تآكل أجزائها وانخفاض ارتفاعاتها.. كيف يهدد تغير المناخ المواقع الأثرية في العراق؟

انفوبلس/ تقرير
تتعرض المواقع الأثرية في العراق، والتي تعتبر من أغنى المناطق في العالم بالتراث الحضاري، إلى أضرار كبيرة بسبب العوامل الناجمة عن التغير المناخي، كالعواصف الرملية وتزايد الملوحة، وسط تأكيدات على ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة لحماية المواقع من الآثار المدمرة لهذا التغير، ويسلط تقرير "انفوبلس" على أبرز المدن المتضررة.
"تشققات وتصدعات في الأبنية، وتآكل في الزخارف والنقوش، وتقشر في أحجار الهياكل، إلى جانب تخلخل الأساسات وتفتتها، في حين تطمر العواصف الرملية مدناً أثرية بأكملها"
ويعتبر العراق، وفق الأمم المتحدة، خامس البلدان الأكثر تعرضاً للتدهور المناخي عالميا، نظراً للظواهر المناخية العنيفة التي تعصف به منذ نحو عشر سنوات.
وأشارت إحصائيات صادرة عن الأمم المتحدة إلى أن العراق شهد عام 2021 ثاني أكثر مواسمه جفافاً منذ 4 عقود، بسبب الانخفاض القياسي في هطول الأمطار. وعلى مدى السنوات الأربعين الماضية، انخفضت، بنحو 40%، تدفقات المياه في نهري دجلة والفرات، اللذَين يوفران نحو 98% من المياه السطحية في العراق.
خبراء يكشفون
يقول خبير الآثار العراقي، عامر عبد الرزاق، إن آثار الرياح والجفاف والرطوبة بادية على كثير من الشواخص والمعابد في مدينة الحضر وفي بابل أيضا ومدينة أور. ويضيف: "تأثيرات تغير المناخ واضحة على زقورة أور ومعبد "دب لال ماخ" والمقبرة الملكية في أور، وكذلك في مدينة الوركاء وزقوراتها ومعابدها ومدينة آشور أيضا في الشرقاط ومدينة نيبور في محافظة ديوانية".
ولاحظ عبد الرزاق وخلال زياراته المتكررة لتلك المواقع، "تآكل كثير من أجزائها وانخفاض ارتفاعاتها، فالزقورات ومنها زقورة أور يقل ارتفاعها سنويا بنسب قليلة وتنخفض عن مستوى الأرض ببعض السنتمترات". كما يؤكد بالقول، "على الرغم من أن الانخفاض يجري بنسب قليلة سنوية، لكن إذا استمر الحال هكذا فإنها بمرور الزمن وبزيادة الوتيرة في التغير المناخي ستختفي هذه المدن الاثرية".
ويطالب خبير الآثار، الحكومة العراقية بالعمل "للحفاظ على الآثار باستخدام تقنيات حديثة وإجراء عمليات صيانة لحماية هذا الإرث الحضاري من العوامل الجوية المتطرفة". فيما يقترح عبد الرزاق إنشاء سقائف واقية عملاقة لحماية جميع المواقع الأثرية أو بناء صناديق زجاجية عملاقة لحماية المقابر الملكية والزقورات والمواقع والمباني الأثرية الأخرى كي تحميها من الرياح والعواصف الرملية.
في المقابل، يؤكد عبد الرزاق وجود خطط حكومية لصيانة الآثار، لكنه يعتقد أنها لا ترقى إلى مستوى المشكلة، ويشير في الوقت ذاته إلى أن كثرة المواقع الأثرية وانتشارها في مواقع نائية يجعل من الصعب شمولها جميعا بالإجراءات الحكومية، وهناك حاجة إلى جهد حكومي أكبر وصندوق مالي خاص بعمليات ترميم وصيانة الآثار.
وتقدم كنيسة "الأقيصر" الأثرية، جنوب غربي محافظة كربلاء وسط البلاد، مثالا بارزا على تأثير التغير المناخي على الآثار والمباني التراثية في العراق، بحسب وزارة الثقافة والأثار العراقية.
في سبتمبر الماضي، قالت الوزارة في بيان إن "الهيئة العامة للآثار والتراث في الوزارة تواصل تعاونها المشترك مع فريق التغيرات المناخية بشأن تدارس تأثير التغيرات المناخية والتطرفات المرتبطة بها على الآثار العراقية وقد اتخذت موقع القصير الآثاري نموذجا لهذا التأثير".
ولفت البيان الى أن كنيسة "الأقيصر" التي يعود تاريخ بنائها إلى القرن الخامس الميلادي، كانت تتميز بوجود كتابات باللغة الآرامية على جدرانها، لكن هذه الكتابات اندثرت، فضلا عن تساقط أجزاء من جدران الكنيسة بفعل عوامل المناخ التي تشكل مشكلة حقيقية تهدد باندثار هذا المعلم الحضاري.
من جانبه، يقول الأستاذ في علم الآثار بجامعة القادسية جعفر الجوذري إن الرياح حاليا "مليئة بكميات أكبر من الغبار"، و"تحمل شوائب من الأرض، خصوصاً الرمال والطمى، مما يؤدي إلى تآكل المباني" الأثرية.
ويلفت إلى أنّ المشكلة تكمن في فصول شتاء أكثر جفافا ومواسم صيف حارة بصورة متزايدة، إذ تُسجل فيها درجات حرارة تتخطى 50 درجة مئوية، وهو ما يؤدي إلى "إضعاف التربة وتفتيتها بسبب قلة الغطاء النباتي".
ويتمثل العامل الآخر في الملوحة التي تشكل العدو الثاني للمواقع الأثرية، ويعود سببها إلى البيئة "الجافة جدا"، حسبما أكد مارك الطويل أستاذ آثار الشرق الأدنى في جامعة "يو سي إل" بلندن، قائلا عندما "يتبخر الماء بسرعة كبيرة، لا يبقى سوى الأملاح". ويؤدي تراكم كميات كبيرة من الأملاح إلى تأكل كل شيء.
ويعاني العراق الجفاف رغم وجود نهريه الشهيرين دجلة والفرات، وهما المصدر الرئيسي للري عند غالبية فلاحي هذا البلد، ويعود الجفاف لنقص الأمطار بشكل كبير، كما تحد بعض السدود في البلدان المجاورة للعراق من تدفق المياه كذلك.
يقول الجوذري إنّ العراقي لديه "أسوأ إدارة هيدوليكية"، فهي تعود إلى العصرين السومري والأكادي وتستمر حتى اليوم، ويعتمد فيها المزارعون على الري بطريقة الغمر التي تستهلك كميات هائلة من الماء وتتسبب بخسائر كبيرة.
بالتالي، يدفع نقص المياه بشكل تدريجي المزارعين والرعاة للهجرة إلى المدن بهدف البقاء على قيد الحياة. بالنتيجة، "بعد أن يهجر المزارعون أراضيهم، تصبح التربة أكثر عرضة للرياح" التي تحمل معها الرمال والطمى، وفقا للجوذري.
وتشير إحصائيات رسمية، أعلن عنها وزير الثقافة والسياحة والاثار، أحمد البدراني، خلال مقابلة متلفزة، في أكتوبر الماضي، الى أن العراق يحتضن أكثر من 15 ألف موقع أثري مثبت، بينما تبلغ أعداد المواقع الأثرية غير المثبتة أكثر من 100 ألف موقع.
ويرى عمر عبد اللطيف، عضو مرصد "العراق الأخضر" المتخصص في شؤون البيئة، أن تأثيرات تغير المناخ على المواقع الأثرية ليست جميعها سلبية، بل هناك تأثيرات إيجابية أيضا. اذ يقول، "ظهر عدد من المواقع الأثرية التي كانت مختفية تحت مياه نهر الفرات في قضاءي هيت وحديثة التابعتين لمحافظة الأنبار غربي العراق، إثر انخفاض مناسيب مياه النهر".
لكن في المقابل، يدعو عبد اللطيف الهيئة العامة للآثار والتراث إلى الاهتمام بالمناطق الأثرية والتراثية المتضررة من تأثيرات تغير المناخ. ويحذر من أن التطرف المناخي في بعض المناطق قد يؤدي الى إصابة آثارها بضرر أكثر مثلما حصل في "طاق كسرى" جنوبي بغداد، إذ انهارت بعض أجزائه بفعل عوامل مناخية، وتجري حاليا عمليات ترميمه وإعادة تأهيله.
وبحسب عالم الآثار العراقي عقيل المنصراوي فإن "الرمال المتحركة، ومع زحفها بكميات كبيرة على هذه المواقع، ربما ستغطي خلال السنوات العشر المقبلة 80% إلى 90% من هذه المواقع" الأثرية في جنوب العراق. ويتابع "سيتعين على البعثات الأثرية (المقبلة) بذل مزيد من الجهد" لتنظيف الأرض قبل البدء بالتنقيب.
إلى جانب تأثيرات تغير المناخ، تتعرض المواقع الأثرية في العراق إلى مخاطر، تشمل عمليات نبش وتنقيب بطرق غير قانونية تؤدي في الغالب إلى تدمير الأثر بهدف سرقة محتوياته.
ويلفت مستشار محافظ ذي قار لشؤون المواطنين، حيدر سعدي، أن هجرة السكان من العديد من المناطق جنوبي العراق بسبب الجفاف، ومنها مناطق أثرية، فسحت المجال أمام العصابات للعبث بها. ويقول، "ينبغي علينا تشديد الإجراءات خاصة في المناطق التي باتت الآن فارغة تماما، قد تكون مهيئة لعمليات النبش وربما النبش لأعماق كبيرة باستخدام الآليات الثقيلة باعتبار أنها بعيدة عن المراقبة، فالتصحر أثر سلبا بشكل واضح على الحماية المجتمعية لهذه الأماكن".
ويشير سعدي إلى الحاجة لتشريعات وإجراءات حكومية محلية أو بالشراكة مع منظمات دولية لحماية هذه المدن والمواقع الأثرية التي قد تكون عرضة للسرقة أو النبش.
أما مدير عام الصيانة في الهيئة العامة للآثار والتراث، محمد حسين أمين، فيقول إن مديرية الصيانة تعمل على حماية المواقع الأثرية. ويشير إلى أن عمليات الترميم والصيانة الدورية التي تقوم بها المديرية تشمل "إصلاح الأضرار التي لحقت بالهياكل الأثرية بسبب عوامل الطقس، وإنشاء مظلات واقية وسقائف لحماية المواقع الأثرية المكشوفة من الأمطار وأشعة الشمس المباشرة".
ويؤكد أمين أن "عمليات الترميم والصيانة تتضمن استخدام مواد حديثة مقاومة للرطوبة والأملاح تتناسب مع بيئة الموقع، إلى جانب إجراء دراسات تقييم الضرر المناخي، لتحديد أكثر المواقع تعرضاً للخطر ووضع خطط لحمايتها".
ووفق أمين، تقدم مديرة الصيانة التدريب المستمر لكوادرها الفنية، لإتقان الأساليب الحديثة في الصيانة واستخدام التقنيات العلمية المتطورة، كما تتعاون في مجال صيانة وترميم الآثار مع العديد من المنظمات الدولية كاليونسكو والآيكوموس، للحصول على دعم فني ومالي لتنفيذ هذه العمليات. ويدعو أمين إلى زيادة التمويل الدولي لحماية التراث الثقافي العراقي من خلال برامج الأمم المتحدة أو الشراكات الثنائية، وإدراج مزيد من المواقع الأثرية العراقية على قائمة التراث العالمي لتوفير حماية دولية ورقابة مستمرة لهذه المواقع.