حرب صامتة تلتهم الأشجار والمياه والصحة: الكونكريت يلتهم الجبال ويخنق المدن.. طفرة البناء العشوائي تهدد بيئة كردستان ومستقبلها المائي

انفوبلس/..

تشهد مدن إقليم كردستان خلال السنوات الأخيرة تحولاً عمرانياً متسارعاً قلب ملامحها الطبيعية رأساً على عقب، إذ تتراجع المساحات الخضراء والغابات أمام تمدد المجمعات السكنية العمودية والفلل الاستثمارية التي تغزو الجبال والوديان بلا توقف. هذا التوسع، رغم ما يوفره من وحدات سكنية جديدة، بات يثير غضب السكان والخبراء البيئيين على حد سواء، بعدما تسبب بزحف كونكريتي أطاح بآلاف الأشجار، وأدى إلى تلوث الهواء وانخفاض مناسيب المياه الجوفية، وتزايد غير مسبوق في انتشار الأمراض المزمنة والسرطانية. 

وبينما تتحدث السلطات عن التزام المشاريع بمساحات خضراء محددة، تكشف شهادات الأهالي والبيئيين واقعاً مختلفاً، تُبنى فيه المجمعات على الأراضي الزراعية والجبلية الحساسة من دون تخطيط معمق، ما جعل البيئة تدفع الثمن الأكبر.

في الطريق المؤدي إلى مصيف سرجنار، غرب السليمانية، لا تحتاج سوى دقائق قليلة كي تدرك أن المشهد الذي كان يوما ما لوحة خضراء بات الآن خليطا من الأبراج الأسمنتية التي تتسابق نحو السماء. هذا ما قالت عنه سارة كريم، التي وقفت أمام مكان طفولتها بحسرة وهي تردد: "لقد حولوا الحديقة إلى مكعبات كونكريتية!"، بعد أن اكتشفت أن البقعة التي كانت مسرحا للذكريات لم تعد سوى مجمع سكني شاهق بلا روح ولا أشجار.

الحديقة التي كانت تستقطب العائلات الهاربة من ضجيج المدينة اختفت. وفي مقابل الحنين، ظهرت أبنية ترتفع طبقة بعد أخرى، كأنها تعلن بداية فصل جديد في حياة السليمانية، ومعها بقية مدن إقليم كردستان، فصل عنوانه العريض: “العمران قبل الإنسان… والاستثمار يسبق البيئة”.

عمران عمودي بلا ضوابط كافية

البناء العمودي لم يكن مدروسًا بيئيًا في المجمعات السكنية في محافظات الإقليم الثلاث، فالفئات منخفضة الكلفة التي تتراوح أسعارها بين 45 و60 ألف دولار، تُبنى غالبًا بلا ضمانات حقيقية لمعايير السلامة، خاصة ما يتعلق بالزلازل. أما الفئة المتوسطة والعالية الكلفة، التي قد تصل أسعارها إلى 300 ألف دولار، فهي الأخرى تتفاوت في جودتها، بين مشاريع ذات مواصفات عالمية وأخرى أقرب إلى "قوالب سكنية" تستهدف الربح أولًا.

هيئة الاستثمار منحت تراخيص لأكثر من 220 ألف وحدة سكنية، فيما منحت البلديات تراخيص لقرابة 100 ألف وحدة أخرى، ومع هذا التوسع زادت معه شهية المستثمرين للتوغل في الجبال والسهول وحتى الأراضي الزراعية.

البيئة تدفع الثمن الأكبر

يشعر سكان كردستان بأن مدنهم تفقد رئتها الخضراء. لم يعد الهواء ذاته، ولا السماء بالصفاء نفسه. أنور جبار من منطقة رعايا في السليمانية يؤكد أن الأمراض التنفسية التي يعاني منها، والتي كلفته 100 دولار ثمن دواء، ليست سوى نتيجة مباشرة لاختفاء الغطاء النباتي وارتفاع نسب التلوث.

فالزحف العمراني قطع آلاف الأشجار، وتسبب بإحراق مساحات واسعة، خصوصًا في جبل كويزه الذي شهد احتجاجات شعبية بعدما أقدمت شركات على اقتلاع أجزاء من سفحه بهدف بناء مجمعات جديدة. أحد الطرق المعبدة لمشروع هناك أدى وحده إلى إزالة نحو ألف شجرة، بينها أشجار معمرة.

نزيف المياه… الخطر القادم

الأمر لا يقف عند الأشجار. فالتوسع العمراني أدى إلى انخفاض كبير في مناسيب المياه الجوفية. الخبير المائي رمضان محمد يحذر من "فوضى عمرانية" أثرت بشكل مباشر على الطبقات الجوفية، ما تسبب بجفاف متزايد وتراجع خطير في الأنهار الموسمية.

ووفق تقارير بيئية، فإن نحو 850 ألف متر مكعب من المياه تُهدر يوميًا، فيما وصل عمق الآبار من 250 مترًا في عام 2000 إلى 650 مترًا اليوم بسبب الاستنزاف المتزايد.

أكثر من 1200 بئر حُفرت لمشاريع سكنية واستثمارية في أربيل وحدها، فضلاً عن آبار المواطنين الذين حفروها بسبب ضعف تجهيز الماء الحكومي الذي قد لا يتعدى ساعتين كل ثلاثة أيام. هذه الفوضى المائية تنذر بتخلخل أرضي، وزيادة احتمالات حدوث هزات مستقبلية، بحسب المتخصصين.

الهواء الملوث… وتزايد الأمراض

في شمال الإقليم، حيث يفترض أن يكون الهواء أنقى، أصبحت العواصف الترابية ضيفًا يوميًا. ويؤكد النائب السابق أحمد دابان أن البناء العشوائي ساهم في "تلوث بصري وبيئي" واسع، معتبراً أن مشاريع كبار المتنفذين دمرت المئات من الدونمات الخضراء.

ولا تتوقف المشكلة عند المباني. إذ يتجاوز عدد المولدات الكهربائية الأهلية في الإقليم 6 آلاف مولدة، تعمل لقرابة 12 ساعة يوميًا وتستهلك أكثر من 11 مليون لتر من الوقود يوميًا، أغلبه يُنتج في مصافٍ غير رسمية، ما يفاقم تلوث الهواء والتربة.

وبالنتيجة ارتفاع غير مسبوق في الأمراض التنفسية والسرطانية. فبحسب إحصاءات وزارة الصحة، سُجلت أكثر من 9 آلاف إصابة جديدة بالسرطان في 2023 وحده، فيما بلغت الحصيلة منذ 2012 أكثر من 81 ألف حالة.

قانون موجود… وواقع منفلت

رغم وجود قانون لحماية البيئة في الإقليم، يتضمن عقوبات تصل إلى 200 مليون دينار، إلا أن المحامين والمهتمين بالشأن البيئي يؤكدون أنه "بلا أسنان".

يقول المحامي محمد يونس إن الضرر البيئي "لا يُرى في موقع التجاوز، بل يُرى في المستشفيات"، مضيفًا أن العقوبات الحالية لا تردع أحدًا، وأن الفاسدين يتجاوزون على البيئة بلا محاسبة.

ومع أن المادة 12 من القانون تُلزم أي مشروع بتقديم دراسة للأثر البيئي، إلا أن الواقع يشير إلى أن الكثير من المشاريع تُنجز دون الالتزام الحقيقي بهذه الاشتراطات.

معركة مستمرة… وحلول ممكنة

رئيس هيئة حماية البيئة في كردستان، عبد الرحمن صديق، يعترف بأن المعركة شبه خاسرة أمام هذا التوسع العمراني، خصوصًا أن ثقافة البناء في كردستان "«أفقية وليست عمودية"، ما يزيد من كتلة الإسفلت والكونكريت ويضاعف الحرارة.

مع ذلك، يؤكد الخبراء أن الحل ما زال ممكنًا إذا ما توفرت الإرادة. فالتشجير المستمر في بيئة جبلية ككردستان قد ينجح بنسبة 100%. كما أن فرض الرقابة الصارمة على مشاريع البناء، وإنشاء محطات مياه جديدة، وتوسيع شبكات الصرف الصحي، قد يخفف من الضغوط البيئية.