الأهوار بين الجفاف والتهميش.. إرث العراق البيئي يواجه خطر الزوال الصامت

تراث عالمي يختنق بالعطش
انفوبلس/..
في جنوبي العراق، حيث تتقاطع الحضارة مع الطبيعة في مشهد فريد يمتد لآلاف السنين، تواجه الأهوار اليوم أخطر التحديات الوجودية في تاريخها الحديث، إذ إن هذه المسطحات المائية التي تشكل جانباً بيئياً وثقافياً نادراً، أصبحت ضحية لعوامل متشابكة تجمع بين شحّ المياه، وسوء الإدارة، والإهمال الحكومي، إلى جانب سياسات دولية تتجاهل حقوق العراق المائية.
وبينما تتواصل المشاريع التركية على منابع دجلة دون تنسيق كافٍ، تزداد معاناة السكان المحليين الذين وجدوا أنفسهم أمام خيارين أحلاهما مرّ: الهجرة أو الفقر، وعلى الرغم من إدراج الأهوار ضمن لائحة التراث العالمي، فإن الواقع يشير إلى أزمة متفاقمة تنذر بخسارة بيئية واجتماعية يصعب تعويضها.
وفي ظل هذا الوضع الحرج، تحاول الحكومة العراقية اتخاذ خطوات متأخرة لمواجهة تداعيات التغير المناخي، في وقت باتت فيه الحاجة ماسّة إلى تحرك حاسم داخلياً وخارجياً لحماية ما تبقى من هذا الإرث الإنساني العريق.
تركيا تحاصر مياه العراق
التراجع الحاد في مستويات المياه تسبب في جفاف مساحات واسعة، ونفوق الأسماك، وهجرة الطيور، وتفاقم أوضاع السكان المحليين، الذين اضطروا إلى النزوح نحو المدن
وعلى الرغم من تسجيل الأهوار العراقية كمحمية طبيعية على لائحة التراث العالمي في 17 تموز 2016، واستنادها إلى إرث حضاري يمتد إلى مدن تاريخية كأور والوركاء وأريدو، فإن ذلك لم يشفع لها أمام واقع الإهمال والتدهور، فقد تسارعت وتيرة الجفاف خلال السنوات الأخيرة نتيجة التراجع الحاد في مستويات المياه، وسط تعهدات غير ملزمة من الجانب التركي بالإفراج عن الحصص المتفق عليها، ما تسبب في جفاف مساحات واسعة، ونفوق أعداد كبيرة من الأسماك، وهجرة الطيور، وتفاقم أوضاع السكان المحليين، الذين اضطروا إلى النزوح نحو المدن بحثاً عن سبل معيشة بديلة.
وفي ظل استمرار تركيا في بناء مشاريع مائية ضخمة كـ"سد إليسو" دون تنسيق فعلي مع العراق، تبقى الحقوق المائية العراقية عرضة للتجاوز، رغم العلاقات التجارية الواسعة بين البلدين، أما داخلياً، فتعاني الحكومة العراقية من ضعف واضح في إدارة الملف المائي، سواء على صعيد التفاوض مع أنقرة أو في تطوير البنية التحتية، ما زاد من تعقيد الأزمة البيئية والإنسانية.
وكان وزير العمل والشؤون الاجتماعية أحمد الأسدي، قد أعلن في تموز 2023، شمول كل الأسر في الأهوار بالحماية الاجتماعية، الأمر الذي يعني تصنيفهم فقراء، وبالتالي وجوب تكفل الحكومة بسداد مخصصات إعانة شهرية لهم، وقد أتى ذلك بعد عملية البحث الكبرى التي تجريها الوزارة للمناطق الأشد فقراً، من ضمنها قضاء الجبايش في محافظة ذي قار، حسب بيانات الوزارة.
وتُعد الأهوار العراقية، التي تشمل أهوار الحويزة، الوسطى، والحمار، من أهم النظم البيئية في الشرق الأوسط، وتغطي مساحات شاسعة من جنوب العراق وتتميز هذه المناطق بتنوعها البيولوجي الغني وتأريخها الثقافي العريق.
نزوح جماعي
وفي هذا السياق، حذر الخبير الاقتصادي قاسم بلشان من التهديدات الوجودية التي تحاصر الأهوار العراقية، محمّلاً السياسات المائية التركية جانباً كبيراً من المسؤولية، إلى جانب الإهمال الحكومي المزمن.
وأكد بلشان، في تصريح صحفي تابعته INFOPLUS، على "ضرورة اتخاذ خطوات تفاوضية فاعلة مع أنقرة، مع إشراك المجتمع الدولي للضغط باتجاه ضمان حصة العراق المائية وفق اتفاقيات ملزمة، مشدداً في الوقت ذاته على أهمية تطوير البنى التحتية للموارد المائية وتخصيص موازنات مالية كافية لهذا الملف الحيوي".
تراجع كميات المياه الواردة
تراجع حاد في كميات المياه الواردة من دجلة والفرات الى الأهوار، حيث انخفضت من 93.47 مليار متر مكعب في عام 2019 إلى 49.59 مليار متر مكعب فقط في عام 2020، ويُعزى هذا التراجع بالدرجة الأولى إلى الإجراءات الأحادية التي تتخذها تركيا
وتُظهر البيانات الرسمية تراجعاً حاداً في كميات المياه الواردة من دجلة والفرات، حيث انخفضت من 93.47 مليار متر مكعب في عام 2019 إلى 49.59 مليار متر مكعب فقط في عام 2020، ويُعزى هذا التراجع بالدرجة الأولى إلى الإجراءات الأحادية التي تتخذها تركيا.
وفي ظل هذا التدهور، سجلت منظمة "العراق الأخضر" نزوح أكثر من 21,700 عائلة من المحافظات الجنوبية بحلول أيلول 2023، تصدّرتها محافظة ذي قار، تليها ميسان، وتصل الأزمة ذروتها أحياناً بتأثيرها المباشر على محطات مياه الشرب، التي تعجز عن التنقية في ظل انخفاض المناسيب وتحول مجاري الأنهار إلى بيئات راكدة.
واتخذت الحكومة العراقية، حزمة من الإجراءات لمواجهة تداعيات التغير المناخي، في خطوة تهدف إلى التكيّف مع التحديات البيئية المتزايدة، لاسيما فيما يتعلق بأزمة شحّ المياه والتلوث.
خطط حكومية لمواجهة الجفاف
في محاولة للحد من آثار أزمة المياه المتفاقمة، ترأس رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، في 5 أيار 2025، الاجتماع الدوري للجنة العليا للمياه، والذي خُصص لمناقشة التحديات البيئية المتصاعدة التي تواجه البلاد، وعلى رأسها شح المياه والتغيرات المناخية. وخلص الاجتماع إلى سلسلة من القرارات التي تهدف إلى تحسين إدارة الموارد المائية والتكيّف مع الظروف المستجدة، بحسب ما أفاد به بيان صادر عن المكتب الإعلامي لرئيس الوزراء.
وشدد السوداني خلال الاجتماع على ضرورة اتباع مقاربات شاملة لضمان الأمن المائي، بما يشمل تنظيم استخدام المياه، والحد من التلوث، وتوسيع الاعتماد على التكنولوجيا الحديثة في عمليات الإدارة والرصد، إلى جانب تطوير مشاريع استراتيجية طويلة الأمد.
وتضمنت الإجراءات المقررة التركيز على تنفيذ مشروعات كبرى مثل ري العمارة وأواسط دجلة، والتحول نحو أنظمة الري المغلق ونقل المياه بأنابيب للحد من الهدر، فضلاً عن تقنين الضخ المائي خلال فصل الصيف وفق نظام المراشنة، وتسريع مشاريع تحلية المياه في المحافظات الجنوبية الأكثر تضرراً.
كما أقرت الحكومة تشديد الرقابة على مصادر التلوث، لا سيما منع تصريف المياه غير المعالجة في الأنهار، وتنظيف المجاري المائية من النباتات الضارة مثل الشمبلان وزهرة النيل، واستغلال المياه الجوفية في المناطق البعيدة. وأكدت على التزام وزارة الزراعة بتنفيذ الخطة الزراعية ومشروع البطاقة الزراعية للفلاحين، وتشكيل غرف عمليات على مستوى المحافظات لمتابعة تطبيق السياسات المائية.
وتأتي هذه الإجراءات وسط تحذيرات متواصلة من انخفاض خطير في مناسيب نهري دجلة والفرات نتيجة التغير المناخي وسياسات دول المنبع، مما يجعل سرعة تنفيذ هذه الخطط أمراً بالغ الأهمية.
الأهمية السياحية
وتُعد أهوار الجبايش اليوم إحدى الوجهات البيئية النادرة في العراق، حيث تجمع بين التنوع الطبيعي والتراث الثقافي، ما يمنحها مقومات جذب سياحي متجددة رغم التحديات، فالسياحة البيئية أصبحت بارقة أمل للأهالي في ظل الأزمات الاقتصادية والمناخية المتفاقمة، إذ توفر مصدر دخل بديلًا وموسميًا.
الأنشطة السياحية لا تقتصر على ركوب الزوارق التقليدية، بل تشمل تجربة الحياة الريفية وتذوق المأكولات المحلية والتعرف على الحرف اليدوية، ومع ذلك، تبقى السياحة مرهونة بتوفر المياه واستقرار الوضع البيئي، ما يجعل مستقبل الأهوار مرتبطًا بقرارات حاسمة في إدارة الموارد المائية وتنميتها.
خسائر مناسيب المياه ونفوق الجاموس
رغم الانتعاش السياحي المحدود، يظل موسم زيارة أهوار الجبايش قصيراً ويتأثر بعوامل بيئية صعبة، أبرزها ارتفاع درجات الحرارة إلى أكثر من 50 مئوية في الصيف، ما يؤدي إلى جفاف القنوات وتحول الأهوار إلى مستنقعات راكدة تتكاثر فيها الحشرات، وتُظهر بيانات رسمية أن نسبة الجفاف تجاوزت 80%، حيث تقلصت المساحة المغمورة من 4500 إلى أقل من 1400 كيلومتر مربع.
هذا التراجع أسفر عن خسائر بيئية كبيرة، إذ قُدرت نسبة نفوق الجاموس بـ33%، وانخفضت الثروة السمكية بأكثر من 90%. كما أجبر الجفاف أكثر من 1500 شخص على النزوح خلال الأشهر الأخيرة، بعد فقدان مصادر المياه والدخل.
وتعود الأزمة لعوامل جيوسياسية ومناخية معقدة، أهمها انخفاض الإطلاقات المائية من تركيا بسبب مشاريع السدود، إلى جانب تأثيرات تغيّر المناخ التي فاقمت من معدلات التبخر وقلّة الأمطار.