20 عاما على اغتيال البرازيلي سيرجيو دي ميلو.. أحبَّ العراق واستقبله السيد السيستاني وقتلته أمريكا
انفوبلس/ تقرير
في التاسع عشر من شهر آب/ أغسطس عام 2003، قُتِل البرازيلي سيرجيو فييَرا دي ميلو، مبعوث الأمم المتحدة في بغداد، بعد أشهر قليلة على سيطرة الولايات المتحدة الأميركية على العراق، في حربها الخليجية الثانية (20 مارس/ آذار ـ 1 مايو/ أيار 2003)، والتي تشير المعطيات الى أن الحاكم الأميركي المدني في العراق بول بريمر وراء هذه الحادثة، لعلاقته "الوطيدة" بالمرجع الديني الأعلى السيد علي السيستاني ومخالفة أوامره آنذاك.
وفي هذا اليوم، قاد انتحاري شاحنة محمّلة بالمتفجرات نحو فندق "القناة" شرق بغداد، حيث كانت تستقر بعثة الأمم المتحدة، ليفجرها ويقتل 22 شخصاً وجرح 150 آخرين، من بينهم البرازيلي سيرجيو دي ميلو، رئيس الفريق الدولي في العراق آنذاك.
والملاحظ أن سيرجيو كان يعارض الغزو الأمريكي للعراق، ورفض مرارا تعيينه كمبعوث خاص للأمم المتحدةْ، إلى أن رضخ أخيرا إثر ضغوط من الأمين العام آنذاك، كوفي عنان، والرئيس الأمريكي جورج بوش، غير أنه حافظ على موقفه في انتقاد السياسات الأمريكية في العراق، وأصرّ على إظهار أن المنظمة الأممية ليست جزءا من تلك السياسيات، وخاض حوارات مطولة مع بول بريمر، الذي كان بمثابة الحاكم الأمريكي للعراق، آنذاك، في أعقاب الحرب.
وسرعان ما غرق الحادث "المأساوي" في تناقضات اللاعبين الفاعلين في المشهد العراقي، فتنظيم القاعدة الإرهابي الذي كان يقوده أبو مصعب الزرقاوي أعلن أن دي ميلو كان المستهدف من العملية الانتحارية، على الرغم من أنه كان منخرطاً في محاربة القوات الأميركية. وبالتوازي، كان الحاكم الأميركي المدني في العراق بول بريمر قد استخدم تعزية دي ميلو لنعي التجربة العراقية قبل أن تبدأ: "لا أرى أن العراق مستعد ليحكم نفسه".
وبعد الحادثة، بعث السيد السيستاني برقية تعزية الى الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان آنذاك، على إثر مقتل مبعوثه الخاص في بغداد سيرجيو فييرا دي ميلو. وقال مسؤول في الامم المتحدة لوكالة فرانس برس، إن السيستاني أشاد في الرسالة بـ"الصفات الانسانية التي كان يتحلى بها سيرجيو فييرا دي ميلو وبعمل الامم المتحدة".
وكان سيرجيو فييرا دي ميلو من الاجانب "النادرين" الذين التقوا بالسيد السيستاني في مدينة النجف.
واختارت الأمم المتحدة يوم الهجوم الانتحاري، وضحيته دي ميلو، يوماً عالمياً للعمل الإنساني، في لفتة رمزية لتحفيز عمال الإغاثة حول العالم لمواصلة مهماهم في مناطق النزاع، في مناطق يٌحتمل فيها تكرار سيناريو بغداد عام 2003.
*فيلم يتهم أميركا بقتل "سيرجيو" مبعوث الأمم المتحدة إلى بغداد
عن سيناريو لـ كريغ بورتن، اقتبسه عن كتاب CHASING THE FLAME ONE MAN S FIGHT TO SAVE THE WORLD للكاتبة الإيرلندية سامانتا باور (50 عاماً)، صوّر المخرج الأميركي غريغ باركر شريطاً بعنوان SERGIO عن سيرة الدبلوماسي البرازيلي سيرجيو دي ميلو.
رصد الفيلم في ساعتين إلا دقيقتين ذكاء ونباهة وصدق وفعالية وجرأة هذا الرجل في كل المهمات التي كٌلّف بها في العالم ما بين كمبوديا (أيام الخمير الحمر) وتيمور الشرقية (التي انتزعت استقلالها من إندونيسيا)، وصولاً إلى المهمة التي كلّفه بها أمين عام الأمم المتحدة كوفي عنان عام 2003 في بغداد للوقوف على احتياجات العراقيين بعد الغزو الأميركي للعراق.
لم ترُق أفكار سيرجيو، للحاكم الأميركي بول بريمر (جسّد دوره برادلي وايتفورد)، وفيما طلب الرجل انسحاب الجنود الأميركيين من مبنى جوار مقر الأمم المتحدة في بغداد، وأعدّ تقريراً أعلم به بريمر عن قوات الاحتلال الأميركي بكامل التفاصيل ومعلومات دقيقة عن السجون والتعذيب وكل التجاوزات، وجد نفسه مع كامل الموظفين تحت أنقاض المبنى في تفجير أعلن مسؤوليته عنه أبو مصعب الزرقاوي زعيم تنظيم القاعدة في العراق، والذي أُعلن عن مصرعه بعد وقت قصير من التفجير.
الفيلم يقدّم صورة مثالية عن سيرجيو، فهو لا يهتم بالمخاوف ولا تعنيه المخاطر طالما أنه ينفذ قناعاته، وعندما التقاه بريمر أبلغه أنه لا يعمل بإمرته، وأن واجبه يقضي بالتحضير لانتخابات نيابية حرة في البلاد، فطلب منه بريمر الاهتمام بأمور أخرى، واستغرب كيف أن المرجع الديني الأعلى السيد علي السيستاني وافق على استقبال سيرجيو في مكتبه بينما هو لا يرد على اتصال بريمر المتكرر به، وكان رد سيرجيو بأنه تابع لـ عنان، وليس للإدارة الأميركية.
من هنا تبدلت اللهجة بين الطرفين وشعر مساعدو سيرجيو بالرعب من نتائج جرأته الزائدة في التحدث مع بريمر، وكانوا على حق، ففيما كان المبعوث الدولي يطلب من مساعده الدعوة إلى مؤتمر صحفي صباح اليوم التالي لإعلان تقريره عن توزع القوات الأميركية في العراق، دوّى انفجار مذهل حوّل المكان إلى جبل من الركام دُفِن تحته معظم العاملين والمتعاونين مع المنظمة الدولية.
سيرجيو ظل حياً لساعات يعاني من ركام ثقيل فوق رجليه واحتاج لآلات خاصة لانتشاله من تحت الأنقاض، لكن أحداً لم يستجب وظل يتواصل مع رجل واحد لم يستطع عمل شيء، وزار بريمر المكان معلناً أن الجنود يقومون بأقصى جهدهم لإنقاذ "صديقي سيرجيو" كما وصفه، وطبعاً لم يقُم بأي محاولة، وفق الفيلم.
وكما يقول الفيلم، وإنه بطريقة غير مباشرة، إذ كان الدبلوماسي المحنّك سيرجيو دي ميللو يحمل همَّ إحلال السلام في الأرض، وهو ما تجلّى خلال 34 عاماً من عمله في الأمم المتحدة، قضى جلّها متنقلاً بين العديد من دول العالم ساعياً لنشر السلام فيها.
واحتاجت الأمم المتحدة 4 سنوات بعد مقتل دي ميلو، لتُقدم على توسيع بعثتها في العراق منذ عام 2007، فيما وصل الآن عدد العاملين في البعثة داخل البلاد إلى نحو 170 موظفاً دولياً، وما يزيد على 420 موظفاً وطنياً ينتشرون في جميع المحافظات الثمان عشرة.
درس البرازيلي دي ميلو الفلسفة والعلوم الإنسانية في جامعة السوربون. وخلال دراسته تلك، انضم إلى إحدى فرق الأمم المتحدة، لكنه حين حصل على الدكتوراه عام 1969 انضم لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
وعمل دي ميللو ضمن عمليات حفظ السلام في بنغلادش والسودان وقبرص وموزمبيق وبيرو، وعُيّن عام 1981 كبيراً للمستشارين السياسيين في قوات الأمم المتحدة في لبنان، وفي الفترة بين عامي 1991 و1996، عمل مبعوثاً خاصا للمفوض السامي في كمبوديا، ومديراً لإعادة التوطين في سلطة الأمم المتحدة الانتقالية فيها، كما شغل منصب رئيس الشؤون المدنية في قوة الأمم المتحدة للحماية، ومنسق الأمم المتحدة الإقليمي للشئون الإنسانية لمنطقة البحيرات الكبرى في أفريقيا.
عام 1996 تم تعيينه مساعداً لمفوض الأمم المتحدة السامي للاجئين، وبعد عامين انتقل إلى نيويورك كوكيل للأمين العام للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، كما عُين ممثلاً للأمين العام في كوسوفو، ومديراً للحكومة الانتقالية للأمم المتحدة في تيمور الشرقية، وفي عام 2002 أصبح سيرجيو فييرا دي ميللو مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان.
وبعد أقل من عام من تعيينه مفوضاً سامياً، طلب منه الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان، أن يأخذ إجازة مؤقتة من منصبه للعمل في العراق كممثل خاص له هناك، ولكن بعد ثلاثة أشهر فقط من وصوله إلى العراق، قُتل فييرا دي ميللو مع 21 من زملائه عندما تعرض مقر الأمم المتحدة للهجوم بسيارة مفخخة، وكان معروفاً في الأوساط الدولية بأنه "محنّك" و"صادق" في صناعة السلام.