استعراض تاريخي دقيق .. من مشروع "ترامواي" إلى حافلات اليوم: كيف سارت بغداد على خطى الانهيار المروري؟

انفوبلس/..
في عام 1889، أطلق والي بغداد مدحت باشا مشروع “ترامواي” الأول في تاريخ العراق، حين جرّت الخيول عربات النقل بين ساحة الشهداء والكاظمية. آنذاك، كان النقل العام يمثل قفزة حضارية مقارنةً بالوسائل التقليدية من حمير وبغال وخيول. لكن، بعد أكثر من قرن، يتكرر السيناريو بأسلوب أكثر فوضوية، لتغرق بغداد، في زحام خانق مع أكثر من 4 ملايين عجلة تسير على شوارعها المتهالكة التي تستوعب بالكاد 6% من هذا العدد.
منذ عام 2013، أعلنت الحكومات المتعاقبة عن خطط طموحة لإنعاش قطاع النقل العام، بدءًا من إدخال مئات الحافلات الجديدة، إلى إطلاق مشروع “التكسي النهري”، لكن النتائج لم تتجاوز الشعارات الإعلامية والافتتاحات الشكلية. فالطرق نفسها بقيت بلا توسعة، بينما استمر المواطن في الاعتماد على سيارته الخاصة كخيار أوحد للهروب من ساعات الانتظار الخانقة في باصات مهترئة وخطوط متوقفة.
التكسي النهري.. مشروع “مغرق” بالفشل
في عام 2015، أطلقت وزارة النقل مشروع “التكسي النهري”، معلنةً عن 15 محطة انتظار وزوارق حديثة تربط شمال العاصمة بجنوبها، بتكلفة بلغت 20 مليار دينار.
الوزير حينها، باقر جبر صولاغ، ظهر في زورقٍ فاخر وسط تغطية إعلامية واسعة، لكن المشروع توقف بعد 10 أيام فقط، تحت ذرائع أمنية. الحقيقة؟ التنقل عبر النهر بين شمال وجنوب العاصمة يعني المرور عبر “المنطقة الخضراء”، المحصنة أمنياً.
وعلى مدى الأعوام التالية، تكرر الإعلان عن إحياء المشروع مع كل وزير جديد، من كاظم فنجان الحمامي إلى ناصر الشبلي ورزاق محيبس، لكن النهاية كانت دائماً إغلاقاً سريعاً. الإحصاءات تكشف أن بغداد لم تسجل ركاباً للتكسي النهري بعد 2019، إذ لم يعمل فعلياً سوى في البصرة والنجف.
باصات نصفها متوقف والركاب يتناقصون
أما حافلات النقل العام، التي كان يُفترض أن تخفف من زحمة بغداد، فقد تحولت إلى مشهد كئيب: نصفها متوقف عن العمل، والركاب يتناقصون سنوياً. منذ عام 2013، استورد العراق المئات من الباصات ضمن عقود كبرى، لكن لم يُحقق القطاع طفرة تُذكر.
بين عامي 2011 و2022، تذبذب عدد الحافلات بين 1600 و1900، لكن عدد الحافلات العاملة لم يتجاوز نصف هذا الرقم في معظم السنوات. عام 2022، كان العراق يمتلك 1211 حافلة، منها 644 فقط في الخدمة (53% من الإجمالي).
النتيجة.. أرقام الركاب تتحدث عن نفسها. في 2022، لم يتجاوز عدد ركاب النقل العام في بغداد 4400، مقارنة بـ 17 ألف راكب في 2015. انخفاض بنسبة 700% تقريباً، حتى مع رفع حظر التجوال بعد كورونا. ببساطة، المواطن العراقي لم يجد في النقل العام خياراً بديلاً مقنعاً عن سيارته الخاصة، خصوصاً مع غياب الخطوط المخصصة للباصات التي تمنحها ميزة الانسيابية وسط الزحام.
المجسرات.. حلول ترقيعية تزيد الأزمة
بدلاً من توسعة شبكة الطرق، لجأت الحكومات المتعاقبة، وصولاً إلى حكومة محمد شياع السوداني، إلى الحلول الترقيعية عبر بناء المجسرات. مجسرات تُقام فوق شوارع العاصمة الضيقة أصلاً، لتصبح بمثابة “طوابق جديدة” على شوارع متهالكة، دون فتح طرق جديدة أو استحداث مسارات مخصصة للباصات، ما يعني أن الزحام ينتقل من الأرض إلى السماء. أرقام الجهاز المركزي للإحصاء تشير إلى أن بغداد، التي تضم ربع سكان العراق ونصف عدد السيارات، لا تمتلك سوى 672 كيلومتراً من الطرق الرئيسية والفرعية المبلطة، أي أقل من 2% من إجمالي طرق البلاد.
من الماضي إلى الحاضر.. كيف انهار النقل العام؟
في بداياته، مثّل النقل العام خياراً عملياً واقتصادياً، دفع الأثرياء البغداديين إلى تأسيس شركات “عرباين” تنقل الركاب إلى سامراء وكربلاء. ثم جاءت الدولة الملكية عام 1938 لتأسيس “مصلحة نقل الركاب”، والتي عُرفت بـ”الأمانة”، وصولاً إلى مرحلة “المنشأة”، مع استيراد مئات الحافلات البريطانية. كانت لكل خط رقمه ومكانه، والبغداديون يعرفون خطوطهم وأرقام باصاتهم.
لكن بعد 2003، ومع الانفلات الأمني والتدهور المؤسسي، أصبح النقل العام ضحية الإهمال وسوء التخطيط. لم تعد الحكومة توفر بديلاً جذاباً يتيح للمواطن ترك سيارته، بل استمرت بدفع الناس دفعاً للاعتماد على النقل الخاص، حتى بلغ معدل ملكية السيارات في بغداد سيارة لكل شخصين. أما محاولات فرض النقل العام عبر ضخ الحافلات في شوارع مزدحمة أصلاً، فبقيت محاولات يائسة.
حلول العالم.. واستعصاء العراق
دول عدة لجأت إلى منح النقل العام امتيازات، منها إنشاء مسارات خاصة للباصات، أو تسييرها مجاناً كما فعلت لوكسمبورغ في 2020 لتخفيف الزحام. العراق، بدلاً من ذلك، ترك الحافلات تتعثر وسط الزحام دون خطوط مخصصة، وحوّل النقل النهري إلى مشروع علاقات عامة ينتهي بعد أيام.
اليوم، يبدو أن “حلم النقل العام” في العراق يتلاشى أمام سيطرة الزحام وعقلية الحلول السطحية.
فحتى لو تم الإعلان عن استيراد المزيد من الحافلات أو إعادة تشغيل التكسي النهري، فإن غياب رؤية حقيقية يجعل هذه المشاريع مجرد افتتاحات إعلامية لا تغيّر شيئاً من واقع العاصمة المختنقة.