الاقتصاد العالمي يتجه شرقاً
عبدالحسين الهنين
بتعبير رومانسي يصفُ الرئيس الصيني (شي جين بينغ) طبيعة التنوع في مسارات التنمية، في كلمته التي ألقاها أثناء انعقاد الدورة السادسة لمنتدى التعاون الصيني العربي - حزيران 2014: (مثلما لا يمكن أن نطلب من جميع الأزهار أن تفوح بعبق زهرة البنفسج، لا يمكن أن نجبر الدول المتباينة في تقاليدها الثقافية ومعاناتها التاريخية وظروفها الواقعية على إتباع طريق واحد في التنمية).
وفي ذروة انتشار جائحة كورونا يبشر هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكيّ الأسبق بولادة نظام عالمي جديد تتزعمه الصين، في حديثه لصحيفة وول ستريت جورنال: (إنّ جائحة كورونا ستغيّر النّظام العالميّ للأبد، وبالتّالي: فإنّ ذلك الوباء سيكون مؤشّراً لبداية حقبة عالميّة جديدة تنهي النّظام العالميّ الحاليّ وتؤسّس لمرحلة أخرى، وربّما قد حان الوقت لتتزعّم الصّين العالم بعد أن بدأت تباشير السّقوط الأمريكيّ تلوح في الأفق). الواضح أنها ليست تنبؤات بل هي تقديرات واقعية تدرك ان نظاما دوليا جديدا متعدد الأقطاب بدأ بالتشكل، وان اغتنام الفرصة في التوقيت المناسب للالتحاق بهذا النظام أصبح من أولويات الكثير من الدول، مثلما يشير الرئيس الصيني قبل أيام حينما استضاف قمة بريكس الـ14، بالقول: (من يغتنم الفرص الجديدة للتنمية الاقتصادية مثل البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي، يواكب تيار العصر. ومن يحاول تشويش التنمية المدفوعة بالابتكار للدول الأخرى باستغلال الوسائل في مجال التكنولوجيا بما فيها الاحتكار والحصار ووضع الحواجز، من أجل الحفاظ على هيمنته، سيجد طريقه مسدودا). قد تكون كورونا عاملا منشطا ومسرعا لحقيقة تاريخية تحدث بشكل انسيابي وتمثل التطور الطبيعي لحياة الأمم وتراجع حضارات وصعود تيارات جديدة لا سيما الأمم التي تمثل الحضارات القديمة بعدما أزالت عنها عوامل الكسل والاستسلام، بل أنها استحضرت تاريخها وعوامل النجاح والنهوض المتمثلة بقواها البشرية الهائلة وأسواقها الكبيرة ومساحاتها الواسعة لتقومَ بخطوتها المتمثلة في تشكيل نظامها العالمي الجديد، الذي يبشر بعملة جديدة منافسة ومناظرة للدولار الأمريكي، كعملة مرجعية في الأسواق العالمية.
مجموعة دول البريكس ( BRICS) احد الأمثلة المهمة في عملية التحول العالمي، فهي تضمّ الاقتصادات الأسرع نموا في العالم، متمثلة بروسيا والصين الى جانب البرازيل والهند وجنوب إفريقيا ودول نامية أخرى ترغب في الانضمام مثل الأوروغواي وإيران والأرجنتين ومصر وغينيا وتايلاند، وعدد من دول الاتحاد السوفيتي السابق وغيرها. وتُظهر الدول الخمسة التي تشكل هيكل (بريكس) نواياها بشكل صريح من انها تعمل على تشكيل نظام دولي جديد، يؤمن بالتعددية ورفض التفرد في صنع القرارات السياسية والاقتصادية، وهي لا تُخفي أهدافها السياسية المتمثلة في استقطاب القوى الدولية الرافضة للنظام الدولي الحالي. تعترف هذه المجموعة بعوامل ضعفها المتمثل بالعلاقة الوثيقة لبعض أعضائها مع الولايات المتحدة، لكنها تعتبره تحديا يمكن التغلب عليه مع مرور الزمن، عبر توفر عوامل القوة الكبيرة، مثل حصتها من احتياطيات العملة الأجنبية؛ فاربع دول منها (الصين، البرازيل، الهند، جنوب افريقيا) تحتفظ بنحو 40% من مجموع احتياطيات العالم النقدية، بينما تملك الصين وحدها حوالي 2.4 تريليون دولار وهو رقم كبير جدا، اذا ما عرفنا انه يكفي لشراء ثلثي شركات مؤشر ناسداك (Nasdaq)، وهي ثاني أكبر دائن بعد اليابان. اما روسيا فأنها تصنف معركتها مع الغرب بـ(المعركة الوجودية)، وتعتبر أن عضويتها في هذه المجموعة يمثل حماية لها، ويدعم توجهاتها الاستراتيجية وخياراتها الخاصة في رسم مبدأ عالمي جديد يركز على ان جميع الطرق لم تعد تؤدي إلى واشنطن وحدها.
يمكن ملاحظة العمل الجدي لمجموعة (بريكس) من خلال تشكيل مجموعة من المؤسسات المالية المهمة مثل تأسيس بنك التنمية الجديد ـ ومقره شنغهاي ـ ليصبح نظيرا ومنافسا للبنك الدولي، كذلك تأسيس صندوق بريكس، مقابل صندوق النقد الدّولي. هذان التأسيسان المهمان أعلنا عن أهدافهما في دعم النّمو والتّنمية على المستوى الدولي، مما يمثّل الخطوة الأولى في مخطّط دول بريكس لخلق نظام عالمي جديد، ولتحرير العالم من قيود المؤسستين الماليتين (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) اللتين تتحكم بهما الولايات المتحدة في رسم سياستهما العامة، بما يخدم مصالحها كما يتهمها خصومها.
شخصيا، اعتقدُ أن ردة الفعل التي أقدمت عليها مجموعة السبع الصناعية في قمتها الأخيرة قبل ايام (مقاطعة بافاريا – ألمانيا/ 26 حزيران 2022) لن تكون كافية لمواجهة جبهة الشرق وطريق الحرير الجديد، ويمكن تصنيف قرارها في استثمار 600 بليون دولار لأنشاء البنى التحتية في الدول النامية ما هو الا تقليد لما فعلته الصين في أرجاء مختلفة من آسيا وإفريقيا وامريكا اللاتينية، بل هو محاولة لمزاحمة الصين على استثماراتها الكبيرة في الدولة النامية، ضمن مبادرة الحزام والطريق، ما يجعلنا نعتقد ان الغرب والولايات المتحدة تحديدا يتحرك دون خطط، وان الكلام الشائع في الشرق الأوسط ـ والعراق تحديدا ـ عن ان اية حركة او فعل في الكوكب لا يتم الا بخطة أمريكية محكمة ما هو الا محض هراء. فالمعالجات الغربية قد تعطل هذا التحوّل العالمي الكبير، لكنها لن تتمكن من إيقاف حركة التاريخ، وقد لا ننتظر طويلا لنرى خلال عقد من الزمان ان العالم يتجه شرقا..
من العوامل المهمة التي تسرع من ظهور النظام الجديد هو الطبيعة النفعية للمؤسّسات الأمريكيّة الاقتصاديّة نفسها؛ حيث يتوقع أن تتبع مصالحها وتلتحق بالنظام الجديد، فهي ببساطة لن تكون أكثر وطنيّة من المؤسّسات الاقتصاديّة الأوروبيّة التي هجرت أوروبا وغادرت الى أمريكا، عندما اقتضت مصالحها ذلك، حينما برزت أمريكا كقوة متفردة في العالم على المستوى المالي، وقد نشهد انتقال رأس المال الأمريكيّ إلى الصين وحلفائها بشكل اسرع من المتوقع، وحينذاك سيكون البنك والصّندوق الدّوليان الجديدان أكثر جذباً لرأس المال الدّوليّ، مما يسهم في زيادة القدرة التّنافسيّة المتصاعدة لأسواق دول (البريكس) في اجتذاب رؤوس الأموال العالميّة، وهذا سيساعد المجموعة في التغلب على نقاط الضّعف المتفاوتة بين دولها المتمثلة بمعدلات الفقر وعدم المساواة، إضافة الى البعد الجغرافيّ بين هذه الدول ووجود تيّارات أيديولوجية ذات صبغة تنافسيّة حادة، كما هو الحال بين روسيا والصّين .
العراق كدولة نامية ومهمة لكلا طرفي الصراع العالمي بسبب مركزه في الشرق الأوسط وامتلاكه أهم عناصر الصراع المتمثل بالطاقة، فهو يستطيع ان يعمل على جذب كلا الطرفين للتنافس في استثمارات تعود بالفائدة على شعب العراق، وتوفر فرصا مهمة في بناء البنى التحتية التي تشكّلُ أساسا لتلك الاستثمارات الغربية والشرقية على حد سواء، لكن عليه ان يختار التيارات الصاعدة حينما يكون في موضع الاختيار .