بين الأصالة والحداثة.. إعادة هيكلة حضرية لقلب بغداد القديمة.. شارع الرشيد يعود إلى الواجهة

انفوبلس..
يشهد شارع الرشيد، القلب النابض لبغداد القديمة، مشروع تأهيل واسع النطاق يهدف إلى إعادة الحياة إلى أحد أعرق شوارع العاصمة. بنسبة إنجاز بلغت 80%، تتكاتف الجهود العراقية لترميم الهوية التراثية للشارع، وسط آمال شعبية بأن يستعيد مجده الثقافي والسياحي بعد عقود من الإهمال.
ووسط العاصمة بغداد وفي قلبها التاريخي، لا يتوقف صوت الآلات، وتملأ الأتربة المكان مع أعمال تأهيل مستمرة ونشاط لافت، الحركة تضج في مدخل المنطقة من جهة الميدان وتتسابق من أجل تحديد معالم عودة مختلفة، أما الهدف فهو إرجاع البريق إلى شارع الرشيد؛ أحد أهم شوارع بغداد القديمة.
ومن المترقب أن يستعيد هذا الشارع شكله التراثي الذي كاد يفقده، فضلا عن ترميم شامل للبنايات المتهالكة، نسبة الإنجاز متقدمة والافتتاح بات قريباً إذ وصلت إلى 80 بالمئة.
يؤكد مستشار رئيس الوزراء للشؤون الثقافية، د. عارف الساعدي أن عملية التأهيل الكبيرة التي يشهدها شارع الرشيد تمت بأيدٍ عراقية وبمساهمة بعض الشركات المحلية وبالاستعانة بخبرة محدودة لشركات تركية، ويعطي الساعدي للمساهمة العراقية أهمية بالغة.
ويبيّن الساعدي أن الحكومة الحالية وضعت خطة شاملة لتأهيل الشارع ضمن أربعة محاور؛ بدأ أولها من الميدان إلى ساحة الرصافي ويشمل 70 إلى 72 بناية تراثية على أن يمتد العمل لاحقاً ليشمل كامل الشارع ويصل حتى المطعم التركي وبطول يقارب ثلاثة كيلومترات وسيشمل ترميم أكثر من 180 بناية.
وكشف مستشار رئيس الوزراء عن خطة لإطلاق ترامواي سياحي داخل الشارع يربطه بالميدان في مرحلة أولى، بعد اكتمال أعمال التأهيل.
وأوضح أن أهمية شارع الرشيد تنبع من قيمته السياسية والثقافية والاجتماعية، إذ مثل لعقود ذاكرة العراقيين ومركز الحركة الثقافية من مقاهٍ ومكتبات ودور نشر وسينمات قبل أن يتراجع دوره لأكثر من خمسين عاماً.
كرار رياض أحد رواد شارع الرشيد، يتحدث قائلاً: إن شارع الرشيد يعود اليوم إلى الواجهة بمشروع تأهيل يبعث الأمل في نفوس البغداديين، كأنه محاولة لبعث الحياة في قلب المدينة بعد سنوات من الإهمال.
مضيفاً أن توحيد الواجهات وتنظيم البنايات يعطي الشارع لمسة جمالية راقية تليق بمكانته التاريخية، ويمنح المواطن والسائح إحساساً بالترتيب والاهتمام، وهو ما افتقدناه طويلاً.
مؤكداً أن هذه التحسينات تعكس رغبة واضحة في إعادة الاعتبار لبغداد القديمة، وتفتح الباب أمام عودة الفعاليات الثقافية والسياحية إلى مركزها الطبيعي.
لكن وسط هذا الحماس، يشير رياض إلى أن من المهم ألا ننسى أن الروح لا تُرمم بالطلاء وحده، الشارع يجب أن يستعيد تنوعه الحقيقي، لا أن يُختزل في واجهات متشابهة، الجمال مطلوب، لكن بشرط ألّا يطمس هوية المكان ولا يُحوّل التراث إلى نسخة مفرغة من أصله، وأن التوازن بين التجديد والأصالة هو التحدي الحقيقي.
على بعد أمتار من تمثال الرصافي عند شارع الرشيد التقينا حسين أبو دانيق، صاحب أحد المحال في شارع الرشيد، قائلاً: أنا من أبناء هذه المنطقة منذ الطفولة وشارع الرشيد كان مقصداً للسياح والطلاب في السبعينيات، ونتمنى أن يعود كما كان.
ويضيف، أن التأهيل خطوة إيجابية والمظهر العام بدأ يتغير نحو الأفضل ونتعاون مع الشركات والمهندسين والعمال، وهم بدورهم متعاونون معنا وبأخلاق عالية.
موضحاً أن ما يجري الآن العمل على توحيد واجهات المحال، وهو أمر نعده إيجابياً ويحافظ على هوية الشارع، لكننا رغم ذلك نعاني من البطء والتعارضات، ونحن نعتمد بشكل كبير على الموسم الدراسي وتأخر الأعمال قد يكلفنا كثيراً.
على الجانب الآخر من الشارع يرى علي عبد الكريم صاحب أحد المحال في شارع الرشيد أن الشارع تغير بشكل واضح والتأهيل الحالي خطوة إيجابية جداً والمشروع لا يحافظ على هوية الشارع فقط، بل يعزز ثقافته وجذب السياح إليه، وهذا شيء نحتاجه.
وأضاف: رغم أننا تضررنا مادياً أثناء عمليات التأهيل، وبعض الزبائن توقفوا عن المجيء بانتظار إكمال التأهيل، ورغم الخسائر المؤقتة إلا أن التأهيل خطوة مهمة على المدى البعيد وستعود بالفائدة لأن الزبائن سيعودون ويرجع للشارع نبضه.
وبالقرب من مقهى الزهاوي في شارع الرشيد أوضح المهندس صهيب جليل، مهندس موقع أن عملية التأهيل شملت ترميم الواجهات و"الدنك"، إضافة إلى تجديدات داخلية لبعض الأبنية مثل استبدال الكاشي والسيراميك، بينما لم تدخل بعض البنايات في أعمال داخلية.
وأضاف جليل، أنه لا وجود لأعمال هدم باستثناء ثلاث بنايات متهالكة جداً نخشى انهيارها وهي بناية حسن عجمي وبناية مرطبات حجي زبالة وسيعاد النظر بوضعها بعد افتتاح المشروع.
وأشار إلى أن نسب الإنجاز تتقدم بشكل واضح ونتوقع تسليم المرحلة الحالية بتاريخ 8/31 علماً أن هناك أكثر من شركة تعمل في المشروع بتعاون وتنسيق واضح ويمكننا القول إن نسبة الإنجاز الحالية تجاوزت الـ80 %.
ومن ناحية الخدمات، أكد أن البنى التحتية للشارع كانت قديمة جداً ومتهالكة وتمت معالجتها بالكامل عبر تأسيس شبكة مجارٍ جديدة، وتنفيذ منظومات للحريق في الشارع مع الحرص على دفن خطوط الكهرباء بطريقة غير ظاهرة بما يعزز المظهر التراثي والحداثي للشارع معاً.
كما أوضح حيدر العامري مدير إعلام بلدية مركز الرصافة، أن أعمال تأهيل شارع الرشيد تأتي تنفيذاً لتوجيهات رئيس الوزراء وأمين بغداد وبإشراف مباشر من الكادر المتقدم في البلدية، باشرت رابطة المصارف العراقية تنفيذ الأعمال في المقطع الممتد من ساحة الميدان إلى ساحة الرصافي، وتنفذ حالياً على مدار اليوم صباحاً ومساءً.
وبين العامري أن دور بلدية مركز الرصافة يتمثل في دعم فريق التطوير من خلال تزويده بالخرائط وإجراء الكشوفات والجولات الميدانية وتسهيل دخول الآليات ومعالجة الاختناقات المرورية بالإضافة إلى إزالة التعارضات والتجاوزات بما يضمن سلامة المواطنين دون المساس بكرامتهم مع تنظيم عمل أصحاب المصالح التجارية على الأرصفة.
واختتم قائلاً: بعد اكتمال التطوير ستواصل بلدية الرصافة أعمالها من خلال أربع وجبات عمل يومية: صباحية، ومسائية، وليلية، وفجرية لضمان النظافة والصيانة والإدامة المستمرة.
وفي قلب بغداد، حيث تلتقي الذاكرة بالتاريخ، ينهض شارع الرشيد من سباته الطويل. هذا الشارع العريق الذي طالما كان ملتقى للمثقفين، ومنبراً للصحافة، وساحة نابضة بالفن والسياسة، يخضع اليوم لعملية ترميم شاملة قد تكون الأوسع منذ تأسيسه مطلع القرن العشرين.
لطالما مثّل شارع الرشيد مرآة لروح بغداد المتغيرة، فمن أيام السينمات القديمة ومقاهي الأدباء مثل مقهى الزهاوي ومقهى حسن عجمي، مروراً بمحلات بيع الكتب ودور النشر، وصولاً إلى واجهات المحال التجارية التي شكلت جزءاً من هوية البغدادي، يختزن الشارع في جنباته فصولاً من ذاكرة وطن. واليوم، تسعى الحكومة إلى استعادة تلك الهوية، لا من باب الحنين فقط، بل من منطلق اقتصادي وثقافي مدروس.
وبحسب مستشار رئيس الوزراء د. عارف الساعدي، فإن المشروع الحالي ليس مجرد مبادرة تجميلية، بل خطة تأهيل شاملة، تمتد من ساحة الميدان إلى المطعم التركي، تشمل ترميم أكثر من 180 بناية تراثية، وتنفذ بأيادٍ عراقية بمساهمة شركات محلية وبعض الدعم الفني التركي، ما يعكس إصراراً على جعل إعادة الإحياء عملية سيادية خالصة.
العمل على توحيد الواجهات، وإزالة التجاوزات، وتجديد البنى التحتية، يعكس توجهاً نحو تحديث المدينة دون المساس بروحها، وهو ما أكده المهندس صهيب جليل الذي أشار إلى استبدال شبكات الكهرباء والمجاري، وإدخال منظومات إطفاء حرائق دفينة، تماشياً مع الطابع التراثي الحديث.
غير أن القصة لا تكتمل دون أهل الشارع، الذين يشهدون التغير بأعينهم. كرار رياض، أحد رواده القدامى، يرى أن الشارع يستعيد نبضه. أما حسين أبو دانيق، ابن المنطقة، فيعبّر عن تفاؤله ممزوجاً بالقلق من بطء التنفيذ، خاصةً أن كثيراً من المحال تعتمد على المواسم الدراسية كمصدر دخل أساسي.
في حين يؤكد علي عبد الكريم أن الخسائر المؤقتة لن تكون شيئاً أمام ما ينتظر الشارع من عودة سياحية واقتصادية، شريطة الحفاظ على خصوصيته وهويته، وهي النقطة التي شدد عليها رياض بقوله: "لا نريد شارعاً مطلياً فقط.. نريد روحه أيضاً".
التجديد ضروري، لكن بحدود لا تطمس الأصل. التحدي الحقيقي الذي يواجه المشروع، كما عبر عنه المواطنون، هو في إيجاد توازن دقيق بين الترميم الحديث والمحافظة على الهوية البغدادية، لأن شارع الرشيد ليس مجرد طريق، بل سردية مفتوحة، وكل حجر فيه يشهد على تاريخ طويل ومعقد.
تشير الخطط الحكومية إلى إدخال "ترامواي سياحي"، وهو ما قد يربط الماضي بالحاضر ويحول الشارع إلى نقطة جذب حضرية وسياحية متكاملة. كما أن استمرار التنظيف والصيانة عبر أربع وجبات عمل يومياً، يؤكد الجدية في جعل المشروع مستداماً لا مؤقتاً.
ليس من السهل ترميم شارع مثل الرشيد. فترميمه لا يعني بناء أحجار أو دهن جدران، بل استعادة لروح بغداد التي كادت تختفي تحت ركام الإهمال. فإذا نجحت هذه المحاولة، فلن تكون فقط إنجازاً عمرانياً، بل ستكون بمثابة كتابة فصل جديد في ذاكرة العاصمة، يليق باسمها ومكانتها.