وقف إطلاق النار لا ينهي النزيف.. والجنوب السوري تحت تهديد الهيمنة الصهيونية

أبعاد تهدد وحدة الجنوب السوري
انفوبلس..
في مشهد يلخّص هشاشة الوضع الأمني في الجنوب السوري، أعلنت السلطات السورية، مساء الثلاثاء، وقفاً شاملاً وفورياً لإطلاق النار في محافظة السويداء، بعد أيام دامية من الاشتباكات الطائفية والهجمات المنظمة التي أوقعت مئات القتلى، وتسببت بموجات نزوح واسعة، وسط تحذيرات من انزلاق المحافظة إلى صراع مفتوح تتداخل فيه أبعاد محلية وإقليمية.
وجاء في بيان رسمي، أن القرار اتُخذ "في ظل الظروف الدقيقة التي تمر بها البلاد، وحرصًا على حقن دماء السوريين، والحفاظ على وحدة الأراضي السورية وسلامة شعبها"، فيما أعلنت الرئاسة الروحية لطائفة الموحدين الدروز، بلسان الشيخ حكمت الهجري، التوصل إلى اتفاق شامل لوقف إطلاق النار، بعد وساطات ورعاية دول ضامنة.
وينص الاتفاق على نشر حواجز أمنية خارج الحدود الإدارية للسويداء، ومنع دخول أي جهة إلى القرى الحدودية لمدة 48 ساعة، لإتاحة المجال لانتشار القوات الأمنية ومنع الاشتباكات، مع السماح بخروج آمن لأبناء العشائر المحاصرين داخل المحافظة عبر ممرات إنسانية محددة.
حصيلة دموية وهدوء حذر
بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، بلغ عدد القتلى جراء الاشتباكات الميدانية والقصف الإسرائيلي الذي رافق التصعيد، 718 شخصًا منذ 13 تموز/يوليو، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ المحافظة خلال السنوات الأخيرة. وشهدت القرى المحيطة بطريق دمشق – السويداء معارك عنيفة استُخدمت فيها قذائف الهاون والأسلحة المتوسطة، لا سيما في بلدة المجيمر ومناطق المتونة ولاهثة، حيث هاجمت أرتال مسلحة مداخل السويداء، ما أدى إلى تدمير ممتلكات مدنية واندلاع موجات نزوح كبيرة.
خلفيات الاشتباك
تعود شرارة الأحداث إلى حادثة اعتداء على شاب من أبناء السويداء قرب بلدة المسمية، ما أدى إلى احتجازه وسلبه، وردًا على ذلك، احتجزت مجموعات محلية من السويداء عددًا من أبناء العشائر، الذين ردوا بإقامة حواجز واحتجاز مسلحين وقطع الطرق الرئيسة. وفي ذروة التوتر، دعا "المجلس العسكري في السويداء" الفصائل المحلية إلى "التوحد لمواجهة الهجوم الممنهج الذي تتعرض له المحافظة".
مصادر حقوقية وميدانية أكدت أن ما يجري في السويداء لم يعد مجرد خلاف عشائري، بل تطور إلى مواجهة موسعة، تغذيها جهات أمنية وطائفية تسعى لإعادة فرض السيطرة بالقوة على المحافظة الخارجة عن قبضة النظام منذ سنوات. وتشير تقارير إلى مشاركة قوات النظام بشكل غير مباشر في دعم المهاجمين، تحت غطاء "استعادة الأمن"، الأمر الذي دفع نشطاء إلى المطالبة بتدخل أممي عاجل.
من جهتها، وصفت الرئاسة الروحية للطائفة الدرزية ما يحدث بأنه "فتنة خطيرة تهدد وحدة الجبل"، مطالبة بوقف فوري للاقتتال واستعادة السلم الأهلي، فيما شدد "المجلس العسكري" على أن تبرير استخدام السلاح الثقيل بذريعة مكافحة الخارجين عن القانون يمثل "محاولة مفضوحة لقمع الحراك المحلي وفرض أجندات خارجية".
واقع إنساني كارثي
مع تصاعد المواجهات، باتت قرى بأكملها في ريف الثعلة والمزرعة وكناكر شبه خالية من سكانها. وتحدثت شهادات ميدانية عن قصف طال منازل ومزارع، وقطع للاتصالات والمياه والكهرباء، ما وصفه السكان بأنه "عزل تمهيدي لاجتياح كامل". كما تم فرض حظر تجوال في مناطق عدة، في وقت بقي فيه المجتمع الدولي يراقب بصمت، رغم التقارير عن ارتكاب مجازر بحق المدنيين على يد مجموعات مرتبطة بـ"الجولاني".
في ظل هذا المشهد المتأزم، تبدو السويداء اليوم على مفترق طرق خطير، بين هدنة هشة، واحتمال عودة الاشتباكات، وسط ترقب شعبي وقلق واسع من أن يتحول التصعيد إلى حرب أهلية مفتوحة يصعب احتواؤها.
أبعاد إقليمية وتحركات صهيونية
يرى مراقبون للشأن الدولي، أن أحداث السويداء الأخيرة لا يمكن فصلها عن السياقات الإقليمية الأوسع، خصوصًا ما يتعلق بدور الكيان الإسرائيلي المتزايد في الجنوب السوري.
ويؤكد المراقبون، أن التصعيد العسكري، الذي اندلع في 13 تموز/يوليو، وأسفر عن مئات القتلى في اشتباكات بين فصائل درزية وقبائل بدوية، ترافق مع تدخل مباشر من قوات أمن تابعة للنظام ومجموعات مرتبطة بـ"جبهة الجولاني"، ما يوحي بوجود نوايا مبيتة لإعادة رسم المشهد الأمني في الجنوب السوري.
ويلفت المراقبون إلى أن "إسرائيل" استغلت الأوضاع الإنسانية والانقسامات الداخلية لتبرير تدخل عسكري مباشر بذريعة "حماية الدروز"، حيث شنّ الطيران الحربي الإسرائيلي غارات على أكثر من 160 هدفًا داخل سوريا، طالت مواقع حساسة في دمشق، بينها مبانٍ أمنية وعسكرية، في مشهد يذكّر بنموذج "الحزام الأمني" الذي أقامه الاحتلال جنوب لبنان في ثمانينيات القرن الماضي.
تحذيرات من خطر تفتيت المجتمع السوري عبر إذكاء النزعات الطائفية والمذهبية، والتذرع بحماية الدروز قد يؤدي إلى خلق "كانتون درزي" منفصل، في خطوة تمهّد لتقسيم سوريا على أسس طائفية
وفي مؤشر لافت على تصعيد ميداني محتمل، أفادت تقارير إسرائيلية بتحريك وحدات عسكرية من قطاع غزة نحو الجولان المحتل، ووصول قوة مدرعة إلى أطراف العاصمة دمشق، ما يضع الجنوب السوري تحت تهديد احتلال جزئي أو سيطرة أمنية إسرائيلية غير معلنة.
ويشير مراقبو الشأن الإقليمي إلى أن تل أبيب تسعى إلى إنشاء "منطقة عازلة" تمتد من الجولان حتى جبل الدروز، تُدار عبر مكوّن محلي درزي موالٍ لها، بما يخدم أهدافها في تفكيك الدولة السورية ومنع تمركز أي قوة "معادية" قرب حدودها. ويربط هؤلاء المساعي الحالية بتصريحات صادرة عن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي تحدث بوضوح عن منع اقتراب القوات السورية من جنوب دمشق.
كما يحذر المراقبون من خطر تفتيت المجتمع السوري عبر إذكاء النزعات الطائفية والمذهبية، مشيرين إلى أن التذرع بحماية الدروز قد يؤدي إلى خلق "كانتون درزي" منفصل، في خطوة تمهّد لتقسيم سوريا على أسس طائفية، مع إمكانية تمدد هذا النموذج إلى لبنان، ما يعيد شبح الحرب الأهلية ويغذّي خطاب الفدرلة والتقسيم.
في هذا السياق، يؤكد المراقبون أن "إسرائيل" هي المستفيد الأول من زعزعة الاستقرار في الجنوب السوري، وأن تدخلها في السويداء يتجاوز البعد الإنساني، ليصبح أداة استراتيجية لإعادة هندسة المنطقة بما يخدم أمنها ومصالحها الجيوسياسية.