نهر دجلة يحتضر.. عراقيون يروون معاناتهم على ضفاف العطش
انفوبلس/..
آثار التغير المناخي يراها العراقيون في نهر دجلة جفافاً، بعدما روى جنة عدن وسومر وبابل عبر التاريخ. هو الآن يحتضر عطشاً، في بلد يبلغ عدد سكانه 42 مليوناً.
جفاف النهر أجبر السكان على تغيير أسلوب حياتهم، فالنهر الذي تبدأ رحلته داخل الأراضي العراقية من جبال كردستان عند تقاطع العراق وسورية وتركيا، حيث يكسب السكان لقمة عيشهم من خلال زراعة البطاطا وتربية الأغنام، أصبحت حياتهم ومصادر دخلهم مهددة.
"حياتنا تعتمد على دجلة. عملنا وزراعتنا يعتمدان عليه"، قالها حسن دولماسا (41 عاماً)، المتحدّر من قرية زراعية في منطقة فيشخابور، قرب الحدود السورية والتركية، مشيراً إلى أن "المياه تتناقص يوماً بعد يوم. من قبل، كانت المياه تتدفق في سيول".
قلق دولماسا، الذي رصدته "فرانس برس" خلال رحلة تتبعها الجفاف على ضفاف نهر دجلة من المنبع العراقي في الشمال إلى البحر في الجنوب، سبق وحذرت الأمم المتحدة وعدة منظمات حكومية من تبعاته، في يونيو/حزيران الماضي، مشيرة إلى أن ندرة المياه والتحديات التي تواجه الزراعة المستدامة والأمن الغذائي، هي من "الدوافع الرئيسة للهجرة من الأرياف إلى المناطق الحضرية".
ووفقاً لتقرير المنظمة الدولية للهجرة المنشور في أغسطس/آب الماضي، فإن أكثر من 3300 أسرة نزحت بسبب "العوامل المناخية"، في عشر مقاطعات من وسط البلاد وجنوبها، وذلك بحلول نهاية مارس/آذار 2022.
في محاولة لطمأنة المواطنين، قال مدير مركز إنعاش الأهوار والأراضي الرطبة في وزارة الموارد المائية حسين علي الكناني، إن الوزارة باشرت بتنفيذ خطة للحيلولة دون هجرة سكان الأهوار المحليين لا سيما الصيادين ومربي المواشي والجاموس، مبيناً أن "الخطة تسعى للحفاظ على الثروة الحيوانية التي تراجعت للأسف بسبب الجفاف".
ثلاثية الهجرة على نهر دجلة: لا ماء لا حصاد لا استقرار
"لم يتبقَّ سوى تجمعات صغيرة من المياه في مجرى نهر ديالى هي كل ما تبقى من رافد نهر دجلة في وسط العراق"، رصدها مصور "فرانس برس"، تصاحبها شكوى المزارع أبو مهدي (42 عاماً): "سنضطر إلى التخلي عن الزراعة وبيع ماشيتنا ونرى أين يمكننا أن نذهب".
أصبحت الزراعة غير ممكنة في محافظة ديالى، وبسبب الجفاف لن يكون هناك حصاد، إذ خفضت السلطات هذا العام المساحات المزروعة في كل أنحاء البلاد إلى النصف. ونظراً إلى أن لا مياه كافية في ديالى، فلن يكون هناك حصاد.
العراق أصبح اليوم واحداً من أكثر خمسة بلدان في العالم عرضة لعواقب تغيّر المناخ، بحسب الأمم المتحدة
أبو مهدي، الذي شردته الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينيات، يستذكر تلك الأيام مرة أخرى قائلاً: "الآن سنهاجر بسبب المياه. بدون الماء سنصبح نازحين، ولا يمكننا مطلقاً العيش في هذه المناطق"، مشيراً إلى بئر استدان وحفرها حتى عمق 30 متراً لكنه فشل في استخراج الماء منها، موضحاً أن المياه المالحة لا يمكن حتى استخدامها في الري أو للحيوانات.
هذا الصيف، كان منسوب نهر دجلة منخفضاً في بغداد لدرجة أن "فرانس برس" صوّرت شباناً يلعبون الكرة الطائرة في وسط النهر. وكانت المياه تصل بالكاد إلى مستوى خصورهم.
وتردّ وزارة الموارد المائية ذلك إلى "الرواسب الرملية"، التي لم تعد تنصرف باتجاه الجنوب بسبب نقص تدفّق المياه، فتراكمت في قاع دجلة ما أدى إلى صعوبة تدفق مياه النهر، وحتى وقت قريب كانت الحكومة ترسل آلات لشفط الرمال الراكدة في قاع النهر، لكن بسبب نقص الموارد، توقّفت غالبية المضخات عن العمل.
وتقول الناشطة البيئية هاجر هادي (28 عاماً)، إن هناك "قلة إدراك" لحجم المشكلة من جانب الحكومة والسكان، علماً أن "العراقيين يشعرون بالتغيرات المناخية التي تترجم بارتفاع درجات الحرارة وانخفاض منسوب المياه وتراجع هطول الأمطار والعواصف الترابية".
نهاية الرحلة.. تربة مالحة
المحطة الأخيرة لرحلة "فرانس برس" مع نهر دجلة كانت في رأس البيشة. هناك، على حدود العراق وإيران والكويت، يتدفق شط العرب إلى الخليج.
"انتهى نهرا دجلة والفرات. لا توجد مياه عذبة، لم تعد هناك حياة. النهر مياهه مالحة"، يقولها الملا عادل الراشد، وهو مزارع نخيل يبلغ من العمر 65 عاماً، ويضيف مشيراً إلى أشجار النخيل: "انظروا إنها عطشى. تحتاج إلى الماء. هل أرويها بالكوب؟".
ويشتري الملا عادل الراشد المياه العذبة في صهاريج حتى يتمكن من الشرب هو وحيواناته، ويقول إن الحيوانات البرية تغامر بالذهاب إلى المنازل للحصول على مياه الشرب من السكان.
ويضيف بحزن: "حكومتي لا تزودني بالمياه. أريد أن أعيش، أريد أن أزرع، كما فعل أجدادي الذين زرعوا أشجار النخيل واستفادوا من التمر".
مع انخفاض منسوب المياه العذبة، بدأت مياه البحر تغزو شط العرب. وتشير الأمم المتحدة والمزارعون بأصابع الاتهام إلى أثر تملّح المياه على التربة وانعكاساته على الزراعة والمحاصيل.
وعلى أطراف البصرة في أقصى جنوب العراق، يعود نعيم حداد، الأربعيني، حافي القدمين بقاربه إلى منزله بعد يوم من الصيد في شط العرب محملا بكيس مليء بالسمك، مشيراً إلى أن صيد السمك هو مصدر رزقه الوحيد الذي يسمح له بإعالة أسرته المكونة من ثمانية أفراد، ويقول: "نكرّس حياتنا للصيد بالتوارث"، مضيفاً: "إذا نزلت المياه، انخفض الصيد وقلّت مصادر رزقنا".
ويبلغ مستوى الملوحة في شط العرب في شمال البصرة 6800 جزء في المليون، وفق ما أفادت السلطات المحلية في مطلع أغسطس/آب. من حيث المبدأ، لا تتجاوز نسبة الملوحة في المياه العذبة ألف جزء في المليون، وفقاً لمعايير المعهد الأميركي للجيوفيزياء الذي يحدّد مستوى المياه "المتوسطة الملوحة" بين ثلاثة و10 آلاف جزء في المليون.
وأدى ذلك إلى هجرة أنواع معينة من أسماك المياه العذبة التي تحظى بشعبية كبيرة لدى الصيادين من شط العرب، ما يتسبب في ظهور أنواع أخرى تعيش عادة في أعالي البحار.