أطفال الريف الجنوبي في المثنى يدخلون المدرسة بلا ألف باء.. إهمال حكومي يحرم الأطفال من بداية عادلة للحياة العلمية

غياب رياض الاطفال
انفوبلس/..
في عمق الريف الجنوبي لمحافظة المثنى، حيث تمتد الحقول اليابسة ويغطي الغبار طرق القرى، يبدأ الطفل حياته التعليمية في مواجهة فجائية مع الصف الأول الابتدائي، بلا أي إعداد أو خبرة سابقة. فمرحلة التعليم ما قبل الابتدائي، التي تُوصي الدراسات التربوية بأنها الركيزة الأولى لبناء شخصية الطفل وصقل مهاراته، تكاد تكون غائبة تمامًا عن المشهد في هذه القرى، لتترك جيلاً كاملاً على هامش البداية.
قرى على الهامش
في قضاء الخضر، يسرد المعلم محمد جبار الحسني تجربته اليومية مع أطفال لم يعرفوا حتى شكل الحروف قبل دخول المدرسة. يقول: “هناك أكثر من 15 قرية لا توجد فيها أي روضة حكومية، والأطفال يأتون إلينا في الصف الأول وهم لا يميزون بين الألف والباء”. ويوضح أن العائلات لا تملك خيار تسجيل أبنائها في رياض أطفال خاصة، وإن وُجدت، فهي باهظة الثمن مقارنة بدخل الأسرة التي تعتمد في الغالب على الزراعة أو العمل اليومي.
الوضع في نواحي الوركاء والسوير ليس أفضل حال؛ إذ يغيب أي مشروع حكومي لإنشاء روضات، ويترك الأهالي أمام حل وحيد هو الاعتماد على التربية المنزلية. لكن في كثير من الأحيان، تكون الأمهات غير متعلمات، أو يفتقرن إلى الوسائل اللازمة لتجهيز الطفل نفسيًا وذهنيًا للمدرسة، ما يجعل الفجوة التعليمية بين الريف والمدينة تتسع منذ السنوات الأولى.
حرمان مبكر.. أثر طويل الأمد
الاختصاصية الاجتماعية هناء العبيدي ترى أن غياب رياض الأطفال في الريف المثنّوي ليس مجرد نقص في الخدمات، بل هو حرمان من أساسيات النمو السليم. تقول: “الروضة ليست مكانًا للعب فقط، بل فضاء تربوي متكامل يساعد الطفل على تطوير لغته ومهاراته الاجتماعية والحركية”. وتضيف أن الطفل الريفي، حين يدخل المدرسة بلا خبرة مسبقة، يواجه بيئة جديدة كليًا، فيصاب بالتوتر والخوف، ويكون أقل قدرة على مجاراة أقرانه من أبناء المدن. هذا التفاوت، بحسب العبيدي، يخلق طبقية تربوية تبدأ في الطفولة ولا تمحى بسهولة.
غياب التمويل.. وغياب الرؤية
مصدر في مديرية تربية المثنى، فضل عدم الكشف عن هويته، يؤكد أن الوزارة لم تخصص منذ سنوات ميزانية لإنشاء روضات في الأرياف، وأن ما هو موجود حاليًا جاء بمبادرات فردية أو منظمات أهلية. ويشير إلى أن معظم خطط البنية التحتية التعليمية تركز على مراكز المدن، بينما تبقى القرى خارج خارطة الأولويات. “بعض المدارس الابتدائية نفسها تفتقر للبناء المستقل أو المرافق الأساسية، فكيف نتحدث عن إضافة مرحلة ما قبل الابتدائي؟” يتساءل المصدر.
ويرى أن الفجوة بين الاحتياج الفعلي والواقع تزداد عامًا بعد آخر، مع غياب مسح ميداني دقيق يحدد القرى الأكثر حاجة، وغياب برنامج حكومي واضح لمعالجة المشكلة.
مبادرات فردية لا تكفي
في قرية “آل بو رحيم”، قررت المعلمة المتقاعدة أمينة سلمان الزيادي أن تتحرك بطريقتها، فحولت غرفة في منزلها إلى صف تمهيدي خلال أشهر الصيف، تستقبل فيه عشرين طفلًا مجانًا. تقول أم عمار خضير، والدة أحد الأطفال: “كان ابني خجولاً جدًا ولا يعرف الحروف، وبعد هذه الدروس أصبح أكثر ثقة ويحب الدراسة”. لكن أمينة تعترف أن هذه المبادرة لا يمكن أن تكون بديلاً عن روضة حكومية متكاملة، فالإمكانات محدودة، ولا يوجد دعم من أي جهة رسمية.
هذه القصص تتكرر في قرى أخرى، حيث تحاول نساء متطوعات أو معلمات متقاعدات سد الفراغ، لكن هذه الجهود تبقى موسمية وغير مستدامة، ومعرضة للتوقف عند أول عقبة.
أرقام صادمة وفجوة تعليمية
إحصاءات غير رسمية تشير إلى أن أقل من 10% من أطفال الأرياف في المثنى التحقوا برياض أطفال، سواء كانت خاصة أو أهلية، وهو رقم يكشف حجم الفجوة مقارنة بالمناطق الحضرية. هذه الفجوة تنعكس مباشرة على نسب الرسوب والتسرب المدرسي في الصفوف الثلاثة الأولى، حيث يعاني الأطفال من ضعف في القراءة والكتابة وفهم الأساسيات.
الباحث التربوي عادل عبد الستار الركابي يرى أن تجاهل التعليم المبكر يضعف العملية التعليمية برمتها، ويجعل الدولة تدفع لاحقًا ثمن هذا الإهمال عبر برامج علاجية مكلفة، لا تحقق دائمًا النتائج المرجوة. يقول الركابي: “التعليم المبكر استثمار للمستقبل، وليس رفاهية. كل دينار يُصرف على هذه المرحلة يوفر أضعافه لاحقًا”.
الحلول الممكنة
المعنيون بالشأن التربوي في المثنى يقترحون حزمة حلول يمكن أن تحد من المشكلة، تبدأ بقرار سياسي من وزارة التربية لتخصيص جزء من ميزانية التعليم لبناء روضات في القرى. كما يمكن الاستفادة من المدارس الابتدائية ذات الأبنية الواسعة لتحويل قاعات فيها إلى صفوف تمهيدية، بإشراف معلمات متخصصات.
حل آخر يطرحه خبراء التنمية المحلية هو إنشاء رياض أطفال متنقلة أو مجتمعية، بدعم من منظمات دولية ومحلية، يمكن أن تصل إلى القرى الأشد فقرًا وتقدم خدماتها بشكل دوري.
هذه النماذج نجحت في بلدان أخرى تعاني من التشتت السكاني، ويمكن تكييفها لتناسب طبيعة الريف العراقي.
كما يوصي البعض بتشجيع الشراكة بين القطاع الخاص والمجتمع المحلي لإنشاء رياض أطفال برسوم رمزية، مع تقديم حوافز للمعلمات للعمل في المناطق النائية، مثل السكن المجاني أو علاوات خاصة.
حتى الآن، يبقى الطفل في ريف المثنى ضحية لسياسات لا تضع التعليم المبكر في أولوياتها. وبينما يدخل نظراؤه في المدن إلى الصف الأول وهم يجيدون مسك القلم وكتابة أسمائهم، يظل هو يخطو خطواته الأولى في عالم الحروف وسط بيئة تعليمية غير مهيأة لاستقبال طفل لم يعرف الروضة.