تداول أسرار الدولة.. يُعد جرماً جنائياً ومجلس النواب أصدر قانوناً عام 2016.. قصة تسريب الوثائق الرسمية في العراق

انفوبلس/ تقرير
بالتزامن مع الانتشار الواسع لوسائل الإعلام الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي، أصبحت الوثائق الحكومية المسربة تنتشر بسرعة غير مسبوقة، مما يزيد من صعوبة احتوائها أو التحقق من صحتها، في وقت تُطرح تساؤلات حول آليات التسريب ودوافعه والتحديات التي تواجه المؤسسات الحكومية في الحد ذلك، ويسلط تقرير شبكة "انفوبلس" الضوء على كل ما تريد معرفته بشأن هذه الظاهرة.
باتت ظاهرة تسريب الوثائق الرسمية واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا في العصر الرقمي، إذ لم تعد تقتصر على الكشف عن معلومات حساسة، بل أصبحت أداة تُستخدم في الصراعات السياسية والتنافس الإعلامي.
تسريب الوثائق الرسمية
بعد العام 2003 بدأ تسريب الوثائق والكتب الرسمية من مكاتب الوزارات لتصبح بين أيدي العامة، وبحسب خبراء فإن التسريب بات سلاحاً للتسقيط السياسي، ويرى صحفيون أن التعاطي مع التسريب أمر مشروع إذا كان يكشف معلومات تهمُّ المصلحة العامة، مع الخوف من تسريبات مزورة لقاء مبالغ مالية أو مصالح شخصية.
وبحسب حديث الخبير في الأمن السيبراني مصطفى الموسوي، فإن هناك عدة طرق وأسباب لتسريب الوثائق الحكومية أبرزها إساءة استخدام الصلاحيات الوظيفية، حيث يقوم بعض الموظفين الذين يمتلكون حق الوصول إلى معلومات سرية بتسريبها عمدًا، إما بدافع الانتقام، أو نتيجة لتأثيرات سياسية، أو حتى بغرض الحصول على مكاسب مالية.
إضافة إلى ذلك، يقول الموسوي إن الاختراقات الإلكترونية تمثل أحد أخطر الوسائل، حيث تستهدف الجماعات المتخصصة في القرصنة الأنظمة الحكومية بهدف سرقة الوثائق السرية، مما يتيح استخدامها لاحقًا في الضغط السياسي أو الابتزاز أو حتى نشر الفوضى وزعزعة الاستقرار.
كما أن الإهمال في التعامل مع البيانات يعد من الأسباب الشائعة للتسريب، إذ يؤدي ضعف إجراءات الحماية في بعض المؤسسات الحكومية إلى تسرب الوثائق بشكل غير مقصود، خاصة عند استخدام وسائل تخزين غير آمنة أو مشاركة الملفات عبر قنوات غير محمية، بحسب الخبير الذي يؤكد أن استخدام تقنيات التشفير الحديثة وتطبيق آليات تتبع الوصول إلى الوثائق يمكن أن يحدّ من هذه التسريبات، إلا أن التحدي الأكبر يظل في التوعية والتدريب الأمني للموظفين لمنع أي استغلال داخلي للمعلومات الحساسة.
ومع كل تسريب، تفتح السلطات العراقية تحقيقاً لكشف المتورطين دون الوصول إلى نتائج فعلية أو وضع حد لهذه الظاهرة التي تهدد الأمن وتعد من أساليب الحرب الباردة، كما تعكس بصورة جلية، مبدأ غياب الدولة، وفقاً لخبراء قانونيين.
فيما وصل الأمر إلى تسريب كتاب صادر عن رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، يتضمن توجيهاً بمنع تسريب الوثائق الرسمية، ما فتح الباب على مصراعيه للتساؤل عن أسباب استفحال ظاهرة تسريب كتب حكومية تتسم بالسرية، بعضها استخباراتية، وأخرى إدارية.
الى ذلك، يعتبر المحلل السياسي مخلد حازم أن نشر الوثائق المسربة في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي يخدم أهدافًا متنوعة، منها التأثير على الرأي العام، حيث تعتمد بعض الجهات على تسريب وثائق حكومية حساسة بهدف توجيه الرأي العام ضد شخصيات سياسية معينة أو إثارة الجدل حول قضايا حكومية، خصوصًا خلال الفترات الانتخابية.
ويضيف، كما تُستخدم هذه التسريبات في بعض الأحيان كورقة ضغط سياسي لإجبار الحكومات على اتخاذ قرارات معينة أو التأثير على مسار التحقيقات في قضايا حساسة. إضافة إلى ذلك، يؤكد حازم أن بعض وسائل الإعلام تسعى إلى تحقيق سبق صحفي من خلال نشر الوثائق المسربة، بغض النظر عن مدى صحتها أو السياق الذي أُخذت منه. كما أن التسريبات قد تُستخدم أيضًا كأداة لتشويه السمعة والإطاحة بالخصوم السياسيين، حيث يتم تسريب معلومات تضر بسمعة شخصيات أو مؤسسات بهدف تحقيق مكاسب سياسية.
ويؤكد حازم أن التسريبات لم تعد مجرد وسيلة لكشف الفساد، بل أصبحت في بعض الحالات أداة للتلاعب بالرأي العام واستغلال الأحداث سياسيًا وإعلاميًا.
لكن الصحفي سامان نوح يقول، إن الصحفيين الاستقصائيين يعتقدون أن من حقهم الوصول إلى الوثائق بالطرق المختلفة، ولو بصيغة مخالفة للقوانين المتعلقة بالحكومات، إذا كان ذلك يخدم المصلحة العامة، مشيراً إلى أن تسريب الوثائق أمر جائز ما دام الهدف الكشف عن شيء يضر الناس، منوهاً إلى أن ذلك حق مكفول دستورياً، سيما أن الدستور يضع مصلحة الأمة فوق كل اعتبار.
ونوح، أشار إلى جزئيتين تمنعان الصحافة التقليدية من التعاطي مع الوثائق المسربة، الأولى؛ تعرُّض الموظف والصحفي للمساءلة القانونية، خاصة إذا كان البحث عن وثائق تتعلق بالاقتصاد أو الأمن القومي، عندها سيتجاوز الصحفي القانون للحصول على وثائق ترى الحكومات أنها تضر بمصالحها.
أما الثانية، أن الموظفين قد يعملون على تسريب وثائق مقابل مبالغ مالية، بالتالي يمكن أن تُنشر كتب غير صحيحة أو مزورة، ولأسباب لا تتعلق بالمصلحة العامة وهذا مقلق بالنسبة للصحفيين بحسب تعبيره.
في السياق ذاته، أشار نوح إلى أن معظم التسريبات الحاصلة بعد 2003 هي عبار عن صراع بين أحزاب ولا تستهدف المصلحة العامة أو خلق رأي عام تجاه حالة معينة، وبسبب ضعف التأثير الإعلامي على النخب السياسية جراء نظام المحاصصة، فإن الإعلام لا يلعب دوراً محورياً في تحريك مسارات اتخاذ القرارات، إذ يوجد معلومات تسربت سابقاً إلى الإعلام، لكن قيمة المعلومة مفقودة، في ظل غياب المتابعة والمحاسبة للمعنيين.
كما أكد على حق الصحفي، بالوصول للتسريبات والتعامل معها وفق الأسس المهنية كالموضوعية، في ظل غياب قانون واضح يدعم الحصول على المعلومة، إلى جانب توجيهات للموظفين بعدم الإدلاء بالمعلومات.
وتسريب الوثائق الرسمية أصبح سلاحًا ذا حدين، فمن ناحية، قد يكشف عن الفساد ويحقق مبدأ الشفافية، لكنه في المقابل قد يُستغل لزعزعة الاستقرار السياسي والأمني. ومع التطور التكنولوجي وانتشار المعلومات بسرعة هائلة، تصبح الحاجة ملحّة إلى تعزيز أمن المعلومات داخل المؤسسات الحكومية، وتطبيق قوانين صارمة لمنع التسريبات، مع توعية الإعلام والجمهور بأهمية التعامل المسؤول مع الوثائق المسربة.
أما الخبير الأمني صفاء الأعسم فيقول إن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت المنصة الأساسية لنشر الوثائق المسربة، حيث يتم تداولها بسرعة هائلة، مما يجعل من الصعب احتواؤها حتى لو تبين لاحقًا أنها مزورة أو غير دقيقة.
ويشير الأعسم إلى أن بعض الوثائق المسربة كانت سببًا في كوارث سياسية وأمنية، مثل التأثير على العمليات العسكرية، حيث أدى تسريب معلومات حساسة خلال الحرب ضد عصابات داعش إلى تمكينها من إعادة ترتيب خططها العسكرية، مما أسفر عن خسائر فادحة. كما أن بعض التسريبات السياسية –والحديث للأعسم- أدت إلى إثارة القلاقل، حيث تسبب نشر وثائق تتعلق باتفاقيات سرية أو مفاوضات حكومية في تفاقم الأزمات الداخلية وأحيانًا حتى في انهيار حكومات. ويرى الأعسم أن الحل يكمن في تعزيز التشريعات التي تعاقب على نشر المعلومات الحساسة دون إذن قانوني، والتعاون مع منصات التواصل الاجتماعي للحد من تداول الوثائق المسربة.
وبحسب حديث سابق لوزارة الداخلية، فإن "الوثائق والكتب الرسمية تمر بسلسلة من المكاتب والموظفين، بالتالي يصعب ضبطها أو السيطرة عليها"، مشيرة إلى محاسبة عدة ضباط ومنتسبين بسبب تسريبهم بعض الوثائق وتسهيلهم للعملية.
من الناحية القانونية، يؤكد الخبير جبار الشويلي أن تسريب الوثائق الرسمية يُعد خرقًا للقوانين التي تنظم العمل الحكومي، وتختلف العقوبات وفقًا لخطورة التسريب، حيث تشمل التوبيخ الإداري أو تخفيض الراتب، إذا كان التسريب غير مقصود أو نتيجة إهمال، كما قد تصل العقوبة إلى الفصل من الوظيفة في حال ثبت أن الموظف قام بالتسريب عمدًا.
وتابع القول، "في الحالات الأشد خطورة، قد يواجه المتورطون ملاحقات جنائية، إذا أدى التسريب إلى الإضرار بالأمن القومي أو المصالح العامة للدولة". إلا أن الشويلي يلفت إلى أن تطبيق هذه القوانين يواجه تحديات في العراق، حيث يكثر تسريب الوثائق نتيجة ضعف الرقابة الداخلية وسوء استغلال بعض الموظفين لصلاحياتهم، مما يتطلب تشديد الإجراءات القانونية والرقابية".
من جهته، يؤكد الخبير القانوني أحمد العبادي أن "تسريب وثيقة حكومية يعد جرماً جنائياً، بغض النظر عن محتوى الوثيقة، والمادة 438 من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1996 المعدل، نصت على عقوبة الحبس لمدة تصل إلى سنة في حال باح الموظف بمعلومات عن حياة الأفراد الشخصية أو معلومات حكومية"، وتصل إلى الإعدام في قانون العقوبات العسكري.
وفي هذا السياق، صوت البرلمان العراقي عام 2016 على القانون رقم (37) "للحفاظ على الوثائق"، بهدف حماية أوراق الدولة المهمة، وصنف القانون الوثائق إلى 3 مستويات:
الوثائق العامة التي يمكن للجميع الاطلاع عليها.
الوثائق الخاصة التي لا يمكن الاطلاع عليها إلا بموافقة الجهات المعنية.
الوثائق السرية التي لا يمكن الاطلاع عليها نهائياً بسبب مساسها بأمن الدولة.
ونوّه العبادي إلى أن العبرة ليست بالقانون بل بتطبيقه، فالمحاسبة تكاد تكون غائبة ولا ترقى لدرجة الفعل.