من مياه بلا حساب إلى حصة الفرد.. العراق على حافة العطش: مشروع تقنين المياه يصطدم بجفاف مستدام وخزين لا يكفي سوى 2%
انفوبلس/..
لم يعد الحديث عن شح المياه في العراق مجرد تحذير موسمي أو توصيف عابر لأزمة طارئة، بل تحول إلى ملف سيادي ثقيل، تتقاطع فيه السياسة مع المناخ، والإدارة مع الجغرافيا، والحقوق المائية مع بقاء المدن والقرى على قيد الحياة. وفي ظل هذا المشهد القاتم، تستعد الحكومة العراقية لاعتماد مشروع “حصة الفرد من المياه” كخطوة غير مسبوقة لإدارة الاستهلاك، بعد سنوات طويلة من الفوضى والهدر والتعامل مع المياه بوصفها مورداً لا ينضب.
المشروع، الذي أنهى مرحلته التجريبية في بغداد وثلاث محافظات أخرى هي كركوك وأربيل وذي قار، يأتي في توقيت بالغ الحساسية، إذ يتزامن مع تحول الجفاف من حالة طارئة إلى واقع شبه دائم، ومع تراجع حاد في الإيرادات المائية من دجلة والفرات، وانخفاض الخزين إلى مستويات وصفتها جهات بيئية بأنها “الأدنى في تاريخ العراق الحديث”.
وزارة الإعمار والإسكان، وعبر مدير عام مديرية الماء عمار المالكي، أكدت أن اللجنة الرئيسة المشرفة على المشروع استكملت جميع الأعمال التجريبية، وأنها باتت تمتلك بيانات تفصيلية حول الاستهلاك الفعلي للفرد، وفق طبيعة كل محافظة وكثافتها السكانية وأنماط العيش فيها. ووفق المالكي، فإن الهدف لا يقتصر على وضع أرقام نظرية، بل يتعداه إلى “إعادة صياغة علاقة المواطن بالمياه”، عبر تقليل الهدر وتشجيع الاستخدام الأمثل لمورد بات مهدداً بالنضوب.
حاجة تفوق الـ100 مليار
لكن خلف اللغة الرسمية الهادئة، تختبئ حقيقة أكثر قسوة. فالعراق، بحسب مرصد “العراق الأخضر” البيئي، يحتاج اليوم إلى أكثر من 100 مليار متر مكعب من المياه فقط لإعادة الخزين إلى وضعه الطبيعي، بعد سنوات من الجفاف المتواصل وانخفاض المناسيب في دجلة والفرات، وتدهور نوعية المياه، وارتفاع اللسان الملحي في شط العرب، وجفاف مساحات واسعة من الأهوار والمناطق الزراعية.
هذه الأرقام تضع مشروع “حصة الفرد” في سياق أشمل وأخطر: هل هو خطوة إنقاذ حقيقية أم إجراء اضطراري لإدارة الندرة، تمهيداً لمرحلة أشد قسوة؟
أمطار لم تغير الواقع
الأمطار التي هطلت مؤخراً على المدن العراقية، رغم غزارتها في بعض المناطق، لم تغيّر الصورة العامة كثيراً. وزارة الموارد المائية وصفتها بأنها “فرصة” لتعزيز الخزين، وأعلنت أن السدود اكتسبت أكثر من 700 مليون متر مكعب، وأن بحيرة الثرثار تغذت بأكثر من 200 مليون متر مكعب بعد انقطاع دام مواسم عدة. كما تحدثت عن دعم الأهوار، وتحسين بيئة شط العرب، ودفع اللسان الملحي، وتأمين الاحتياجات المائية للموسم الزراعي الشتوي.
غير أن مرصد “العراق الأخضر” قدّم رواية مختلفة تماماً. فبحسب تقديراته، لم ترفع هذه الموجات المطرية الخزين المائي سوى بنسبة تتراوح بين 1 و2% فقط، وهي نسبة ضئيلة للغاية قياساً بحجم العجز المتراكم. ويؤكد المرصد أن العراق بحاجة إلى موجات مطرية وسيول متكررة وممتدة زمنياً، كتلك التي شهدتها بعض المحافظات قبل أيام، من أجل إحداث فرق حقيقي في منسوب النهرين والخزانات.
الأخطر في تقرير المرصد هو التحذير من أن الأزمة قد تصل في الصيف المقبل إلى مياه الشرب نفسها، مع احتمال أن تكون بغداد ضمن المحافظات المتأثرة، وهو سيناريو كان يُعدّ قبل سنوات ضرباً من المبالغة، لكنه بات اليوم مطروحاً بجدية على طاولات الخبراء.
محاولة لإدارة الانحدار
في هذا السياق، يبدو مشروع “حصة الفرد من المياه” محاولة لإدارة الانحدار، لا لإيقافه. فالتوصيات التي أعدّتها اللجنة المشرفة، والتي ستُرفع إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء للمصادقة عليها، تتضمن تحديد الاحتياج الفعلي للفرد، وربط التوزيع بأنماط الاستهلاك، واعتماد معايير فنية وإحصائية “عادلة ومعتمدة عالمياً”، وفق وصف وزارة الإعمار.
لكن التحدي الحقيقي لا يكمن في وضع الأرقام، بل في تطبيقها. فالمجتمع العراقي، الذي اعتاد لعقود على وفرة نسبية في المياه داخل المدن، قد يواجه صدمة اجتماعية واقتصادية عند الانتقال إلى نظام التقنين الفردي، خصوصاً في ظل ضعف البنية التحتية، وتهالك الشبكات، واستمرار التسربات التي تهدر كميات هائلة من المياه قبل وصولها إلى المنازل.
وإلى جانب الإدارة الداخلية، يقف العامل الخارجي كأحد أخطر أسباب الأزمة. فالعراق يعاني من سياسات مائية لدول المنبع، ولا سيما تركيا وإيران، عبر بناء السدود وتحويل مسارات الأنهار، ما أدى إلى تراجع كبير في كميات المياه الواردة، دون اتفاقات ملزمة تضمن حقوق العراق التاريخية. هذا الواقع، مع التغير المناخي وارتفاع درجات الحرارة وتقلّص مواسم الأمطار، وضع البلاد في خانة الدول الأكثر تضرراً من الأزمة المناخية عالمياً.
العراق.. أكثر الدول هشاشة
تقارير الأمم المتحدة تصنّف العراق ضمن أكثر خمس دول هشاشة أمام التغير المناخي، فيما حذّر البنك الدولي من “تحدٍ مناخي طارئ” يواجه البلاد، داعياً إلى التحول نحو نموذج تنموي أكثر اخضراراً وتنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على الكربون.
ووفق البنك، فإن العراق سيحتاج بحلول عام 2040 إلى استثمارات تقدر بـ233 مليار دولار لمواجهة حاجاته التنموية والمناخية، أي ما يعادل 6% من ناتجه المحلي سنوياً.
على الأرض، تبدو آثار هذه الأزمة واضحة. فقد أعلن المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان أن العراق خسر نحو 30% من أراضيه الزراعية المنتجة خلال العقود الثلاثة الماضية بسبب التغيرات المناخية وشح المياه، ما يهدد الأمن الغذائي ويزيد من معدلات الهجرة الداخلية والفقر في المناطق الريفية.
كل هذه المعطيات تجعل من مشروع “حصة الفرد من المياه” أكثر من مجرد إجراء إداري. إنه اعتراف رسمي بأن مرحلة “المياه المفتوحة” انتهت، وأن العراق دخل فعلياً عصر الندرة. لكنه في الوقت نفسه اختبار لقدرة الدولة على إدارة أزمة مركبة، تتطلب إصلاح الشبكات، وتغيير الثقافة الاستهلاكية، وتعزيز الدبلوماسية المائية، والاستثمار في مصادر بديلة، من التحلية إلى إعادة الاستخدام.
في المحصلة، قد يكون تقنين المياه خطوة ضرورية، لكنها وحدها لا تكفي. فبدون رؤية شاملة تعالج جذور الأزمة، سيبقى العراق يدور في حلقة مفرغة: أمطار لا تكفي، خزانات تُفرّغ بسرعة، صيف يشتد قسوة، ومواطن يُطلب منه أن يقتسم ما تبقى من مورد كان يوماً شريان الحضارة في وادي الرافدين.
