الهواء والماء والتربة.. التلوث يحوّل بغداد إلى بؤرة بيئية خطيرة.. تدهور سريع وحلول بطيئة

انفوبلس..
رغم المبادرات الحكومية لمعالجة التلوث البيئي في بغداد، إلا أن المؤشرات تواصل تسجيل مستويات مقلقة تنذر بكارثة صحية وبيئية. الهواء ملوث، والمياه ملوثة، والتربة مسمومة، بينما يزداد خطر التغير المناخي. واقع يهدد صحة السكان ويكشف عن قصور واضح في التشريعات والوعي المجتمعي والرقابة التنفيذية.
إن المواطن البغدادي بات يعيش في بيئة مزدحمة بالمخاطر غير المرئية: هواء مشبع بالملوثات، وماء يشوبه الشك، وتربة تتدهور بفعل النفايات والمخلفات الصناعية والعسكرية.
تعدّ عوادم السيارات والمولدات الكهربائية من أبرز مصادر تلوث الهواء في العاصمة، حيث تُطلق السيارات وحدها أكثر من نصف طن يومياً من الغازات السامة، أبرزها: ثاني أوكسيد الكاربون، وأول أوكسيد النتروجين، وأوكسيد الكبريت، في وقت تنتشر فيه آلاف المولدات في الأحياء السكنية، مسببةً زيادة مطردة في نسب التلوث.
أما في الأحياء الشعبية، حيث الكثافة السكانية والضغط على الخدمات، تتفاقم مظاهر التلوث بشكل أكثر وضوحاً.
وتؤكد خبيرة التلوث البيئي، الدكتورة إقبال لطيف جابر، أن التلوث البيئي في العاصمة بلغ مستويات مقلقة، مشيرة إلى أن "ارتفاع عدد مكيفات الهواء مع انعدام التشجير أسهم بزيادة غازات الاحتباس الحراري. وصارت البيوت من دون حدائق، والبساتين انجرفت، والنفايات تُحرق يوميًا، وهذا كلّه يخنق الجو ويزيد من تدهور نوعية الهواء".
كما تحذر من أن التلوث لا يقتصر على الهواء فقط، بل يمتد إلى المياه أيضاً، موضحة أن "مياه المجاري تُصرف مباشرة في نهر دجلة من دون معالجة كافية، وتُضاف إليها مخلّفات المصانع والنفايات الطبية، ما يزيد من تركيز العناصر السامة مثل الكادميوم والرصاص والكروم".
وتتابع: "قلة كري الأنهار، وانخفاض منسوب دجلة، والتغير المناخي، كلها أسباب تسهم في نفوق الأسماك واختفاء الطيور المهاجرة. المياه لم تعد صالحة للشرب في بعض المناطق، وحتى الري الزراعي تأثر بشكل كبير".
أما التربة، فهي الأخرى تقف على حافة الخطر. فقد تعرضت أطراف بغداد، مثل الراشدية، والنهروان، والرضوانية، خلال فترات الحروب، إلى استخدام أسلحة محرّمة دولياً، ما تسبب بتفاعل مواد خطرة مع التربة، وتلويثها بتركيزات سامة.
وتضيف جابر: "التربة في بغداد مشبعة بمواد سامة من الأسلحة، والنفايات، والمشتقات النفطية. حتى البذور الزراعية بدأت تفقد فعاليتها، وأغلب الأراضي لم تعد صالحة للزراعة الآمنة".
كما أسهم تحويل الأراضي الزراعية إلى وحدات سكنية، في تراجع الخصوبة وزيادة التصحر، ما يقلص فرص الزراعة المستدامة داخل محيط العاصمة.
وترى الخبيرة البيئية أن جزءاً من المسؤولية يقع على عاتق المواطن، قائلة: "الحرق العشوائي ورمي النفايات البلاستيكية وتشغيل المولدات، كلها ممارسات تضر بالبيئة".
وتؤكد أن "الحل لا يكمن في الإجراءات الحكومية فقط، بل يتطلب نشر الوعي البيئي والتثقيف المجتمعي، وتغيير السلوكيات اليومية نحو نمط حياة يحترم الطبيعة".
ويرى مختصون أن ضعف الرقابة البيئية، وغياب التنفيذ الصارم للتشريعات، وندرة البرامج التوعوية، كلها عوامل تعمّق الأزمة البيئية. وتؤكد تقارير وزارة الصحة أن بغداد بحاجة ماسة إلى استراتيجية شاملة، تبدأ من تعزيز التشجير الحضري، وتحفيز استخدام الطاقة النظيفة، وإنشاء محطات لمعالجة المياه والنفايات، وتمكين البلديات من أداء دورها الرقابي والتشغيلي.
وفي ظل هذه المعطيات، يعيش كثير من سكان بغداد لياليهم تحت وطأة هواء ثقيل، تغلفه رائحة خانقة تشبه الكبريت، في مدينة تعيش تحديات بيئية متراكمة.
ومع هذه التحديات البيئية، التي تتصاعد يوماً بعد يوم، تحاول الحكومة عبر مفاصلها، أن تعالج الفجوات، عبر إطلاق مشاريع كبرى، موجودة في أطراف العاصمة بغداد.
في هذا الصدد، يقول سكرتير أمين بغداد، عدي الجنديل: "نرفع 9 إلى 10 آلاف طن من النفايات يوميًا، ونعمل على مشروع لتحويل 3 آلاف طن إلى طاقة كهربائية نظيفة"، مبيناً أن "المشروع ينفّذ حاليًا في النهروان، وسيسهم بتقليل الطمر العشوائي".
وأشار إلى "وجود تنسيق مع وزارة البيئة، والعمل لاستقطاب شركات عالمية متخصصة في إدارة وتدوير النفايات، ضمن توجهات الحكومة في استخدام التكنولوجيا الحديثة".
من جهته، يقول استشاري طب الأسرة، الدكتور علي عبد الرضا أبو طحين، إن "التلوث يؤثر في الجهاز التنفسي والقلب، والمناعة، لكنه أيضًا يسبب حالات من الاكتئاب والقلق".
ويشير أبو طحين إلى أن "الضوضاء، وانبعاثات العوادم، وتردي المشهد الحضري كلها عوامل تضغط نفسيًا على الناس".
وفق بيانات حديثة من تطبيق IQAir المتخصص بقياس جودة الهواء، بلغ مؤشر التلوث في بغداد، الأسبوع الماضي، 154(US AQI)، وهو تصنيف يُعد "غير صحي"، مع تركيز مرتفع لجسيمات PM2.5 وصل إلى 60 ميكروغرام/م³، وهي جسيمات دقيقة يمكن أن تتغلغل في الرئة ومجرى الدم، وتسبب مضاعفات خطيرة، خصوصًا لكبار السن والأطفال ومرضى الجهاز التنفسي.
ورغم جهود أمانة بغداد ووزارة البيئة في احتواء الأزمة عبر حملات التنظيف ومعالجات محدودة النطاق، تبقى الحاجة قائمة إلى تشريعات بيئية أكثر صرامة، وخطط استراتيجية طويلة الأمد، وتوعية مجتمعية فاعلة.
وفي هذا السياق، تعمل الحكومة بالتنسيق مع مجلس النواب على تعديل قانون حماية وتحسين البيئة رقم (27) لسنة 2009، ليكون القانون الجديد أكثر مواكبة للتطور التكنولوجي، ومعايير حماية الموارد.
ويُعد هذا التعديل خطوة محورية في ظل تصاعد التحديات المناخية، إذ يُصنّف العراق ضمن قائمة أكثر الدول تضرراً من آثار التغير المناخي، ما يضاعف من المسؤولية الوطنية نحو بيئة آمنة.
وفي هذا الصدد، كشفت عضوة لجنة الصحة والبيئة النيابية، محاسن الحمدون، أن "المشروع وصل إلى البرلمان في وقت سابق، لكن تم سحبه من قبل الحكومة لغرض إعادة دراسته وتعديله بما يتناسب مع التطورات البيئية والتكنولوجية".
وأضافت الحمدون: "ننتظر وصول الصيغة المعدّلة إلى اللجنة لمراجعتها ودراستها دراسة مستفيضة، ومناقشة جوانبها كافة، بما يضمن إدراج الاحتياجات البيئية الفعلية للبلد في النص الجديد".
وأشارت إلى أنه "بالنظر إلى قرب انتهاء عمر الدورة التشريعية الحالية، من المرجّح أن يُرحّل مشروع القانون إلى الدورة المقبلة".
وتنتظر وزارة البيئة إقرار التعديل الجديد بما يلائم تطور الواقع التكنولوجي، خصوصًا أن القانون النافذ أُقر قبل أكثر من 16 عاماً، ولم يعد يواكب التغيرات الحديثة في أنماط الإنتاج والتنمية.
وفي هذا السياق، أوضح مدير إعلام وزارة البيئة، أمير علي الحسون، أن الوزارة هي جهة رقابية مسؤولة عن متابعة الأنشطة الصناعية، وهي الجهة المخولة بـ"منح الموافقات البيئية لجميع الأنشطة والمشاريع، من حيث الموقع، وآلية إدارة المشروع، ومراقبة الانبعاثات".
وأضاف أن الوزارة "تعمل على وضع استراتيجيات بيئية للحكومات المحلية والاتحادية، وتضطلع بدور توعوي لتعزيز الوعي البيئي لدى المؤسسات العامة والخاصة".
وأشار الحسون إلى أن "التغير المناخي أصبح واقعاً ملموساً، والعراق من الدول الأكثر تأثراً بتداعياته، الأمر الذي يستوجب مواءمة التشريعات مع التطورات التكنولوجية، خصوصًا في ما يتعلق بجودة ونوعية المشاريع الصناعية".
وبيّن أن "التعديل المقترح سيسمح بممارسة أنشطة كانت محظورة بموجب القانون السابق، لأنها باتت تُنفذ اليوم باستخدام تقنيات صديقة للبيئة".
وختم بالقول: "القوانين البيئية الجديدة تأخذ في الحسبان تطورات العصر، وتمكّن الوزارة من التعامل بمرونة ومسؤولية مع التقدم التقني، بما يسهم في حماية البيئة دون تعطيل التنمية".
يمثل الواقع البيئي في بغداد نموذجًا صادمًا لما يمكن أن تؤول إليه مدنٌ كبرى حين تتراجع أولويات التخطيط الحضري السليم، وتُهمّش السياسات البيئية المتوازنة. العاصمة العراقية، التي كانت يومًا ما واحة على ضفاف دجلة، أصبحت اليوم حقلًا مفتوحًا للتلوث، بكل أنواعه: هواءً وماءً وتربة.
أسباب هذا التدهور متعددة، تبدأ من اختناقات المرور وعوادم السيارات التي تطلق آلاف الأطنان من الغازات السامة، مرورًا بالمولدات الكهربائية التي تلوّث الأحياء السكنية، وانتهاءً بنهر دجلة الذي تحوّل إلى مستودع لتصريف المجاري والمخلفات الصناعية والطبية. ومع غياب التشجير، وتراجع المساحات الخضراء، تصير البيئة خانقة، لا توفّر حدًا أدنى من الهواء النقي أو الماء النظيف.
في هذه المعادلة المعقدة، يبدو المواطن البغدادي ضحية، لكنه في كثير من الأحيان شريك في الجريمة البيئية. فالممارسات الفردية من حرق عشوائي للنفايات، واستهلاك غير منظم للطاقة، ورمي النفايات في غير أماكنها، تُفاقم من الكارثة. وتغيب ثقافة بيئية حقيقية قادرة على تحويل السلوك اليومي إلى جزء من الحل لا جزء من المشكلة.
لكن المأساة لا تقف عند حدود الأضرار الظاهرة، بل تمتد إلى تأثيرات صحية ونفسية عميقة. فحسب خبراء الطب، فإن التلوث لا يسبب فقط أمراض الجهاز التنفسي والقلب، بل يتعداها إلى اضطرابات نفسية كالاكتئاب والقلق، نتيجة الضغط اليومي الذي يعيشه الفرد وسط بيئة مريضة تفتقر للسكينة البصرية والهواء النقي.
أما على مستوى الحلول، فما زالت التحركات الرسمية خجولة، ومحدودة النطاق. مشاريع تحويل النفايات إلى طاقة، ومحاولات استقطاب شركات لإدارة التلوث، كلها خطوات مهمة لكنها غير كافية إذا ما بقيت دون إطار تشريعي صارم ودون تمكين فعلي للبلديات.
وفي هذا الإطار، يُعد تعديل قانون البيئة خطوة جوهرية طال انتظارها، لكنها ما تزال تراوح مكانها بين أروقة البرلمان والحكومة. القانون القديم، الذي وُضع قبل أكثر من 16 عامًا، لم يعد قادرًا على مواكبة تحديات العصر، ولا يوفر أدوات كافية للتعامل مع أزمة من هذا الحجم والتعقيد.
اللافت أن الحكومة تعترف بالمشكلة، والبرلمان يناقش القانون، والوزارة تضع استراتيجيات، لكن الغائب الأكبر يظل هو الإرادة السياسية الحقيقية التي تضع البيئة على رأس أولوياتها، لا في الشعارات، بل في الإنفاق والتنفيذ والمساءلة.
التحدي الأكبر لا يكمن في نقص الحلول، بل في ضعف تطبيقها، وفي غياب الوعي الجمعي الذي يرى في البيئة قضية وجود لا مجرد مظهر. فبغداد، بتاريخها ورمزيتها، تستحق أن تتنفس. تستحق أن تعود مدينة صالحة للحياة، لا مختبرًا مفتوحًا للأمراض والمخاطر.
ولتحقيق ذلك، لا بد من خطة وطنية شاملة تتجاوز الحملات المؤقتة، وتبني شراكة حقيقية بين الدولة والمواطن، قائمة على التثقيف والتشريع والتمويل. إذ لا تنمية دون بيئة سليمة، ولا بيئة دون مواطن واعٍ، ولا وعي دون دولة تأخذ مسؤولياتها بجدية.