتحار بين أفراده نتيجة الضغوط المعيشية، وهو ما يشير إلى انهيار تام للعقيدة المركزية التي كان يرتكز عليها "داعش" في ذروته.
التحولات التنظيمية هذه ترافقت مع تراجع في الإنتاج الإعلامي والدعائي، ما يعكس تضاؤل الموارد والخبرات والتمويل، فضلاً عن فقدان القدرة على التجنيد والتواصل الخارجي.
خلال السنوات الأخيرة، انتقلت الأجهزة الأمنية العراقية من وضعية ردّ الفعل إلى الهجوم الوقائي، عبر استخدام الضربات الجوية الدقيقة (باستخدام طائرات F16 والطائرات المسيرة)، والمداهمات البرية المركزة في المناطق الجبلية والمفتوحة.
ويبدو أن هذا التكتيك الجديد قد نجح في الحد من تحركات الفلول، خاصة مع اعتماد معلومات استخبارية دقيقة وتعاون بين الجيش والحشد الشعبي والأجهزة الأمنية المحلية.
بالرغم من أن خطر "داعش" ما زال قائماً، خاصة في المناطق الحدودية والنائية، فإن القيادة العسكرية تؤكد أنه أصبح محصوراً ومكشوفاً إلى حد بعيد.
عدد عناصر التنظيم لا يتجاوز 400 فرد، غالبيتهم معروفون بالأسماء، ومحاصرون في بيئات غير قابلة للتمدد أو التنظيم، وهذا ما يجعل خطرهم أقرب إلى "أمن الطرق" منه إلى تهديد للدولة.
لكن رغم الإنجازات الأمنية، فإن بقاء بعض مقومات العودة قد يُشكل بيئة خصبة لتكرار التجربة، ولو بعد سنوات.
ولهذا فإن تأكيد الباحثين على أن "موت داعش" لا يعني "موت الفكر المتطرف"، يمثل دعوة واضحة للدولة العراقية بأن تكمل المواجهة العسكرية بمنظور سياسي/اجتماعي يُعالج جذور التطرف، لا نتائجه فقط.
نجحت الدولة العراقية في تحطيم بنية "داعش" العسكرية والجغرافية، ولكن التهديدات الهامشية التي تتنقل في الصحارى والجبال تستدعي يقظة دائمة وتطويراً مستمراً للخطط الأمنية. فـ"داعش" الذي بدأ بخطبة في الموصل، انتهى إلى مخابئ في الكهوف، ولكن غيابه التام لا يمكن ضمانه إلا بعد زوال بيئته الحاضنة.


