منابع مهددة ومجاري ملوثة.. لماذا تفشل بغداد في حماية أنهارها من التلوث؟
انفوبلس..
أزمة بيئية متصاعدة تواجهها أنهار العراق نتيجة التلوث الناجم عن النفايات الصلبة والسائلة ومخلفات المستشفيات، ما يهدد صحة السكان والتوازن البيئي. ورغم وجود قوانين رادعة، تكشف شهادات مواطنين وخبراء وناشطين بيئيين عن ضعف الرقابة وغياب خطط فعالة لمعالجة الأزمة، وسط مطالبات بإجراءات حكومية عاجلة وحاسمة.
هذا الواقع دفع الجهات المعنية والباحثين والناشطين البيئيين إلى المطالبة باتخاذ إجراءات عاجلة وحازمة، للحد من مصادر التلوث، ووضع استراتيجيات مستدامة لإدارة الموارد المائية وحمايتها للأجيال المقبلة.
يشير سعد كاظم، أحد السكان المحليين، إلى أنه أصبح يخشى الاقتراب من ضفاف النهر، فالمياه لم تعد كما كانت صافية ونقية، بل تحوّلت إلى مجرى ملوث مليء بالمخلفات، مؤكداً: "أنّ إلقاء نفايات المستشفيات، في ما لو صحّ، جريمة بحق الإنسان والطبيعة".
من جانبها، تساءلت المواطنة نغم علي بتذمر: كيف يسمح المسؤولون بإلقاء مخلفات المستشفيات في النهر؟ هذه النفايات تحمل الجراثيم والفيروسات، وهي تهدد حياة الناس، وتلوث البيئة بشكل لا يُغتفر. وطالبت بتشديد الرقابة وفرض عقوبات صارمة على الجهات التي تتسبب في هذا التلوث، لافتة إلى أن النهر شريان الحياة في العراق، وإذا فسد ماؤه فسدت حياتنا جميعاً.
وفي هذا السياق، حذّر الناشط البيئي أنس الطائي من المخاطر البيئية والصحية الناتجة عن رمي النفايات داخل الأنهار، مؤكّدًا أن هذه الظاهرة تمثل إحدى القضايا الكارثية التي تؤدي إلى تدهور جودة المياه بشكل كبير.
وأوضح الطائي، "أن انخفاض منسوب المياه في الأنهار يعود بالدرجة الأولى إلى قلة الأمطار، ونقص الإمدادات المائية من دول المنبع، ما يفاقم من ظاهرة تبخر المياه وتكدس النفايات، بما في ذلك مخلفات المستشفيات والمطاعم التي تحتوي على مواد سامة وملوثة، إضافة إلى مواد ليفية تؤثر في نمو الكائنات الدقيقة، الأمر الذي ينعكس سلبًا على الثروة السمكية ويهدد استدامتها".
وأشار إلى أن تراكم النفايات يسهم في تدهور نوعية المياه، ما يؤثر في استخدامها في الزراعة، إذ قد تتلوث المحاصيل وتنتقل المواد السامة إلى المنتجات الزراعية المصدّرة، ما يشكل خطرًا على صحة الإنسان ويضر بجودة الإنتاج.
وأضاف الطائي، أن عمليات سحب المياه من الأنهار ونقلها إلى وحدات المعالجة لا تضمن تنقية كاملة، حيث تقتصر غالبًا على إضافة مواد كيميائية وعمليات فلترة سطحية، الأمر الذي قد لا يقضي على المواد السامة أو الكائنات الدقيقة الضارة، ما يجعل المياه غير صالحة للشرب أو الاستخدامات الأخرى.
وشدد على ضرورة تبني الحكومة إجراءات حازمة للحد من رمي المخلفات، وخاصة مياه الصرف الصحي، التي تُلقى في كثير من الأحيان بشكل غير منظم بسبب ضعف التخطيط، لافتًا إلى أن وجود مختبرات داخل الأحياء السكنية يفاقم من حجم المشكلة، حيث يتم تصريف بقايا المواد المستخدمة في التحاليل الطبية مباشرة إلى شبكات الصرف، ما يؤدي إلى تلوث مياه نهر دجلة بشكل كبير ويؤثر في صحة السكان.
ودعا الطائي إلى تنظيم عمليات التخلص من النفايات وتحسين آليات معالجة المياه، مؤكدًا أن حماية البيئة وصحة الإنسان تتطلب تحركًا عاجلًا وخططًا استراتيجية مستدامة.
يُعد نهرا دجلة والفرات شريانَين حيويين للحياة في العراق، إذ تعتمد عليهما الزراعة والصناعة، ما يجعل أي تلوث فيهما تهديدًا مباشرًا للصحة العامة والأمن المائي والبيئي.
وأفاد مصدر في القطاع الصحي، فضّل عدم ذكر اسمه، أن بعض المؤسسات الصحية تلجأ إلى التخلص من جزء من نفاياتها الطبية عبر تصريفها في مجاري الأنهار. وأوضح أن هذه النفايات تتضمن أدوات ملوثة وبقايا مواد كيميائية قد تُشكّل خطرًا كبيرًا على البيئة وصحة الإنسان.
وأكد المصدر: "أن ضعف الرقابة وارتفاع كلفة المعالجة السليمة للنفايات يدفع بعض الجهات إلى ممارسة هذه الأساليب المخالفة للقانون، ما يزيد من مخاطر التلوث وانتقال الأمراض".
إن القوانين العراقية تتضمن نصوصًا صارمة لحماية الموارد المائية من التلوث، إذ تحظر إلقاء الملوثات أو النفايات في مياه الأنهار والبحيرات والمصادر المائية الأخرى، بحسب قانون حماية وتحسين البيئة العراقي رقم 27 لسنة 2009.
وفي هذا الإطار أكد الخبير القانوني الدكتور سعد البخاتي: "تنص المادة 33 على منع رمي الملوثات أو النفايات في المياه، مع معاقبة المخالفين بالغرامة أو السجن، كما تُلزم المادة 31 الجهات المختصة باتخاذ الإجراءات اللازمة للحد من التلوث والسيطرة على مصادره".
وأضاف: إلى جانب ذلك، يشير قانون رقم 37 لسنة 1964 إلى عقوبات إضافية تطول كل من يقوم بإلقاء الملوثات أو النفايات في أي مصدر مائي داخل البلاد، أبرزها الغرامة المالية، والسجن لمدة قد تمتد لسنوات عدة، والإلزام بإزالة آثار التلوث، وإعادة البيئة المائية إلى حالتها الطبيعية.
لافتًا إلى أن وزارة البيئة تتولى مسؤولية تنفيذ هذه القوانين على المستوى الوطني، فيما تشرف الجهات المحلية على تطبيقها في مناطقها.
وختم البخاتي بالقول: "إن هذه التشريعات تهدف إلى حماية الثروة المائية والحفاظ على الصحة العامة، داعيًا المواطنين والمؤسسات إلى الالتزام الكامل بالضوابط البيئية لتفادي العقوبات".
وزارة البيئة تؤكد استمرار جهودها في هذا الجانب، وأكد مستشار الوزارة الدكتور عمار العطا أن الوزارة تتخذ وفق قانون حماية وتحسين البيئة رقم (27) لسنة 2009 سلسلة إجراءات للحد من تلوث الأنهار ورمي النفايات فيها، تبدأ بتوجيه الإنذارات للجهات المخالفة، مرورًا بفرض الغرامات، وانتهاءً بإغلاق النشاط المخالف في حال استمرار الانتهاك.
وأوضح العطا، "أن مصادر التلوث تتنوع بين أنشطة حكومية تقدم خدمات عامة، وأخرى تابعة للقطاع الخاص"، مشيرًا إلى أن الوزارة تواجه تحديًا حقيقيًا في عدم امتثال العديد من القطاعات البلدية والصحية للقوانين البيئية، ما يحد من فعالية الإجراءات الحالية. وأضاف أن العقوبات المنصوص عليها في القانون الحالي تعد محدودة نسبيًا، وهو ما دفع الوزارة للعمل بالتنسيق مع مجلس النواب على إعداد قانون جديد لحماية وتحسين البيئة، يتضمن تشديد العقوبات لضمان ردع المخالفين.
ولفت إلى أن دور وزارة البيئة رقابي بالدرجة الأولى، من خلال رصد المخالفات وتطبيق الإجراءات القانونية، بدءًا من الإنذار ومرورًا بالغرامة وصولًا إلى الغلق عند الحاجة، مؤكدًا أهمية تعاون جميع الجهات الخدمية والقطاع الخاص لوقف الممارسات الضارة بالأنهار والموارد المائية.
وفي ما يتعلق بمعالجة نفايات مدينة الطب، ومدى التحديات المرتبطة بإدارة النفايات الطبية والخطوط البيئية المحيطة بها، أكد العطا أن المؤسسة لا تخالف القوانين البيئية، إذ تقوم بمعالجة النفايات الطبية الخطرة باستخدام 13 وحدة معالجة بتقنية MBPR، التي تعتمد على معالجة ثلاثية تزيل الملوثات السائلة قبل تصريف المياه إلى نهر دجلة ضمن الحدود البيئية المسموح بها.
وبيّن، أن ما يُتداول حول تصريف مياه الأمطار بالقرب من مدينة الطب لا علاقة له بالمؤسسة، وإنما يعود لتصريف المياه من الأحياء السكنية المجاورة الخاضعة لمسؤولية الجهات البلدية في أمانة بغداد، التي تقوم بتصريفها مباشرة إلى النهر.
كما شدد على أن المخلفات الطبية تُعد من أخطر أنواع المخلفات السائلة لاحتوائها على مسببات الأمراض والفيروسات والبكتيريا وبقايا الأدوية، ما يجعلها ذات تأثير صحي خطير عند تصريفها في الأنهار. ونوّه بأن محطات المعالجة في مدينة الطب تعمل بكفاءة منذ نحو عام، ويمكن للجهات المعنية زيارتها للاطلاع على فعاليتها في إزالة الملوثات قبل تصريف المياه.
وختم العطا بالإشارة إلى أن ما يُلقى في الأنهار من مياه صرف صحي منزلية يقع ضمن مسؤولية الدوائر البلدية في بغداد، وليس له علاقة بمخلفات مدينة الطب.
وتمثل أزمة تلوث الأنهار في العراق أحد أخطر التحديات البيئية التي تواجه البلاد في الوقت الراهن، لاسيما أن نهري دجلة والفرات يعدّان الشريانين الرئيسيين للحياة الزراعية والصناعية والحضرية. غير أن التوسع في التخلص غير المنظم من النفايات – وخاصة الطبية والصرف الصحي – جعل المياه تتحول تدريجياً من مصدر للحياة إلى ناقل للأمراض.
تتعدد أبعاد الأزمة بين بيئية وصحية واقتصادية. فعلى المستوى البيئي، يؤدي تراكم النفايات إلى تدهور نوعية المياه، ما ينعكس على الكائنات الحية الدقيقة ويهدد الثروة السمكية بالانقراض، وبالتالي يضرب التوازن البيئي للأنهار.
وعلى المستوى الصحي، يشكل تصريف مخلفات المستشفيات والمختبرات الطبية خطراً بالغاً، إذ تحمل هذه النفايات فيروسات وجراثيم ومواد كيميائية سامة، بما قد يتسبب في تفشي أمراض يصعب السيطرة عليها.
أما على المستوى الزراعي والاقتصادي، فإن استخدام مياه ملوثة لري الأراضي يهدد المحاصيل بالتلوث، ما ينعكس على سلامة الغذاء وجودة الإنتاج المحلي والمصدّر على حد سواء.
قانونياً، يفرض الدستور العراقي وقوانين حماية البيئة، وعلى رأسها قانون حماية وتحسين البيئة رقم (27) لسنة 2009، عقوبات واضحة وصريحة بحق الملوثين، تصل إلى الغرامة والسجن. ومع ذلك، تكشف المعطيات عن فجوة كبيرة بين النص القانوني والتطبيق الفعلي، بسبب ضعف الرقابة، وغياب الإرادة الجادة لردع الجهات المخالفة، سواء كانت حكومية أو أهلية.
وزارة البيئة تؤكد أنها تبذل جهوداً متواصلة من خلال الرصد والإنذار والغرامات، إلا أن تصريحات مسؤوليها تعكس إدراكاً لعجز القوانين الحالية عن ردع المخالفين، ما دفعها إلى اقتراح تعديل تشريعي يتضمن تشديد العقوبات. ومع ذلك، تبقى المعالجة الجزئية دون جدوى ما لم تتوفر إرادة سياسية تدعم استراتيجية وطنية شاملة لإدارة المياه وحماية البيئة.
الأزمة تكشف أيضاً عن مشكلة بنيوية في إدارة النفايات داخل العراق، إذ لا تزال آليات المعالجة بدائية في كثير من المؤسسات، سواء الصحية أو البلدية، فضلاً عن غياب الوعي المجتمعي بخطورة رمي النفايات في الأنهار. هذا يضع مسؤولية كبيرة على الحكومة في بناء نظام متكامل لإدارة النفايات الطبية والصناعية والمنزلية، مع تشجيع الاستثمارات في مجال تدوير ومعالجة النفايات.
الناشطون البيئيون يحذرون من أن استمرار الوضع الراهن سيجعل الأنهار العراقية مهددة بفقدان وظيفتها الحيوية خلال سنوات قليلة، وهو ما يعني كارثة إنسانية وبيئية واقتصادية، خصوصاً مع تراجع مناسيب المياه نتيجة السدود التركية والإيرانية والتغيرات المناخية. ومن دون معالجة سريعة وجذرية، فإن العراق قد يواجه أزمة مركبة تجمع بين الجفاف والتلوث وانعدام الأمن الغذائي والمائي.
لا تقتصر قضية تلوث الأنهار على كونها ملفاً بيئياً، بل هي قضية أمن وطني، إذ يرتبط بها استقرار المجتمع وصحته واقتصاده. والمطلوب اليوم أن تتحرك الدولة بخطط واضحة تتضمن تشديد الرقابة، تفعيل العقوبات، تطوير محطات المعالجة، وتنفيذ برامج توعية مجتمعية، كي لا يتحول دجلة والفرات من مصدر للحياة إلى بؤرة للأمراض والموت البطيء.


