بين فساد القطاع العام وتخلف الخاص.. رحلة البحث عن عمل "الشاقة" في العراق
انفوبلس/..
يفضل خريجو الكليات والمعاهد في العراق وظيفة حكومية على العمل في القطاع الخاص لأسباب عديدة، مع أن كليهما صعب المنال. ويقف في مقدمة الاسباب عدم وجود قوانين تضمن حقوق العاملين في القطاع الخاص، إذ أن من الممكن أن يعمل الموظف أوالعامل فيها لسنوات، يجري بعدها تسريحه وفق اهواء ومصالح صاحب العمل دون اي حقوق. وهناك أيضا شحة الفرص في القطاع الخاص، الذي يعاني هو الآخر من مصاعب جمة، يقف في مقدمتها افتقار سوق العمل إلى التنظيم والأمن والحماية الاجتماعية والبيروقراطية.
ولم يعد الحصول على وظيفة في القطاع العام متاحاً للجميع وفق برنامج التعيين المركزي، الذي عُمِل به قبل الاحتلال، ولا يعتمد على المؤهل العلمي المفترض لشغل الوظيفة، ومبدأ المنافسة الشريفة، كما أن الحكومة لا تضمن تعيين أحد من الخريجين مهما كان تحصيله وكفاءته، بسبب تغول الأحزاب والميليشيات وسيطرتها على الدرجات الوظيفية في مختلف الوزارات، حيث يجري توزيعها عليهم بعيداً عن تلك المبادئ.
وخسرت البلاد جراء ذلك الآلاف من الكفاءات التي كان بإمكانها النهوض بواقع البلد في كل المجالات، حيث شد المتمكنون الرحال إلى بلدان اجنبية، أما من لم يمتلك ثمن تذكرة السفر، فبقي يطرق أبواب الدوائر الرسمية صباحاً، ويتسكع في مقاهي العاطلين مساء.
مقهى العاطلين
و”مقهى العاطلين” اسم مجازي اطلقه شباب أحد الأحياء الفقيرة في العاصمة الغنية بغداد، حيث يلتقون به في فترة مابعد الظهر، بعد نهار شاق يقضونه بالبحث عن وظيفة، يطرقون خلاله باب هذه الوزارة أو تلك مع قليل من الامل بالحصول على وظيفة، “لكن الامل موجود”، يقول عصام، الذي تخرج من معهد الادارة قبل ثلاث سنوات، وهو عاطل عن العمل، “حتى إشعار آخر” حسب تعبيره.
الحكومات الماضية لم توفر فرص عمل للمواطنين، وكانت هناك فوضى في التعيينات في العراق
ويعتقد عصام أن مقاهي العاطلين منتشرة في كل حي وكل محافظة، حيث أصبح العاطلون أكثر من العاملين، في وقت يحتاج فيه بلدهم لخبراتهم. ويهمس عصام في أذن صحفي أجرى تحقيقاً حول البطالة في العراق بقوله، “ألاحزاب تحتكر الوظائف، حتى العقود المؤقتة يتحاصصون عليها!”
ثم يستدرك الشاب قائلاً “يمكنك الحصول على وظيفة اذا كنت منتمياً لإحدى الميليشيات، بل أنك تستطيع الحصول عليها اذا جلبت لهم (تسكرة) من احد المعممين!”
والتسكرة هي “ورقة ممهورة بختم المعمم، تكون بمثابة تزكية له، حيث يتم قبوله في الوظيفة، تبعاً لقوة تأثير ختم المعمم في الدائرة المعنية”، يقول عصام
قضية مزدوجي الوظيفة
ومع أن الارقام الرسمية لا يعتد بها، لأنها ليس دقيقة في الغالب، لكن نسبة 40% ليست بالرقم الهين بالنسبة لعدد العاطلين من الشباب. واعتاد المسؤولون على اختلاف مناصبهم على القاء اللوم على من سبقهم في قضية البطالة كما في غيرها من القضايا، ففي احد مؤتمراته الصحافية، قال رئيس الوزراء “مصطفى الكاظمي”، إن “الحكومات الماضية لم توفر فرص عمل للمواطنين، وكانت هناك فوضى في التعيينات في العراق”، واعتبر أن “الزيادة الكبيرة في عدد موظفي الدولة العراقية بطريقة شعبوية عبثية أنهكت الاقتصاد العراقي”، لكنه لم يتطرق لمزدوجي الرواتب، الذين ضاعفوا عدد موظفي الدولة دون انتاج، وأنهكوا موازنة الدولة، بنفس الوقت الذي حرموا فيه أعداداً كبيرة من الخريجين من فرصة عمل. وبحسب الكاظمي، فإن “نسبة الزيادة بموظفي الدولة العراقية بلغت 400%” بين عامي 2004-2019، وأن القطاع العام “يشكّل ثلثي الموازنة العراقية”.
وبحسب منسقة العراق في منظمة العمل الدولية “مها قطّاع”، فإن النسيج الاقتصادي يكون هشاً في بلد “يوظف فيه القطاع العام 3,3 ملايين شخص، أي نحو 37,9% من السكان الناشطين اقتصادياً”، وهذه واحدة من أعلى النسب في العالم، لكن هذه الارقام لا تنسجم مع عدد العاطلين في البلد، وهو أمر يفضح قضية مزدوجي الوظيفة، الذين يستلمون رواتب من جهتين مختلفتين، إذ كيف يمكن أن ترتفع نسبة البطالة إلى هذا الرقم، عندما يشكل الموظفون 37,9% من السكان؟
الحل في القطاع الخاص ولكن ..
ومع وجود هذا العدد من العاطلين من مختلف الاختصاصات ومختلف المستويات العلمية، يبرز دور القطاع الخاص في استيعابهم، لكن يتوجب على الشركات الاهلية أولاً “تحسين ظروف العمل ودفع تأمين صحي، ولا بدّ لرواتبها أن تكون على نفس مستوى رواتب القطاع العام وهذا أكثر تعقيداً، لأنّ في القطاع الخاص ما يهمّ هو الربح”. بحسب المسؤولة في منظمة العمل.
أما الباحث الاقتصادي حامد الجبوري، فيرى أنّ “من أسباب ضعف القطاع الخاص في العراق هو غياب القوانين التي تنظّم عمله أو تضمن حقوق العاملين فيه، لأنّ معظم من يتولّون الملف الإقتصادي في البلاد لا يهمّهم القضاء على البطالة أو حل المشاكل الاقتصادية، بقدر إهتمامهم بضمان مصالحهم الشخصية”. ويؤكد الباحث، أنّ “غياب القوانين والتشريعات التي تحمي المنتج المحلي أدّت الى إهمال حمايته، رغم أنّه يُمكن أن يُسهم في حل مشكلة البطالة بشكل كبير، وهذا الاهمال وعدم الاهتمام، يدفع بالكثير من أصحاب رؤوس الاموال الجشعين إلى استغلال حاجة العاملين معهم وعدم منحهم حقوقهم بشكل كامل، فلا يوجد قانون يُجبرهم على تعديل الرواتب أو تحسينها مراعاةً لظروف العمال والموظفين”. أما الباحث الإقتصادي د. إيهاب النواب، فيرى أنّ “حل مشكلة العاطلين عن العمل سيكون بعيداً في ظل غياب خطط حكومية جادّة، أو خطوات لمحاربة الفساد المالي والإداري الذي ينخر جسد مؤسسات الدولة”، مبدياً أسفه لأن “الطاقات الشبابية في العراق اصبحت معطّلة وخارج نطاق الخدمة، حيث يعمل بعضهم في مهن هامشية لا تُناسب شهاداتهم، ويتطوّع بعضهم الآخر في وحدات الجيش أو يلتحق بأحد مفاصل الشرطة بحثاً عن راتب شهري، فيما يبقى أغلبهم بإنتظار حلول حقيقية تُلامس مشاكلهم وتُخرجهم من أزماتهم".