العراق يُضحي بتعليم نصف طلابه.. هل نجحت الدراسة الإلكترونية في البلاد؟
انفوبلس/ تقرير
قبل عامين، رسب محمد للمرة الثانية، كان عليه أن يبقى في الصف الخامس الابتدائي بينما ينتقل زملاؤه إلى المتوسطة، مع بداية العام 2021 أخبره مدير المدرسة على خلفية شجاراته الكثيرة ورسوبه المتكرر، أنه "فاشل ولا حل ينفع معه"، واستدعى ولي أمره، فقرر والده تأديبه بحرمانه من المدرسة.
"لقد فرحتُ بداية الأمر لأنني أردتُ تركَ المدرسة، لكنني أشاهد أصدقائي يذهبون إليها صباحاً، فلا يبقى أحد منهم في الشارع.. شعرتُ أنني وحيداً"، هكذا يقول محمد.
بعد ذلك، التزمَ محمد بالذهاب إلى المدرسة، ووعد بأنه لن يتسلق السور للهرب كعادته، لكنه فوجئ بعد أسابيع قليلة، هو و11 مليون طالب في المراحل الابتدائية والثانوية، بوقف التدريس إلزامياً بسبب إجراءات الوقاية من جائحة كورونا، كان ذلك في شباط/ فبراير 2021.
*التعليم الالكتروني
أعقبت وزارة التربية قرار إغلاق المدارس، بالدعوة إلى اعتماد التعليم الإلكتروني، وأعلنت عن إطلاق "منصة نيوتن" التعليمية الإلكترونية لاستكمال المناهج الدراسية عن بُعد، لكن محمد لم يلتحق بالمنصة هو أو أخته، إذ يعمل والد محمد سائقا لسيارة أجرة، وقد أدّت فترات حظر التجوال إلى توقفه عن العمل، وتدهور حال الأسرة المعيشية، ما اضطره إلى فصل خدمة الإنترنت.
في العراق، يُعدّ نظام التعليم الالكتروني دخيلاً على التعليم، حيث إنّه لم يُكلّل بأي محاولة قبل الجائحة لكي يكون إلكترونياً، فالبلد الذي لا تتوفر فيه أبسط سبل التعليم، كيف يستطيع القفز بصورة سريعة ليكون مواكباً للدول المتقدمة في هذا المجال التعليمي؟، يقول مختصون.. وهذا ما تسبّب بالكثير من المشاكل والطرق المتعرّجة التي تحتاج إلى سنين عديدة كي تُحل، ويصبح الطريق معبّداً لكل طالب ليتمتع بأبسط حقوقه، منها أن يكون له جهاز هاتف خاص به وأن يكون الإنترنت مجانياً لجميع الطلبة.
التعليم الإلكتروني ساهم بشكل إيجابي في تخفيض التكاليف الدراسية، وهذه الحسنة الوحيدة له، وقد ساعد أصحاب الدخل المحدود كثيراً، هكذا يرى علي الباشخ الطالب في كلية القانون.
ويكمل الباشخ، "أما من الناحية العلمية فلم يضِف التعليم عن بُعد أي شيء بل زاد في تكاسل الطلبة وعدم الحصول على المادة العلمية بصورة جيدة، على العكس من المحاضرات الواقعية، إضافة إلى إهمال الطلاب دروسَهم باعتبار أنهم ضمنوا النجاح، وكذلك من حيث الظلم حيث أصبح صاحب المستوى الضعيف والمتوسط يحصل على معدل سعي أعلى أو يساوي صاحب المستوى العلمي العالي، إضافة إلى المحسوبية والتعامل على أساس المعارف (الواسطات)، وهذا بالتأكيد سيكون له آثار نفسية سلبية على أصحاب المستوى العلمي العالي، إذ أصبحوا يشعرون بخيبة أمل وانهيار نفسي بسبب الظلم الذي حلَّ بهم نتيجة التعليم الإلكتروني، حيث ذهب كل تعبهم أدراج الرياح بسبب عدم وجود نظام الكتروني عادل، ولا أمانة علمية لدى أغلب التدريسيين الجامعيين وعدم إعطاء كل ذي حق حقه.
وبالعودة إلى مُحمد، تقول شقيقته الكبرى مريم وهي طالبة في السادس الإعدادي: "قالوا إن هناك منصّة تعليمية، لكنني لم أرَها.. ليس لدينا إنترنت".!
شبكة انفوبلس، تتبعت بيانات وزارة التخطيط، ووزارة الاتصالات، وبيانات صادرة عن وزارة التربية، وأخرى أصدرتها منظمات دولية حول التعليم في العراق، وكشف تحليل البيانات عن تضرر الفئات الفقيرة والنساء بالسياسات التعليمية المتعلقة بكوفيد-19 إذ صُمّمت تلك السياسات لاستيعاب الأزمة لكنها لم تشمل الجميع.
مريم ليست الوحيدة التي لم ترَ المنصة التعليمية المذكورة (نيوتن)، ولن تكون ومُحمد الوحيدين اللذين سيعانيان في مواصلة دروسهما عن بُعد خلال عام الجائحة الدراسي، فقد أكد المتحدث الرسمي باسم وزارة التربية آنذاك حيدر فاروق (في مقابلة أواخر آذار/ مارس 2021) أن "ما يقارب الـ 6 ملايين طالب دخلوا إلى المنصات الالكترونية، من أصل 11 مليون طالب في المراحل الابتدائية والمتوسطة والإعدادية".
الـ5 ملايين الآخرين من طلاب المدارس غير المسجلين في المنصة الرسمية، ليسوا كسالى، هم ببساطة لا يستطيعون التسجيل لعدم توفر خدمة الإنترنت لحوالي 40% من الأُسر العراقية على الأقل، بحسب مسح الاتصالات الصادر عن وزارة الاتصالات لعام 2019، بينما تتراوح تقديرات الاتحاد الدولي للاتصالات والبنك الدولي للأفراد العراقيين غير المتصلين بالإنترنت بين 25 و50 في المئة.
هُنالك العديد من التحاليل التي أُجريت لبيانات المسح العنقودي متعدد المؤشرات الصادر عن وزارة التخطيط عام 2018، والتي أظهرت أن ثلاث أُسر من كل 10 في إقليم كردستان لا تحصل على خدمة الإنترنت، فيما تفتقد 6 أُسر من كل 10 في محافظات الغرب وبعض محافظات الوسط للخدمة، ما يعني عدم وصول الطلاب إلى التعليم بشكل متساوٍ، فالوضع المادي أساساً، ومنطقة السكن، يحددان فرصهم في الحصول على التعليم.
في الوقت الذي تحصل به 70 في المئة من الأُسر الأعلى دخلاً على خدمة الإنترنت، فإن 15 في المئة فقط من الأُسر الأشد فقراً تحصل على نفس الخدمة.
يؤكد المتحدث باسم وزارة التربية أن "المشكلة ليست مشكلة الوزارة، هي مشكلة بنى تحتية للدولة بشكل عام، ولهذا تم اللجوء إلى إنتاج ملخصات مطبوعة ينسخها الطلاب ويدرسونها بمفردهم".
بحسب مختصين، فإن أفضل مقترح لتطوير التعليم الإلكتروني هو ضمان شبكة الإنترنت وإيجاد وسيلة تواصل جيدة تضمن الوضوح بين الطالب والأستاذ، وتضمن الرد الواضح على جميع الأسئلة والاستفسارات للطالب، وشرح المواد الضرورية والمفيدة فقط خلال الدراسة الإلكتروني لزيادة معرفه الطالب بتخصّصه، وضمان الحصول على معلومات مفيدة خلال مسيرته الدراسية، وهذا ما لم يحدث في العراق إبّان فترة الجائحة، وبالتالي صُنِّف هذا التعليم لدى الكثير بالفاشل.
*سيناريو 2020 تكرر في 2021
في بداية 2020، (قبيل اشتداد الوباء)، تعرف مُحمد على زينب وأقنعته بالعودة إلى الدراسة، تسكن زينب (20 عاماً) في المنزل المقابل لعائلة محمد، وتطوّعت لتدريسه قبل فترة الحجر الصحي، تقول: "اكتشفت أنه بارع في الرياضيات، ولكنه يعاني كثيراً في مادة اللغة العربية ويرسب في الدروس الأخرى بسبب عدم إتقانه الكتابة".
ساهمت دروس زينب في تحسين أداء محمد الدراسي، ولكنه انقطع عن التعليم بشكل كامل عندما توقفت المدارس ولم يتواصل مع أي من مدرّسيه، ولم تتمكن زينب هي الآخرى من الاستمرار في تدريسه، فيما لم يتمكن هو من استبدالها بمدرس آخر، "قلقتُ من أن يخسر محمد ما تعلّمه بسبب توقف المدارس، فقد كان بحاجة ماسّة إلى اختبار ما تعلّمه"، تقول زينب.
*تفاوت الدخل.. مشكلة في التعليم الالكتروني
أحمد (10 سنوات)، كان يدرس منهجاً باللغة الإنجليزية وهو في الصف الرابع الابتدائي، يعمل والداه طبيبن في المدينة التي تعيش فيها أُسرة محمد، الفرق أنهما يدفعان حوالي 4000 دولار كرسوم سنوية لتعليم ابنهما بمدرسة خاصة، وأكد والد أحمد د. طه مصطفى، أنه استمر في التواصل مع معلميه بعد إغلاق المدرسة العام الماضي.
في نيسان/ إبريل من عام 2020، أعلنت وزارة التربية إنهاء السنة الدراسية مبكراً، واحتسبت نتائج الفصل الدراسي الأول كمعدلات نهائية لاجتياز الصف المحدد لكل المراحل الدراسية عدا طلبة الثانوية العامة. وبهذا نجح محمد، ولكنه ما يزال يعاني ارتباكا واضحاً في الكتابة.
في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، أعلنت وزارة التربية أنها ستسمح بفتح المدارس للعام الدراسي 2021، كانت خطة الوزارة تقضي بأن يحظى الطلاب في كل مرحلة دراسية بيوم دراسي واحد في الأسبوع داخل المدرسة، فيما سيتم الاعتماد على التعليم الإلكتروني لتغطية الساعات الدراسية الأخرى.
ولكن بعد 10 أسابيع من بداية العام الدراسي، أعلنت مديريات صحية في أكثر من محافظة عن تفشي فيروس كورونا في مدارس عدة، وتزامن ذلك مع ارتفاع معدلات الإصابة في العراق، فيما أعلنت وزارة التربية عن معاودة إغلاق المدارس في 18 شباط/ فبراير 2021 وحتى إشعار آخر، وانقطع محمد كليا عن المدرسة من جديد.
*مهاجمة تربوية
التعليم الإلكتروني "فاشل ومفسد للطلبة وللعملية التربوية في المجتمعات الفقيرة والمتخلّفة والتي لا تمتلك مقومات الاستعداد الصحيح لهذه التقنية في التعليم، والتي أُجبر عليها العالم بسبب جائحة كورونا، هكذا يرى الأستاذ التربوي كاظم إسماعيل.
ويقدم إسماعيل دليلاً على كلامه فيقول: "لا نرى هذا ضرراً من الطريقة الإلكترونية في الدول المتقدمة، والمقارنة في التأخر بالتعليم الحضوري في دولنا هو متأخر ومتخلّف بأشواط كبيرة عن الغرب كما هي الحال في التعليم الالكتروني بل أسوأ، لأن طبيعة طلابنا لا يتجاوبون وهم ليسوا لديهم حرص على التعلّم الحضوري إلا بالمتابعة والتشدّد، فكيف بالتعليم الالكتروني؟؟.. يتساءل إسماعيل.
من يتولّى تعليم 11 مليون طالب؟
ترى رفل الشيخلي وهي مدرّسة للمرحلة الابتدائية في مدرسة حكومية، أن نظام التعليم عن بعد يشكل تحدياً للمدرسين سواء من حيث ضغط العمل الإضافي، أو من حيث صعوبات التكيّف مع الأسلوب التعليمي الجديد، إذ تأتي أزمة إغلاق المدارس في ظل تدنّي أعداد الكوادر التعليمية بشكل عام، فتحليل بيانات وزارة التربية كشف عن أن معدل عدد المدرسين إلى الطلبة قد بلغ 1 إلى 25 في المدارس الابتدائية، و1 إلى 19 في المدارس الثانوية، وهذا أدنى من المعدل في الدول العربية، فبحسب بيانات البنك الدولي، يبلغ المعدل العام لعدد المدرسين إلى الطلبة في العالم العربي 1 إلى 22 للمرحلة الابتدائية، و١ إلى 15 للمرحلة الثانوية.
أغلب المعلمين لم يتم تأهيلهم لمواجهة التحدي المفاجئ المتمثل بالتعليم عن بُعد، إذ تشير بيانات وزارة التربية لعام 2018 إلى أن معلماً واحداً فقط من كل 4 معلمين في العراق، قد حصل على أي نوع من التدريب المنتظم، لهذا عانى المدرسون من التحوّل المفاجئ الى التعليم الإلكتروني، خاصة أن الوزارة اكتفت بإرسال رابط إلى هواتف المعلمين يحتوي على تعليمات تتعلق بالتعليم الإلكتروني، "لم نتلقَّ أي تدريب. نحن نعمل بمبدأ علِّم نفسك بنفسك"، تقول الشيخلي.
*حلول منعدمة لمشكلة قائمة
لا يبدو أن لدى وزارة التربية حلولاً حقيقية للتعامل مع الفروق بين الأطفال الفقراء والأطفال الأغنياء في الوصول إلى التعليم الإلكتروني، فقد أجاب المتحدث باسم وزارة التربية عن ذلك: "هذه تركيبة من الله سبحانه وتعالى، هناك غني، وهناك فقير، هناك شخص يأخذ كل شيء، وهناك شخص لا يأخذ شيئاً.. فكيف ببلد يتعرض لكل هذه الأزمات؟".
الأطفال الذين يخسرون ساعاتهم الدراسية اليوم، سوف يخسرون حصة دائمة من دخلهم السنوي في المستقبل لأن عدم تأهيلهم بشكل كافٍ سيؤدي إلى انخراطهم في أنشطة اقتصادية أقلّ نموّاً واستدامة.
تذكر اليزابيك ساماك، محلّلة في البنك الدولي في مقال لها حول الخسائر المحتلمة التي سيواجهها قطاع التعليم في العراق، أن الأطفال العراقيين كانوا متخلّفين عن المستوى التعليمي الذي يفترض به تأمين مواردهم الإقتصادية في مراحل عمرية لاحقة حتى قبل أزمة كوفيد-19.
"سيصل الطفل المولود في العراق اليوم، في المتوسط، إلى 41 في المئة فقط من إنتاجيته المحتملة عندما يكبر. ومن متوسط 7 سنوات يقضيها في المدرسة، فإن مقدار التعلّم الذي يحصل عليه فعلياً هو 4 سنوات فقط".
وتضيف: "سيؤدي إغلاق المدارس إلى المزيد من (فقدان التعلّم)".
مُحمد يُخطط للعمل في الأيام التي سيكون فيها التعليم إلكترونياً، لقد سبق وأن اتفق مع صاحب ورشة الحدادة في الحي على العمل عنده في الأيام التي لن يذهب فيها إلى المدرسة. وعن الدروس غير المباشرة التي تفوته، يقول محمد "أدرس لاحقاً".
محمد سيربح بعض الدنانير في ورشة الحدادة، وسيخسر تعليمه، وحصة من دخله السنوي المتوقع مدى الحياة، ولكن في وقت ما في المستقبل قد يتوقف محمد لاحتساب حجم الخسائر التي ألحقها به نظام التعليم، فهو كما نعرف ماهر في الرياضيات.