نينوى أبرز الأمثلة وأكثرها عرضة للتجاوز.. انفوبلس تفتح ملف "جمعيات الإسكان التعاونية".. فساد مركّب وتزوير كبير وآلاف الأراضي المسروقة.. تعرّف على التفاصيل
انفوبلس..
في أواخر عام 2021، أصدرت هيئة النزاهة الاتحادية إحصائية مرعبة تضمنت رصدها لـ(31.378) عقاراً تابعاً للدولة، مستولى أو متجاوزاً عليها في عموم المحافظات العراقية، وكانت لنينوى الحصة الأكبر منها بـ(8.585) عقاراً لم يُسترجع منها سوى (35) عقاراً فقط، ويُعد باب الفساد الذي تفتحه "الجمعيات التعاونية للإسكان" من أبرز أبواب الفساد في هذا الملف.
هيئة النزاهة الاتحادية أعلنت في 29 شباط الماضي، ضبط رئيس إحدى الجمعيات التعاونية في محافظة نينوى، بتهمة التجاوز على أراضٍ عائدةٍ للدولة، وبيعها للمواطنين بصورةٍ مُخالفةٍ للقانون.
وأفادت الهيئة في بيان، بـ “تأليف فريقٍ من مُديريَّة تحقيق الهيئة في مُحافظة نينوى؛ للتحرّي والتقصّي عن معلوماتٍ تلقَّتها المُديريَّة عن إقدام رئيس جمعية الحمدانيَّة التعاونيَّة للإسكان وأعضائها بالتجاوز على أراضٍ زراعيَّةٍ عائدةٍ للدولة، وقيامهم بتقطيعها وبيعها للمُواطنين”.
وأوضحت، أن “الفريق، بعد إجرائه عمليَّات التحرّي والتقصّي والتدقيق في صحَّة المعلومات وتأكُّده من صحَّتها، انتقل إلى قضاء الحمدانيَّة وتمكَّن من ضبط رئيس الجمعيَّة وأحد أعضائها؛ بتهمة الإضرار العمديّ بأموال الدولة، فضلاً عن ضبط مُستندات الجمعيَّة وصور قيود قطع الأراضي”.
ولفتت الى، أن “التحقيقات الأوليَّة التي أجراها الفريق أظهرت أنَّ المُتَّهمين كانوا يقومون بتقطيع أراضٍ زراعيَّةٍ مملوكةٍ للدولة وبيعها خلافاً للقانون، ودون استحصال الموافقات الأصوليَّة، مُوضحاً أنَّ مساحة تلك الأراضي تبلغ 572 دونماً وتُقدَّرُ قيمتها بحدود خمسة مليارات دينارٍ عراقيٍّ”.
ونوَّهت الهيئة، بـ “تنظيم محضر ضبطٍ أصوليٍّ بالعمليَّة، وعرضه بصحبة المُتَّهمين والمُستندات وصور قيود الأراضي، على قاضي التحقيق المُختصّ؛ الذي قرَّر توقيفهما على ذمَّة التحقيق؛ استناداً إلى أحكام المادة (340) من قانون العقوبات”.
وبالعودة إلى تاريخ نينوى بهذا الملف، فإن موظفين في دوائر عقارية وناشطين يتابعون ملف العقارات في نينوى يقولون، إن الإحصائية التي صدرت في الربع الأخير من عام 2021، تتعلق فقط بالأراضي التي استغلتها جمعيات الإسكان ولا تشمل في الغالب المئات من العقارات التي تضع الجماعات والأحزاب يدها عليها أو استغلتها تصرفاً بالبيع أو التأجير في مختلف أقضية ونواحي المحافظة.
وهي عقارات مختلفة الأجناس بين أراضٍ سكنية وتجارية وزراعية، ومشيدات بعضها كانت مملوكة لرموز في النظام العراقي السابق وأخرى تعود لمواطنين مهاجرين أو ملاحقين قضائياً أو مستأجرة لموظفين قاموا لاحقاً بالتصرف بها بيعاً أو إيجاراً.
ومع ذلك، فالمتابعون للملف يعدُّون تحركات هيئة النزاهة وإجراءاتها التي أُحيل بموجبها المئات من الموظفين الحكوميين، فضلا عن مواطنين إلى القضاء منذ 2019 كفيلة بوقف ما يصفونه بأكبر تجاوزات عقارية حدثت في نينوى على مدى تأريخها.
نجم عن تلك التجاوزات حسب تقارير حكومية فقدان أكثر من 9.000 عقار تابع للدولة تبلغ قيمتها مئات الملايين من الدولارات، وتعطيل شبه مستمر لدائرة التسجيل العقاري في الجانب الأيسر للموصل منذ سنة 2005 وهي الدائرة المسؤولة عن الملفات العقارية لنحو مليوني شخص يقطنون ضمن قاطع مسؤوليتها وهم من أصل أربعة ملايين نسمة يشكلون سكان محافظة نينوى.
جمعيات الإسكان واجهة للفساد
في منتصف كانون الثاني يناير 2022 كشفت دائرة التحقيقات في هيئة النزاهة بنينوى عن ضبط 1.7 مليار دينار (1.165 مليون دولار) وهو مبلغ بيع أراضٍ سكنية مملوكة للدولة تقاضاه مسؤولون في جمعية التربية الإسكانية، مع اعتقال 18 موظفاً فيها بتهمة بيع عقارات تابعة للدولة.
وبحسب الدائرة فإن فريقاً تابعاً لها اعتقل موظفي الجمعية وضبط المبلغ المالي الذي كان موجوداً في مكتب الجمعية بالجانب الأيسر من الموصل مع سندات وعقود بيع وشراء الأراضي التي قام المُتَّهمون بتقطيعها وبيعها لقاء مبالغ ماليَّةٍ خلافاً للقانون.
ولم يكد ينقضي ذات الشهر حتى أعلنت النزاهة عن اعتقال خمسة موظفين في دائرة كهرباء نينوى ينشطون في جمعية إسكان اسمها (النور) باعوا أراضي تعود ملكيتها للدولة.
هذه الإجراءات كانت امتدادات لما يماثلها في سنة 2021 إذ ضبط فريق تابع لمديرية تحقيق نينوى في مطلع العام 66 مُتَّهماً بالتجاوز على محرمات مدينة نينوى الأثرية التابعة لمديريَّة آثار نينوى في الجانب الأيسر لمدينة الموصل.
إضافةً إلى أراضٍ أخرى تقع على أكتاف نهر صغير يدعى (الخوصر) يهبط من الجهة الشمالية ليرتبط بنهر دجلة المار وسط المدينة.
مصدر في النزاهة ذكر بأن التحقيق جرى مع المتهمين استناداً لأحكام القرار(154 لسنة 2001) المتعلق بإزالة التجاوزات الواقعة على عقارات الدولة، مبيناً أن العدد الأكبر منهم كانوا قد اشتروا الأراضي من جمعيات إسكان وشيدوا عليها منازل وقسم منهم تصرفوا بها بيعاً وبعضهم أنشأ مخازن ومحلاتٍ لبيع المواد الإنشائيَّة.
المصدر الذي فضل عدم الكشف عن اسمه، أكد أن ملف بعض جمعيات الإسكان في نينوى “فتح بنحو جدي وسيجري التعامل معها بحزم، كونها استغلت أراضي مطفأة ومملوكة للدولة من خلال تقطيعها وبيعها للمواطنين خلافاً للقانون“.
حملة الاعتقالات تلك وما تبعها من تحقيقات، فرضت سؤالا عن سر ارتباط جمعيات الإسكان بعمليات التزوير والاستيلاء على أراض تعود ملكيتها للدولة، إذ يجيب عن ذلك، المحامي محمد عبد السلام مسعود، بالقول إن “الفترة التي أعقبت تحرير الموصل بالكامل من داعش صيف 2017، شهدت فوضى عارمة في مختلف المؤسسات الحكومية ومنها العقارية في ظل ضعف القانون، ما فتح الباب أمام التلاعب”.
ويوضح “كان الموظفون يعملون في مواقع بديلة في محافظات إقليم كردستان أو بغداد خلال فترة سيطرة داعش على الموصل، وعودتهم بعد تحرير المدينة استغرق وقتاً امتد حتى منتصف 2018، فاستغلت عصابات مختصة بالتزوير ذلك ولاسيما في القطاع العقاري“.
يعود المحامي مسعود، ليذكر بأن مشرفين على جمعيات اعضاؤها موظفون في دوائر حكومية كالتربية والكهرباء والصحة وغيرها، قاموا خلال تلك الفترة وبالتعاون مع موظفين في دائرة التسجيل العقاري/ الأيسر بالتلاعب بسجلات عقارية مملوك للدولة.
وهي تخص أراض كانت وزارة المالية في عهد النظام العراقي السابق قبل 2003 قد اشترتها من المواطنين ودفعت أقيامها كاملة وتم تخصيصها لتنفيذ مشاريع للبلدية أو الصحة أو التربية أو الطرق والجسور وبعضها محرمات أثرية.
قامت تلك الجمعيات بالتواصل مع أولئك المواطنين أو ورثتهم، والاتفاق معهم على إعادتها بأسمائهم من خلال تزوير أوراقها في التسجيل العقاري مقابل اتفاقات مالية، ومن ثم تقطيع تلك الأراضي وبيعها لموظفي الجمعيات أو للمواطنين بمبالغ فلكية.
يقول أحد أصحاب المكاتب “كان كل شيء مُعَدَّاً بنحو بدا قانونيا من قبل المزورين والمبالغ المقدمة مغرية لا يمكن رفضها“.
المخالفات التي تقوم بها بعض الجمعيات تتعلق بجنس الأرض الذي تتعامل معه، فالأراضي في مجملها بنينوى زراعية وتم تقطيعها دون تغيير جنسها إلى سكنية (يحظر القانون العراقي تغيير جنس العقار من زراعي الى سكني في الوقت الراهن، ولما كانت الأراضي الزراعية مملوكة للدولة-وزارة المالية وحقوق التصرف لواضع اليد او المستغل. فان بيعها بعد تقطيعها يعد مخالفة قانونية).
موظفٌ سابق في دائرة التسجيل العقاري الأيسر، ضرب مثالاً للتجاوزات التي تحدث في الموصل على الأملاك العقارية العامة وهي القطعة ٢٧١/٢ رقم المقاطعة (٤٠ نينوى الشرقية) في الجانب الأيسر لمدينة الموصل قريباً من الجزء الغربي لسور نينوى الأثري، قال بأنها كانت مسجلة باسم وزارة المالية فتم نقل ملكيتها بالتزوير إلى ملكية جمعية اسمها الحدباء.
مساحة القطعة (8) دونم، و(8) أولك، و(81) متراً، وبموجب التشريعات العراقية فإن مساحة الدونم الزراعي هي (2500 متر مربع)، و(أولك) وحدة قياس لكل (100 مربع)، لهذا فإن مساحة الأرض التي تحدث عنها الموظف العقاري السابق هي ( 10881 متراً مربعاً).
تقدر قيمة القطعة تقريباً بنحو 10 مليارات دينار أي ما يعادل (6858238.4) دولار.
ولمعرفة كيف تعامل القضاء مع هذه القضية وسواها، كشف مصدر مطلع في محاكم استئناف منطقة نينوى الاتحادية بأن محكمة الجنايات أصدرت العديد من الأحكام القضائية التي تراوحت بين الحبس والسجن لمدد وصل مجموعها للبعض إلى 20 سنة، بحق موظفين في دائرة التسجيل العقاري بينهم مديران ومعاون ورؤساء جمعيات إسكان وسماسرة عقارات وموظفون في بلدية الموصل وديوان محافظة نينوى.
ولفت إلى دعوى متعلقة بقطعة أرض كانت مسجلة باسم بلدية الموصل رقمها (5422/6) مقاطعة 37 في منطقة “جديدة المفتي” قامت سيدة تدعى نجاة حسين خليف الجبوري بالتعاون مع موظفين في التسجيل العقاري بتزوير أوراقها ونقل ملكيتها إلى اسم جمعية إسكان “الحدباء التعاونية”.
حُكم على الجبوري بالسجن لعشر سنوات وقد يمدد الحكم بسبب دعاوى أخرى ضدها لتورطها بتزوير عقارات لصالح جمعيتها (أم الربيعين للإسكان) وجمعيات أخرى بمشاركة موظفين وسماسرة عقارات وملاك سابقين للعقارات المطفأة والمملوكة للدولة.
والقيمة المقدرة لهذه الأرض بحسب سمسار العقارات عبد الهادي رجب يعقوب هي بين 10 الى 15 مليون دولار، ويشير إلى أن الجمعية تقوم بتقطيعها وبيعها بأسعار تتراوح للقطعة بين 25 مليون دينار عراقية إلى 50 مليون بحسب مساحتها وموقعها.
ويقول السمسار “ربح الجمعيات التي يفترض أنها تعاونية خيالي، وكل هذا دون رقيب أو حسيب مادام الشركاء متنفذون في الحكومة المحلية وغيرها”..
مصدر في محكمة استئناف نينوى، أكد المعلومات حول الطريقة التي اتبعتها رئيسة جمعية أم الربيعين للإسكان نجاة الجبوري وشركاؤها في الاستحواذ على عقارات الدولة، وذلك من خلال الاتصال بعائلات كانت تملك أراضي اشترتها منهم الدولة في زمن النظام السابق قبل 2003 وخصصتها لتنفيذ مشاريع ذات نفع عام، ليقوموا بمساعدة موظفين في التسجيل العقاري برفع اشارات الإطفاء عنها، وكل ما يثبت نقل ملكيتها لدوائر كالبلدية على سبيل المثال وإعادة ترتيب أوراق العقار كأنه ما زال في ملكية تلك العائلات ليقوموا بشرائها منهم وبيعها قطعاً سكنية عبر جمعيتها “أم الربيعين”، وجمعية تعاونية أخرى اسمها “الحدباء”.
وأشار المصدر، إلى أن واحدة أخرى من الدعاوى المتعلقة بهذا الشأن كانت ضد رئيس الاتحاد التعاوني في نينوى نايف خضر الجرجري الذي حوكم بالسجن لثمانِ سنوات مداناً بتزويره أوراقاً رسمية لأرض مساحتها 800 متر تعود لبلدية الموصل وسجلها باسمه.
وفي هذا الصدد، أصدرت محكمة جنايات نينوى- الهيئة الأولى بياناً في 30 آب أغسطس 2021 بشأن دعوى جزائية نظرت فيها ورقمها 542/ج1 /2021. وحكمت بموجبها على موظف في هيئة التدقيق بدائرة التسجيل العقاري- الأيسر يدعى محمد جمعة حسن علي بالسجن لمدة 10 سنوات وغرامة مالية قدرها سبعة ملايين دينار (4795 دولار) وإضافةِ ثلاثة سنوات إلى حكمه الأصلي في حال لم يقم بسداد الغرامة.
وذكر البيان أن الحكم صدر عن جريمة أخذ المدان مبالغ مالية لقاء قيامه بتسهيل معاملة نقل ملكية العقار موضوع الدعوى من اسم شخص متوفي بموجب وكالات مزورة دون علم ذوي المتوفى وتسجيله باسم احد المتهمين الهاربين.
وأضاف البيان، أن حكماً آخر صدر في ذات الدعوى ضد معاونة مدير دائرة التسجيل العقاري- الأيسر، وتدعى مروة سالم متعب خليل بالحبس الشديد لمدة اربع سنوات وفقآ لإحكام المادة 340 من قانون العقوبات العراقي، وذلك لقيامها عمداً بالموافقة على فتح بيان لمعاملة نقل ملكية العقار في ضوء وكالة مرورية مزورة والسير بإجراءات التحويل والتسجيل بموجب وكالة عامة مزورة خلافاً لإحكام القانون مع علمها بذلك.
هذان الحكمان يضافان إلى سلسة أحكام أخرى صدرت ضد موظفي التسجيل العقاري- الأيسر أحدها في 7 تموز يوليو 2021 بسجن معاون سابق للتسجيل العقاري لعشر سنوات.
واحد من المتعاملين مع جمعية أم الربيعين للإسكان، قال أنه تأكد شخصياً من الأوراق الرسمية للأرض التي خصصتها الجمعية للتقطيع السكني، قبل أن يقدم على شراء قطعة بـمساحة 200 متر مربع، ثم قامت النزاهة بوقف أعمال البناء تمهيداً لاسترجاع الأرض التي اتضح أنها مملوكة للدولة وإزالة المشيدات السكنية المقامة عليها.
وأضاف أن “أصحاب جمعيات الإسكان لديهم موافقات من دوائر التخطيط والبلدية والتسجيل العقاري والآثار والتراث والمحافظة، كيف تجاوزوا كل هذه الدوائر ومن ثم قطعوا الأرض وأعلنوا عن بيعها.. أين كانت أجهزة الدولة، ولماذا علينا نحن المواطنين أن ندفع الثمن لوحدنا؟”. وأضاف “لقد تبخرت الـ 25 مليون دينار التي دفعتها”.