200 عام من التاريخ تتحول إلى حطب: من يقطع أشجار الزيتون المعمرة في نينوى من أجل "المسكوف"؟

انفوبلس/ تقرير
فجّرت حادثة "مروعة" في ناحية بعشيقة شرقي الموصل، موجة من الغضب والاستياء في الأوساط الشعبية والرسمية في العراق، بعد أن كُشف عن قيام مزارعين بقطع جائر لأشجار الزيتون المعمرة، وبيع أخشابها لمطاعم شوي السمك "المسكوف".
هذه الظاهرة الخطيرة تهدد الغطاء النباتي وتفاقم من أزمة الجفاف والتصحر التي يعاني منها العراق، مما دفع مديرية بيئة نينوى لاتخاذ إجراءات عاجلة، وسط مطالبات بمقاطعة هذه المطاعم وتطبيق أقصى العقوبات على المخالفين.
وتنتشر زراعة أشجار الزيتون في العراق، خاصة في مناطق مثل بعشيقة والموصل، حيث تتوفر مزارع زيتون واسعة النطاق. تُعرف بعشيقة بـ "مدينة الزيتون" وتشتهر بإنتاجها الغزير من الزيتون الذي يستخدم في صناعة الزيت والصابون والمخللات. كما تزرع أشجار الزيتون في مناطق أخرى مثل دهوك، حيث تشهد زراعة الزيتون تزايداً ملحوظاً بفضل المناخ والتربة الملائمة.
البداية
بدأت القضية بعد أن وثّق أحد المواطنين في نينوى مقطع فيديو نشره على مواقع التواصل الاجتماعي، يظهر فيه بساتين زيتون تعرضت أشجارها لقطع عشوائي وجائر، وبيع خشبها لمطاعم شوي السمك "المسكوف" الشهير. أثار هذا المقطع ردود فعل غاضبة وواسعة، وصل الأمر ببعض الناشطين إلى الدعوة لمقاطعة مطاعم المسكوف كوسيلة ضغط لحماية البيئة.
ويَلقى شوي السمك بتلك الطريقة العراقية المعروفة إقبالاً واسعاً من العراقيين، لكن أحد السكان في محافظة نينوى شمالي العراق، قرر التقدم بشكوى ضد مطاعم السمك ومزارعي الزيتون بسبب ممارسات تهدد البيئة.
وبناءً على هذا البلاغ، تحركت مديرية بيئة نينوى على الفور، حيث صرح مديرها سنان صبحي علي أن فرق المديرية أوقفت عمليات القطع في منطقة الفاضلية بناحية بعشيقة. وأكد أن فريقًا من شعبة النظم البيئية الطبيعية، بالتعاون مع شعبة زراعة بعشيقة ومختار المنطقة، أجرى كشفًا ميدانيًا ورصد تجاوزات واضحة على بساتين الزيتون.
زيتون بعشيقة يعتبر من أجود أصناف الزيتون في العراق، خصوصاً لاستخراج زيت الزيتون، ويمكن حفظه لأكثر من سبع سنين في الماء والملح دون أن يفسد.
بعشيقة هي ناحية تابعة لقضاء الموصل بمحافظة نينوى، وتقع على بعد 12 كيلومتر شمال شرق مدينة الموصل. أغلب سكان منطقة بعشيقة البالغ تعدادهم 140 ألف نسمة هم من الشبك، المسيحيين، الايزيديين، من الكورد والعرب وهي أكبر نواحي نينوى من حيث التعداد السكاني، وتشتهر بعشيقة بزراعة الزيتون التي تعتبر من أهم مصادر الدخل لقاطنيها.
وتشير إحصائية الى وجود 121 بستان زيتون في بعشيقة تضم 45 ألف و320 شجرة زيتون، حيث يوجد 80 بستان زيتون تضم 25 ألفا و750 شجرة في منطقة البحزاني التابعة لناحية بعشيقة، وتنتج الشجرة الواحدة قرابة 60 كيلوغراماً من الزيتون في العام الواحد.
تفاصيل صادمة: 150 سيارة حطب من بستان واحد
وكشفت وسائل إعلام محلية، نقلًا عن ناشطين بيئيين، أن أحد المزارعين في بعشيقة قام بتجريف بستان زيتون بالكامل، يقدر عدد أشجاره بأكثر من 200 شجرة معمرة مزروعة على مساحة دونمين. ووفقًا لأحد الناشطين، فإن صاحب البستان تعمد قطع المياه عن الأشجار لتجفيفها تمامًا قبل قطعها، بهدف بيع الخشب. وتُقدّر كمية الأخشاب المقطوعة بحمولة 150 سيارة نقل حطب، بيعت لأحد مطاعم السمك في المدينة، والذي أعلن بنفسه عن شرائه لهذه الكمية.
إجراءات قانونية وعقوبات متوقعة
أكد سنان صبحي، أن المديرية اتخذت إجراءات قانونية فورية، من بينها استحصال تعهدات خطية من المزارعين المخالفين بعدم تكرار هذه التصرفات التي تُعد "مخالفة صريحة للضوابط البيئية وتشكل تهديدًا للغطاء النباتي". وأضاف أن المديرية قدمت تقريرًا مفصلًا إلى محافظ نينوى، عبد القادر الدخيل، بانتظار اتخاذ الإجراءات اللازمة.
من جانبه، أشار أنس الطائي، مسؤول فريق تشجير، إلى أن العقوبة قد تصل إلى فرض غرامة تقدر بـ مليون دينار عراقي عن كل شجرة مقطوعة، بالإضافة إلى الحكم بالسجن لمدة سنة مع وقف التنفيذ. كما أوضح أن صاحب البستان يسعى إلى بناء مخزن على الأرض الزراعية المجرفة، وهو ما يمثل مخالفة قانونية أخرى.
الخطر على البيئة العراقية
تأتي هذه الحادثة في وقت يعاني فيه العراق من موجة جفاف غير مسبوقة، وتصنيفه ضمن أكثر دول العالم تأثرًا بالتغير المناخي. وتُشير التجاوزات على أشجار الزيتون، التي تعتبر من أهم الأشجار المعمرة المقاومة للجفاف، إلى خطورة الممارسات التي تهدد ما تبقى من غطاء نباتي.
وأكد سنان صبحي على أهمية الدور الرقابي للمديرية وحرصها على حماية الموارد الطبيعية، داعيًا المواطنين إلى "التعاون والإبلاغ عن أي تجاوزات بيئية تهدد استدامة المساحات الخضراء في نينوى".
وهذا يأتي في وقت أعلنت فيه وزارة الزراعة، الأسبوع الماضي، بدء تنفيذ برنامج لزيادة أشجار الفواكه والزيتون، وأصناف نخيل عالية الإنتاجية في عموم العراق. إذ قال وكيل الوزارة مهدي سهر، إن وزارته "تنفذ أهدافها الإرشادية والبحثية والخدمية من خلال دوائرها ومديريات الزراعة في المحافظات، لا سيما فيما يتعلق بإكثار النخيل ونشر الأصناف ذات الإنتاجية العالية".
وأوضح أن "دائرة البستنة تقوم عبر مزرعة الزعفرانية ومحطة نخيل الزعفرانية والمعمل الإرشادي للتمور، بتنفيذ برامج الإكثار، إلى جانب المحطات والمزارع المنتشرة في عموم المحافظات، والتي تهتم بأصناف النخيل والفواكه وأشجار الزيتون".
وأضاف أن "مزرعة الزعفرانية تعد إحدى المحطات الأساسية التابعة لدائرة البستنة، وتهدف إلى إكثار أصناف النخيل المختلفة وتنفيذ الخطط الزراعية المتنوعة ضمن البرنامج الوطني لإكثار أنواع اشجار الفاكهة والزيتون". وأكد سهر أن "المحطة تسهم في نشر أفضل الأصناف ذات الإنتاجية العالية والملائمة للبيئة العراقية، ويتم توزيعها على المزارعين بأسعار مدعومة".
وتُعد ظاهرة القطع الجائر لأشجار الزيتون في نينوى، لبيع أخشابها لمطاعم شوي السمك، مشكلة خطيرة ذات تداعيات بيئية واقتصادية واجتماعية كبيرة. هذه الظاهرة لا تقتصر على خسارة عدد من الأشجار، بل إن لها آثارًا سلبية واسعة النطاق:
يُعتبر العراق من أكثر الدول تأثرًا بالتغير المناخي والجفاف، وقطع الأشجار المعمرة مثل الزيتون يُسرّع من هذه الأزمة. فالأشجار تلعب دورًا حيويًا في:
مكافحة التصحر: تساهم جذورها في تثبيت التربة ومنع انجرافها.
تلطيف الأجواء: تقلل من درجات الحرارة وتساعد على زيادة الرطوبة.
الحفاظ على التنوع البيولوجي: توفر موطنًا للعديد من الكائنات الحية.
وقطع هذه الأشجار يعني خسارة هذه الفوائد البيئية، مما يجعل المناطق أكثر عرضة للجفاف والتصحر، بحسب خبراء تحدثوا لشبكة "انفوبلس".
بالإضافة إلى الأضرار البيئية، فإن قطع أشجار الزيتون يتسبب في خسائر اقتصادية مباشرة وغير مباشرة. ومنها:
-خسارة مصدر دخل: يُعد الزيتون مصدرًا رئيسيًا للدخل للعديد من المزارعين، سواء من خلال بيع الثمار أو زيت الزيتون.
-أضرار على سمعة القطاع الزراعي: هذه الممارسات تؤثر سلبًا على سمعة المنتجات الزراعية العراقية.
-تكلفة إعادة التأهيل: ستكون هناك تكاليف باهظة لإعادة تأهيل هذه الأراضي وزراعة أشجار جديدة، وهو أمر يستغرق سنوات طويلة.
كما تُعدّ الأشجار جزءًا من التراث الثقافي للمنطقة، وقطعها يمثل خسارة اجتماعية. وأبرزها:
تأثير نفسي: يُثير هذا السلوك الغضب والاستياء في نفوس المواطنين، كما يتضح من ردود الفعل على مواقع التواصل الاجتماعي، ويُشير إلى تدهور القيم البيئية والمجتمعية.
ضعف الرادع القانوني: عدم وجود عقوبات رادعة وقوانين صارمة تُشجع على تكرار هذه المخالفات، وتؤثر على ثقة المواطنين بالجهات المسؤولة.
ولم تتوقف فاجعة قطع أشجار الزيتون في ناحية بعشيقة عند حدود الخسارة البيئية والاقتصادية، بل كشفت تقارير عن أن من بين الأشجار التي طالتها يد الجشع، أشجار معمرة يتجاوز عمرها الـ 200 عام.
والخلاصة.. فإن هذه الظاهرة تُظهر الحاجة الملحّة لتفعيل القوانين البيئية، وزيادة الوعي بأهمية الحفاظ على الثروة النباتية، وتشديد الرقابة على الأسواق التي تتعامل مع الأخشاب غير المشروعة.