التهرب الضريبي في العراق.. القطاع الخاص الأكثر تهربا والآثار الاقتصادية "وخيمة"

انفوبلس/ تقارير
في بلد يرزح تحت أعباء الديون والانكماش المالي، يبرز التهرب الضريبي في العراق كأحد أبرز التحديات التي تنخر جسد الاقتصاد الوطني وتعيق فرص الإصلاح والتنمية. فرغم التصريحات الحكومية المتكررة حول الإصلاح المالي وتوسيع القاعدة الضريبية، لا تزال المليارات تُهدر سنوياً بسبب تهرّب الشركات والأفراد من أداء واجباتهم القانونية. انفوبلس أعدّت تقريرا مفصلا عن آثار ومخاطر ذلك التهرب وطرق معالجته مع استطلاع دقيق لآراء القضاة والمختصين، تقرؤونه عبر الرابط.
كيف ينجم التهرب الضريبي؟
وبهذا الصدد، أكد قاضي محكمة استئناف البصرة حيدر فالح حسن، إن "التهرب الضريبي ينجم عن إخلال أحد المكلفين بأداء الضريبة كليا أو جزئيا مما يؤدي إلى تقليل الحصيلة الضريبية وبالتالي حرمان الموازنة العامة للدولة من أهم مصادر تمويلها".
وقال القاضي حسن في تصريح له تابعته شبكة انفوبلس، إن "هناك فرقا بين التهرب والتحايل الضريبي، فالأول يكون باستخدام وسائل غير مشروعة لغرض التهرب من دفع الضريبة المفروضة عليه كليا أو جزئيا ومن شأنه أن يؤدي الى ضياع وعاء الدولة من الضريبة، بينما التحايل الضريبي يتم من خلال ما يقوم به الأشخاص او الشركات الممولة للضريبة بدرج معلومات غير حقيقية في الإقرار الضريبي او تقديم مستندات او سجلات مصطنعة او قوائم مزورة لا تمثل حقيقة أرباحهم خلال السنة المالية ولا تمثل حجم نشاطه الاقتصادي بقصد التهرب من الضرائب كليا او جزئيا".
القطاعات الأكثر تهرباً
يُعد القطاع الخاص، وخاصة الأنشطة التجارية والمقاولات والمصارف الأهلية، من أكثر القطاعات تهرباً ضريبياً.
كما تلعب بعض الشركات الأجنبية العاملة في العراق دوراً سلبياً، إذ تلجأ إلى تسجيل أرباحها خارج العراق لتفادي دفع الضرائب.
وتشير تقارير ديوان الرقابة المالية إلى وجود آلاف الملفات الضريبية المعلقة، والكثير من التجار ممن يملكون استيراداً سنوياً بملايين الدولارات لا يدفعون سوى ضرائب رمزية.
عقوبات من يتهرب ضريبيا
واصل القاضي حسن حديثه عن مخاطر التهرب الوظيفي وقال: إن المشرّع العراقي فرض عقوبات على من يقوم بالتهرب من الضريبة او تحايل عليها من اجل تغيير مبلغ الضريبة النهائي، حيث نص القانون بالحبس مدة لا تزيد عن سنة واحدة ممن ثبت عليه قاصدا تقديم بيانات او معلومات كاذبة او ضمّنها في تقرير او حساب او بيان بشأن الضريبة كان يجب عليه بيانها قاصدا الحصول على خفض او سماح او تنزيل من مقدار الضريبة التي تُفرض عليه، فيما نصت المادة 58 من قانون ضريبة الدخل رقم 113 بالحبس لمدة لا تقل عن ثلاثة أشهر ولا تزيد عن سنتين ممن يثبت عليه أمام المحاكم المختصة أنه استعمل الغش او الاحتيال للتخلص من أداء الضريبة المفروضة او التي تفرض بموجب هذا القانون كلها او بعضها.
وأضاف، أنه من أجل تعزيز القوانين لمكافحة التهرب الضريبي يجب أن تكون القوانين الضريبية تتمتع بالرصانة في الصياغة القانونية بحيث لا يترك مجالا للتهرب من الضريبية من خلال ثغرات قانونية، وأن لا تحدد القوانين أسعارا مبالغ فيها للضرائب لأن من شأنه أن يجعل المكلّف ينظر الى الضريبة كأداة لمصادرة إيراد عمله لا كأداة لتوزيع التكاليف العامة بروح من الواقع والعدالة، وكذلك الحرص على تخفيض الاعتماد على الإعفاءات الضريبية والكمركية وربطها عند الضرورة بأهداف تنموية تخدم الاقتصاد الوطني على أن تخضع لنظام فعال للرقابة الضريبية.
إعاقة عجلة التنمية
وبحسب القاضي حسن، فأن التهرب الضريبي يشكل معوقا في عجلة تنمية الاقتصاد الوطني والتي تعد الضريبة مصدرا مهما من المصادر المالية التي ترفد خزينتها ومن اهم أدوات سياستها المالية والتي تسهم من خلالها في تمويل الإنفاق الحكومي، مبينا أن هناك آثارا اقتصادية سلبية والتي تتمثل في إضعاف الموازنة العامة للدولة في دعم المشاريع الاقتصادية والتنموية والخدمية مما يؤثر سلبا على كثير من القطاعات الإنتاجية والاستهلاكية وبالتالي تؤدي إلى تعطيل عجلة التنمية الاقتصادية وقلة الخدمات العامة.
وأشار القاضي إلى أنه من خلال عمله رصد عدة طرق يستخدمها بعض الأفراد من أجل التهرب من الضريبة منها تقديم إقرار ضريبي مصطنع مع علمه بذلك أو تضمينه بيانات تخالف ما هو ثابت في الدفاتر والسجلات، وكذلك إتلاف المتعمد للسجلات او المستندات ذات الصلة بالضريبة قبل انقضاء المدة المحددة للاحتفاظ بها وفق أحكام القانون, واصطناع او تغيير فواتير شراء او بيع او غيرها من المسندات لإيهام الدائرة بقلة الأرباح او زيادة في الخسائر.
وأكد أن هنالك إجراءات ممكن اتخاذها لتعزيز شفافية التحاسب الضريبي للأفراد والشركات تتمثل في مشاركة الأفراد والشركات في صياغة القوانين والأنظمة الضريبية وتشجيعهم في المشاركة الفعلية في صنع القرارات الضريبية لإعطاء الشرعية والشفافية والنزاهة، وكذلك حق التظلم أمام السلطة القضائية وانشاء نظام مراجعة حسابية داخلية لضمان المساءلة المالية لموظفي الإدارة، وضرورة وضوح معايير التطبيق الإداري الضريبي وأن تستند مختلف الضرائب والرسوم الى أساس قانوني صريح دون اللجوء الى التأويلات والتفسيرات الشخصية.
وختم القاضي حديثه بضرورة تعزيز الوعي الضريبي لدى الافراد من خلال تفعيل دور الاعلام في مكافحة هذه الجريمة من خلال القيام بحملات توعية كبيرة توضح اهداف الضرائب والفائدة التي تعود للمجتمع من ضرورة الالتزام الطوعي بسداد الضريبة باعتبارها واجب وطني وأخلاقي وديني, وتفعيل الشفافية عن طريق نشر الإعلانات وإقامة الندوات والدورات والنشرات التلفزيونية عن الإجراءات الضريبية وإعداد برامج التوعية لتوضيح الأهداف الاستراتيجية للهيئة العامة للضرائب من خلال ترسيخ فكرة العدالة الضريبية وتحقيق المساواة بين الأفراد وتوضيح مخاطر التهرب الضريبي على نواحي الحياة المختلفة.
الآثار الاقتصادية والاجتماعية
كما أن التهرب الضريبي لا يؤدي فقط إلى خسارة مالية فادحة، بل ينعكس أيضاً على المشهد العام وذلك من خلال: تراجع قدرة الدولة على الإنفاق العام في قطاعات التعليم والصحة والإعمار، وتكريس فجوة الطبقية الاجتماعية بين الملتزمين والمتهربين.
فضلا عن إضعاف ثقة المواطنين بالحكومة ومصداقية إجراءاتها الإصلاحية، زيادة الاعتماد على الريع النفطي بدلاً من تنويع مصادر الدخل، ما يضع الاقتصاد أمام مخاطر الهزات العالمية.
جهود الدولة ومواطن الخلل
رغم وجود نوايا إصلاحية، إلا أن المعالجات لا تزال جزئية ومحدودة، منها: إطلاق مشروع "الأتمتة" في الهيئة العامة للضرائب، الذي يهدف إلى تقليل التلاعب اليدوي، وإصدار تعليمات جديدة بشأن الكشف الضريبي وإلغاء الإعفاءات غير المبررة، ومحاولات لربط الجهات المعنية (الكمارك، البنك المركزي، ديوان الرقابة) بشبكة معلومات موحدة.
لكن هذه الخطوات تواجه معوقات أبرزها: مقاومة من داخل الجهاز الإداري نفسه خوفاً من فقدان "مكاسب غير شرعية"، وضعف التغطية التكنولوجية وصعوبة التطبيق في المحافظات، وغياب الإرادة السياسية الجادة لضرب منظومة الفساد الضريبي من جذورها.
خلاصة
التهرب الضريبي ليس مجرد خلل مالي، بل جرح مفتوح في جسد الدولة العراقية يهدد مستقبلها الاقتصادي. ولا يمكن المضي في أي مشروع إصلاحي حقيقي ما لم يتم التعامل مع هذا التهديد كأولوية وطنية. فمكافحة التهرب الضريبي لا تتطلب فقط تحديث القوانين، بل تستلزم أيضاً تحطيم منظومة الفساد وحماية إرادة الإصلاح من التغول السياسي والإداري. عندها فقط يمكن للعراق أن يخطو بثبات نحو اقتصاد منتج ومستقر، وفق مراقبين واقتصاديين.