المجاهد مثنّى الكلابي.. حكاية أصغر شهداء فتوى الدفاع الكفائي وأقربهم إلى القاسم بن الحسن (ع)
انفوبلس/ تقرير
في ذكرى عيد النصر على الإرهاب، تعود الذاكرة الوطنية لتدقّ أبواب القصص التي لم تُكتب بالحبر، بل بالدم. قصصٌ لم تمرّ مرور الكرام في تاريخ العراق الحديث، لأنها تعبّر عن جيلٍ حمل الوطن على كتفيه رغم صغر سنّه، فكان أكبر من سنوات عمره، وأعمق من كل كلمات الرثاء. من بين هؤلاء يبرز اسم الشهيد المجاهد مثنّى قاسم عبد الكاظم الكلابي، الملقّب بـ"عريس الحشد"، أصغر شهداء فتوى الدفاع الكفائي، الذي ارتقى في قاطع بيجي بتاريخ 17 تشرين الأول 2015، الموافق 3 محرم الحرام.
ولد الشهيد مثنّى في قضاء النعمانية بمحافظة واسط عام 1998، وكان طالباً في الصف الخامس الإعدادي حين قرر ترك مقاعد الدراسة، واضعاً قلمه جانباً حاملاً بندقيته، بعدما لبّى نداء المرجعية العليا دفاعاً عن الوطن والمقدسات. لم يكن عمره يتجاوز سبعة عشر عاماً، لكنه كان يملك عزيمة تفوق أعمار الرجال.
طفولة مبكرة.. وعقل أكبر من عمره
لم يكن مثنّى فتىً عادياً. كان الأصغر بين إخوته، لكنه كان الأكثر تحملاً للمسؤولية. عمل مع والده في البناء منذ صغره، يساعده بإكمال العمل، ويتقاسم أجره اليومي مع شقيقته التي كان يتكفّل بمصاريف دراستها. لم يكن ذلك واجباً مفروضاً عليه، بل سلوكاً نابعاً من قلبٍ عطوفٍ يحب الخير ويعطف على الفقراء.
يروي ذوو الشهيد أن مثنّى كان بارًّا بعائلته بشكل لافت. كان ينادي شقيقته الكبرى بـ"أمي" احتراماً لها لما بذلته من جهد في تربيته ودراسته. وكان معروفاً بين أهل النعمانية بدماثة خلقه وحرصه على مساعدة المحتاجين. بل إن هناك رجلاً فقيراً كان يجلس قرب أحد الجوامع في المدينة، وكان مثنّى يصطحبه إلى منزله، يغسل له ثيابه، ويطعمه، ويُلبسه ملابس نظيفة، رغم أن الفقير لم يكن من أقربائه أو معارفه، بل مجرد إنسان يراه بحاجة إلى الرحمة.
مرّ مثنّى بحادثتي دَهس أثناء ذهابه لمساعدة ذلك الرجل، لكنه لم يتراجع. كان يقول: "الأذى وقع على جسدي، لكنه لم يصل إلى قلبي".
عشقٌ مبكرٌ لكربلاء.. ودورُ القاسم الذي صار قدراً
منذ طفولته كان مثنّى شغوفاً بمجالس العزاء، وبشكل خاص بشعائر التشابيه. كان يؤدي دور القاسم بن الحسن (عليه السلام) كل عام، بملابس الحرب البيضاء، والسيف الصغير، والدموع التي تسيل حين يسمع نداء "يا عمّاه".
لكن أحداً لم يكن يعلم أن القدَر كان يهيّئ له مصيراً يشبه مصير القاسم نفسه.
في عام 2015، كانت جبهات القتال مشتعلة. اتصل به والده قبل يوم من استشهاده، وطلب منه العودة إلى البيت لأيامٍ قليلة فقط، لأداء دوره المعتاد في التشابيه. قال له والده: "يا بُني، الموكب ينتظرك، الناس تنتظر تمثيلك للقاسم".
فردّ مثنّى بكلمات خالدة ستبقى محفورة في ذاكرة كل من سمعها: "والدي.. القاسم والإمام الحسين يقاتلان معنا هنا على الساتر، وليس في التشابيه. لن أعود حتى أُقتل دونهم". في اليوم التالي، استُشهد مثنّى.
علامات الشهادة.. التي سبقت الرحيل
كانت شقيقته تلاحظ شيئاً مريباً على كتبه المدرسية. فقد كتب على أغلبها: "الشهيد مثنّى الكلابي" أو "الشهيد البطل" وكأن فطرته كانت تخبره بأن روحه تتهيّأ للرحيل. وحتى على عصابة رأسه، وخزانة كتبه، وضع تلك الكلمة التي بدت لأول وهلة ضرباً من المبالغة، لكنها اتّضحت لاحقاً بوصفها توقيعاً مسبقاً على عهد قطعه مع الله.
تقول والدته: "كان مثنّى يتمنّى الشهادة. كان يقول: روحي فداء للمرجعية والوطن وآل البيت. كنت أخاف عليه، لكنه كان أكبر من خوفي".
عشق السواتر.. ووداعٌ لم يُكتَب له أن يطول
كان مثنّى يفضل البقاء في الجبهة على العودة إلى المنزل. كان يشعر أن مكانه بين المقاتلين الذين تركوا الدنيا خلف ظهورهم. كان يردد: "أريد أن أقضي كل أيامي في الجبهة. لا أشعر أنني حيّ إلا هنا".
في معارك بيجي، حيث كان القتال الأعنف، وقف مثنّى في الصفوف الأولى، يقاتل بشجاعة تفوق عمره. وحين أصابته رصاصة قنّاص غادر، سقط مبتسماً كما رآه رفاقه. وعندما فتشوا جيبه، وجدوا 7000 دينار فقط وهاتف بسيط رخيص الثمن، ومصحف صغير. ثلاثة أشياء تلخّص حياته: الزهد، التواضع، واليقين.
حتى الجماد يفتقد "مثنّى".. قصة رمزية تقرأ روحه
حين حلّ محرم الحرام بعد استشهاده، لاحظ أهل النعمانية شيئاً لم يفهموه أول الأمر. كانت أدوات التشابيه وملابس القاسم بن الحسن الذبول والغبار يخيم عليها. وكأنها فقدت صاحبها. في قصة رمزية تداولها أهل القضاء، تصف إحدى النساء أنها حين دخلت المخزن، شعرت أن الأدوات تتحدث مع بعضها: قالت الملابس القتالية للراية: ألا تفتقدينه؟ كان يرتديني كل عام".
فقالت الراية: كيف لا أفتقده وهو الذي كان يرفعني بدموعه قبل صوته".
ثم يحسم المشهد حين تشاهد المرأة خطاباً للسيد علي الطالقاني، يروي تفاصيل استشهاد مثنّى فتربط بين القصة وبين الأدوات التي "فقدت صاحبها". قصة رمزية، لكنها تعكس كيف بقي أثره حتى في الأماكن والجمادات التي كانت ترافقه.
بين الدراسة والسلاح.. فتى يختار طريق الخلود
كان الشهيد مثنّى من المتفوقين دراسياً. لم يكن فاشلاً في دراسته أو هارباً منها، بل كان من الطلاب المتميزين. لكن قلبه كان معلّقاً بالجبهة.
كتب مرة على أحد دفاتره: "أنا كبير بعزيمتي وحبي لوطني". وحين حاولت والدته منعه من الالتحاق بالحشد لأنه صغير على حمل السلاح، ردّ عليها بجرأة تفوق سنّه. هذا الردّ اختصر شخصيته: فتى في عمر الورد… لكنه بقلب رجل من ذهب.
مثنّى في السينما.. قصة تتحوّل إلى فيلم
لم تكن بطولته مجرد ذكرى في قلوب أهله، بل تحوّلت إلى عمل فني توثيقي. فقد أنتج مركز فن النعمانية فيلماً قصيراً بعنوان "مثنّى" من تأليف علي صوكري وإخراج عباس مكي العبودي، شارك فيه مجموعة من الممثلين العراقيين.
وقد فاز الفيلم بجائزة أفضل فيلم روائي في مهرجان أوسكار إيجيبت للسينما الدولية، وسط مشاركة أكثر من 90 عملاً، بينها فيلم "دموع دجلة" وفيلم "مثنى".
الفيلم ركّز على تفوقه الدراسي، وتعلقه بالشهادة، وكتابته كلمة "الشهيد" على كتبه، ومحاولات والدته إبعاده عن الجبهة، وإصراره على الالتحاق بالحشد. كانت رسالة الفيلم: إن الشهامة لا ترتبط بالعمر، وإن حب الوطن يمكن أن يسكن أصغر القلوب.
رمزية "عريس الحشد".. حين تلتقي البسالة بالبراءة
لقّب مثنّى بـ"عريس الحشد" لأن استشهاده كان أشبه بزفاف روحي يتوَّج فيه الشهيد بثوب الخلود. كان فتىً بسمته طفولية، لكن روحه كانت ناضجة، تحمل غيرة حسينية خالصة.
استشهاده صادف في شهر محرم، الشهر الذي يستحضر فيه المسلمون بطولة القاسم بن الحسن (ع)، فكان الالتحاق بركب آل البيت (ع) ذروة الانسجام بين حياته ومماته. لم يمثل القاسم فقط بل عاش دوره حتى النهاية.
مثنّى.. قصة جيل بأكمله
لم يكن الشهيد مثنّى حالة فردية، بل يمثل جيل الفتوى، الجيل الذي لم ينتظر من يدفعه، ولم يحتج خطاباً مطوّلاً ليدرك معنى الواجب. جيلٌ يعيش قيم كربلاء يومياً، ويجسّد أن "العمر الحقيقي يُقاس بالموقف.. لا بالسنين".
مثنّى هو نموذج للشباب الذين لم يعرفوا السياسة، ولم يطلبوا جاهاً أو منصباً، بل حملوا العراق في صدورهم. وجيلٌ قال كلمته في زمنٍ أراد الإرهاب فيه محو هوية الوطن.
لماذا يجب أن تبقى قصة مثنّى حيّة؟
لأن الأوطان لا تُبنى بالكلام، بل بأمثال هؤلاء الفتية الذين قدّموا أعمارهم قرباناً لكي يبقى غيرهم حيّاً. ولأن مثنّى هو شاهدٌ على أن العراق أنجب أبطالاً لا يصنعهم الإعلام، بل تصنعهم الفطرة والمبدأ. ولأن ذكراه درسٌ لجيلٍ جديدٍ يعرف أن الحكمة ليست مقترنة بالسن، وأن الرجولة ليست مرتبطة بالشوارب، بل بالموقف.
في ذكرى عيد النصر، تبقى سيرة عريس الحشد علامة مضيئة في سفر الشهداء، ورسالة تقول: إن الغيرة الحسينية لا تموت، وإن العراق لا ينحني ما دام فيه فتيانٌ مثل مثنّى.

