بلا حلول تُذكر.. العراق يواجه وباء التلوث الضوضائي وصمت الدولة يفاقم صخب المدن

انفوبلس..
في ظل تصاعد معدلات الضجيج في المدن العراقية، يُدق ناقوس الخطر بشأن أزمة بيئية وصحية تتفاقم بصمت: التلوث الضوضائي. نسب الإصابة المرتفعة، والتأثيرات العميقة على الصحة العامة، تكشف عن واقع عمراني مختلّ وتشريعات غير مفعّلة، في وقت يغيب فيه التخطيط البيئي المستدام.
أرقام مرتفعة
وبهذا الصدد، كشف المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق أن 80% من العراقيين مصابون بمرض "التلوّث الضوضائي"، وهو أمر يحمل العديد من الأخطار، فيما طالب السلطات بمعالجة أسبابه.
وفي بيان صادر عن المركز اليوم الثلاثاء 27 أيار 2025، نقل عن رئيسه فاضل الغراوي، أن "التلوث الضوضائي في العراق لا يقل خطورة عن تلوث الهواء والبيئة فيه"، لافتاً إلى أن "أجهزة قياس الضوضاء في العاصمة بغداد سجلت ارتفاعاً بنسب (التلوث الضوضائي) أعلى من المعدل المعتمد من قبل منظمة الصحة العالمية".
وأشار الغراوي إلى أن "أجهزة التحسس لمنظمة الصحة العالمية، سجلت نسب قياسات بالتلوث الضوضائي في بغداد، تراوحت بين ( 37،5 إلى 76 ديسبل) وهي أعلى من المحدد الخاص بالمناطق السكنية والمحدد من قبل المنظمة بـ45- 55 ديسبل"، موضحاً أن "أسباب ارتفاع التلوث الضوضائي يعود إلى ارتفاع معدلات النمو السكاني في العراق وانتشار المعامل والورش الصناعية داخل المدن بدون محددات بيئية، والارتفاع الكبير في أعداد السيارات الذي وصل إلى أكثر من سبعة ملايين سيارة التي تستخدم المنبهات العالية أو أجهزة المضخم أو المحورة (ثقب الصالنصة) وانتشار المولدات الكهربائية التي لا تحتوي على كواتم للصوت، إضافة إلى أصوات الطائرات".
وبحسب قوله فإن "تقارير منظمة الصحة العالمية تبين أن الحد الأقصى للضوضاء التي يتعرّض لها الشخص يومياً يجب أن لا يتجاوز (85 ديسيبل) لمدة أقصاها ثماني ساعات في اليوم الواحد، وما فوق ذلك قد يوثر بشكل سلبي على الصحة الجسدية والنفسية للإنسان".
وأشار مدير المركز إلى أن "التعرض المستمر لمستوى ضجيج يتجاوز (80 ديسيبل) خلال الممارسات اليومية الاعتيادية، له أبعاد صحية جسيمة، وأن التلوث الضوضائي لا يؤدي إلى فقدان السمع وطنين الأذن وفرط الحساسية تجاه الصوت فحسب، وإنما قد يتسبب في الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية أو يؤدي إلى تفاقمها، والإصابة بداء السكري من النوع الثاني، فضلاً عن اضطرابات النوم والضغط العصبي ومشاكل الصحة العقلية والإدراك، بما في ذلك ضعف الذاكرة ونقص الانتباه، بجانب تأخر التعلم في مرحلة الطفولة".
وطالب الغراوي، الحكومة والوزارات المعنية والمحافظات المحلية، بـ"معالجة ارتفاع مؤشرات التلوث الضوضائي من خلال إنشاء مدن صناعية حديثة خارج المدن وإلغاء المعامل والمصانع والورش الصناعية داخلها، والزام أصحاب المولدات بوضع كواتم، ووضع غرامة على المركبات التي تستخدم المنبه والمركبات التي تصدر أصواتاً عالية بواسطة (جهاز المضخم) أو المحورة (ثقب الصالنصة)"، كما طالب بـ "وضع مصدات للعزل الصوتي والحراري في المدن كافة".
الحاجة لتحرك جماعي
وقبل أيام، حذر رئيس مركز "الفرات" البيئي، صميم سلام، من مخاطر "التلوث الضوضائي" في العراق لما يشكله من تهديد للصحة العامة، مشدداً على ضرورة "التحرك الجماعي" للحد من هذا التهديد.
وأوضح سلام أن "مصادر التلوث الضوضائي متنوعة وتشمل وسائل النقل مثل السيارات والشاحنات والدراجات النارية، والأنشطة الصناعية كالمصانع والآلات والمعدات الثقيلة، وأعمال البناء كآلات الحفر والهدم، إضافة إلى الطيران مثل المروحيات والطائرات النفاثة، وأخيراً الضوضاء المنزلية الناتجة عن استخدام الأجهزة الكهربائية كالمكنسة وغسالة الملابس".
وبيّن أن "وكالة حماية البيئة الأمريكية (EPA) تحدد مستوى الضوضاء المسموح به في المؤسسات التعليمية بين 30 و40 ديسيبل، بينما يتراوح في المناطق السكنية عادة بين 40 و60 ديسيبل، ويرتفع في المناطق الصناعية ليزيد عن 60 ديسيبل، وهو ما يجعل بعض البيئات أكثر عرضة لتأثيرات الضوضاء الضارة".
وأشار رئيس المركز إلى أن "للتلوث الضوضائي آثار سلبية خطيرة على الصحة، من أبرزها فقدان السمع الناتج عن التعرض لفترات طويلة لمستويات عالية من الضوضاء، إضافة إلى الشعور بالتوتر والقلق واضطرابات النوم، ما ينعكس سلباً على الصحة النفسية ويؤثر على الأداء في العمل أو الدراسة".
وأكد أن "الحد من التلوث الضوضائي يتطلب اتخاذ عدة إجراءات، منها استخدام معدات السلامة الشخصية مثل سدادات الأذن أو سماعات الرأس، وكذلك تطبيق القوانين الخاصة بتنظيم الضوضاء في الأماكن العامة"، لافتاً إلى أن "قانون حماية وتحسين البيئة العراقي رقم 27 لسنة 2009 في مادته السادسة عشر، يتناول مسألة التلوث الضوضائي ويدعو إلى اتخاذ الإجراءات الكفيلة بالحد منها، بما في ذلك تحديد مصادر الضوضاء، وحماية الصحة العامة والبيئة".
وتابع "من الوسائل الفعالة أيضاً تصميم المدن بطريقة تقلل من مستويات الضوضاء، كإنشاء المناطق الخضراء، إلى جانب رفع الوعي المجتمعي بأهمية الحد من الضوضاء وتأثيراتها السلبية على الصحة".
وشدد رئيس مركز "الفرات" البيئي على أن "أهمية مكافحة التلوث الضوضائي تكمن في حماية الصحة العامة وتحسين جودة الحياة"، مؤكداً أن "هذه المهمة تتطلب تضافر الجهود بين الأفراد والمجتمعات والدوائر المختصة، من خلال الإبلاغ عبر قنوات التواصل كخطوط الشكاوى وغيرها".
وختم بالقول إن "هذا النهج يعزز من المسؤولية البيئية المجتمعية ويضع أساساً للتغيير المستدام".
تزايد الملوثات
في الوقت الذي تتجه فيه الأنظار إلى مشاكل التلوّث البيئي التقليدية كالدخان والنفايات والمياه الملوثة، يبرز التلوّث الضوضائي في العراق كخطر غير مرئي لكنه ملموس في تفاصيل الحياة اليومية. فالأرقام المعلنة من قبل المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان صادمة: 80% من العراقيين يتعرضون يومياً لمستويات من الضجيج تتجاوز المعايير الصحية المعترف بها عالمياً، ما يسلّط الضوء على أزمة بيئية وصحية مركبة تتنامى في غياب استراتيجيات حكومية فعّالة.
سمّ العصر الحديث
التلوث الضوضائي، الذي يُنظر إليه عالمياً على أنه أحد أشكال "التلوث الصامت"، يتسبب بمشاكل صحية تمتد من فقدان السمع واضطرابات النوم إلى أمراض القلب والسكري واضطرابات نفسية ومعرفية. وفي العراق، حيث تختلط أصوات المولدات بالسيارات المعدّلة، وأصوات المعامل والورش بأبواق التنبيه المتواصلة، يصبح من الطبيعي أن تُسجّل بغداد، كمثال، قراءات تتجاوز 70 ديسيبل في مناطق سكنية، وهو مستوى يشكّل تهديداً للصحة العامة.
فوضى عمرانية وتشريعية
يكشف التقرير أن من أبرز أسباب تفاقم المشكلة غياب التخطيط العمراني البيئي، إذ تنتشر الورش الصناعية والمصانع داخل الأحياء السكنية دون أي ضوابط بيئية. ويُضاف إلى ذلك الانفلات المروري والاستخدام العشوائي لأجهزة التنبيه والمضخمات الصوتية، في ظل غياب رقابة حقيقية أو تفعيل للأنظمة المعمول بها. ورغم أن قانون حماية وتحسين البيئة رقم 27 لسنة 2009 ينص صراحة على معالجة هذا النوع من التلوث، إلا أن التنفيذ لا يزال دون المستوى، ويعاني من ضعف التنسيق بين الجهات المعنية.
الصحة النفسية في مهب الضجيج
التأثير النفسي للضوضاء ربما يكون الأخطر، خاصة في بلد يعاني أساساً من إرث طويل من التوترات الأمنية والاجتماعية. فالتعرض المزمن لمستويات عالية من الضوضاء يراكم مستويات التوتر والقلق، ويؤثر على التركيز والذاكرة، ويضاعف التحديات التي يواجههاالأطفال في التعلّم. في ظل هذا الواقع، تبدو جودة الحياة في المدن العراقية مهددة بشكل عميق، خاصة مع غياب الحد الأدنى من "الهدوء الحضري".
من الوعي إلى السياسات
البيانات المعروضة لا تكفي وحدها لإحداث التغيير؛ المطلوب هو تحرك سياسي وتشريعي يعيد ترتيب أولويات التنمية الحضرية، ويربط الصحة العامة بالبيئة الصوتية. إنشاء مدن صناعية خارج التجمعات السكنية، وتحديد مناطق منخفضة الضوضاء، وتطبيق غرامات رادعة، وتحديث البنى التحتية المرورية والصناعية...
كلها خطوات لا بد أن تكون جزءاً من رؤية وطنية متكاملة.
العراق لا يفتقر إلى التشريعات أو الخبرات البيئية، بل إلى الإرادة السياسية الفاعلة والحوكمة الرشيدة. معالجة التلوث الضوضائي تتطلب ما هو أكثر من البيانات والتحذيرات؛ تتطلب إدراكاً بأن "الصوت العالي" لا ينبغي أن يكون القاعدة، وأن الصمت في بعض الأحيان... ضرورة لحماية الإنسان والمجتمع.